بحلول منتصف عام 2013، احتاجت فِرق الهلال الأحمر العربي السوري في دمشق إلى تصريح لدخول جميع المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. ونادراً ما كانت الحكومة تمنح الموافقات، وحتى عند الحصول على الموافقات، لم تكن سلامة متطوعي هذه المنظمة مضمونة
08 / آب / أغسطس / 2019
المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة
بعد مرور ثمانية أعوام على الحرب السورية، أصبح الهلال الأحمر العربي السوري المنظمة الرائدة التي توجّه وتنفّذ جهود المساعدات الإنسانية في سوريا. وبموجب الأنظمة التي فرضتها الحكومة، يُقدّر الآن أن حوالي 60% من المساعدات الدولية في سوريا يتم توجيهها عبر الهلال الأحمر العربي السوري. ويبدو أن وكالات الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من المنظمات الإنسانية الدولية قد قبلت الشراكة مع الهلال الأحمر العربي السوري كحل وسط ضروري، وتجنّبت بعناية توجيه انتقادات علنية لهذه المنظمة.
أجرى المركز السوري للعدالة والمساءلة مقابلة مع أربعة متطوعين من الهلال الأحمر العربي السوري الذين عملوا في فرع الهلال الأحمر في دمشق، في فترات مختلفة بين عامي 2007 و2018. وفي هذه الحوارات، أكّد المتطوعون أنه على الرغم من أن العديد من متطوعي الهلال الأحمر قد خاطروا بحياتهم لتقديم المساعدات على الخطوط الأمامية، إلا أنهم واجهوا معوقات وتعرّضوا للخطر بسبب نفوذ الحكومة المتزايد وتغلغلها داخل هذه المنظمة. وفي هذا المقال، يقدّم المركز السوري للعدالة والمساءلة فحصاً دقيقاً لعلاقات الهلال الأحمر العربي السوري مع دمشق، والعواقب طويلة الأجل لشراكة المجتمع الدولي مع هذه المنظمة.
2011-2012: الهلال الأحمر العربي السوري على الخطوط الأمامية
تأسس الهلال الأحمر العربي السوري في عام 1942 واعترفت به اللجنة الدولية للصليب الأحمر رسمياً في عام 1949، ويقع مقره الرئيسي في دمشق ولديه أربعة عشر فرعاً عملت على مدار التاريخ بدرجات متفاوتة من الاستقلال الذاتي في كل محافظة من محافظات سوريا. وحتى قبل عام 2011، استغلت الحكومة السورية هذه المنظمة كآلية للسيطرة على الجهود الإنسانية في سوريا. حيث كان يُشترَط على جميع المنظمات غير الحكومية التي تسعى للعمل في سوريا توقيع مذكرة تفاهم مع الهلال الأحمر العربي السوري، والحصول على موافقة الهلال الأحمر على الأنشطة والدفعات.
وعندما بدأت الاحتجاجات، اتّخذت الحكومة إجراء لضمان الحفاظ على ولاء قيادة الهلال الأحمر العربي السوري للحكومة من خلال تجميد انتخابات الهلال الأحمر إلى أجل غير مسمى في عام 2011. وفي الوقت نفسه، بدأت قوات الأمن والميليشيات الموالية للحكومة تستهدف سيارات الإسعاف التابعة لهذه المنظمة أثناء محاولتها إنقاذ المتظاهرين الجرحى. وبدأت الفِرق المحلية تلقّي تعليمات للحدّ من عملياتها في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة والمناطق المتنازع عليها. وبالنسبة للمتطوعين المحليين، بقيت عملية صنع القرار من مقر قيادة هذه المنظمة مبهمة، لكن التفسيرات التي قدمها المنسقون كانت هي نفسها دائماً: “قيل لنا دائماً أنه إذا لم نفعل ما يقولونه [الحكومة]، فلا يمكننا فعل أي شيء”.
وعندما كانت فِرق الإسعافات الأولية التابعة للهلال الأحمر العربي السوري تصل إلى الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، كانت تتلقى أوامر بنقل الجرحى إلى المشافي الحكومية، حيث تم الإبلاغ عن حدوث انتهاكات واسعة النطاق ضد المرضى. وقد وجد بعض المرضى أنفسهم محرومين من الحصول على العلاج الطبي، بل وتعرّضوا للتعذيب من قبل ممرضين وأطباء. وتعرّض العديد منهم إلى الاعتقال على أيدي قوات الأمن مباشرة من المشافي. وتذكّر أحد المتطوعين أن “الناس كانوا يخشون الذهاب وأحياناً رفضوا الذهاب، ولكن في حالة الإصابة بجروح بالغة تحتاج إلى جراحة، لم يكن لديهم خيار لأن المشافي الحكومية فقط هي التي لديها الموارد اللازمة لعلاجهم، وكنا نتلقّى أوامر صارمة”.
وبحلول منتصف عام 2013، احتاجت فِرق الهلال الأحمر العربي السوري في دمشق إلى تصريح لدخول جميع المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. ونادراً ما كانت الحكومة تمنح الموافقات، وحتى عند الحصول على الموافقات، لم تكن سلامة متطوعي هذه المنظمة مضمونة. وفي إحدى الحالات في عام 2013، ذكر أحد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم كيف أن الحكومة خضعت لضغوط من اللجنة الدولية للصليب الأحمر وسمحت للهلال الأحمر بالوصول إلى منطقة برزة المحاصرة، وهي إحدى أحياء دمشق. وحاولت قافلة الهلال الأحمر الوصول إلى المنطقة ثلاث مرات، ولكن في كل مرة قوبلت بإطلاق نار من مصدر مجهول. وبعد تعرّضها لهجوم ثالث، أجبِرت القافلة على التخلي عن هذه المهمة.
2013: الحكومة تعزّز السيطرة
في نفس العام، ضيّقت الحكومة الخناق على المعارضين داخل الهلال الأحمر العربي السوري. حيث تم إجبار المتطوعين والمنسقين، الذين كان يضغطون من أجل مزيد من الوصول، على الخروج من المنظمة واحداً تلو الآخر، أو تم إلقاء القبض عليهم من قبل قوات الأمن. وكانت إحدى أهم عمليات الاعتقال الناجمة عن ذلك هي اعتقال محمد رائد الطويل، عضو مجلس إدارة الهلال الأحمر العربي السوري ومنسق فرق الإسعافات الأولية الذي اعتقلته قوات الأمن داخل مقر قيادة الهلال الأحمر، وتعرّض للتعذيب أثناء فترة اعتقاله التي دامت عاماً واحداً. وكان الطويل من الشخصيات البارزة الذين طالبوا بمساعدات إنسانية في مناطق المعارضة. وقال أحد المتطوعين للمركز السوري “لقد أحدث تغييراً في الهلال الأحمر العربي السوري. حيث كان معظم العمل المنجز خارج المناطق التي تسيطر عليها الحكومة يتم من خلاله. ولم تتمكن من خلفته في المنصب من فعل ما فعله. فقد عرَفَت أن ما حدث له يمكن أن يحدث لها، لذلك تجنّبت لفت الأنظار وحاولت أن تفعل كما يطلب منها”.
ومع تزايد الاعتقالات وانتشار الشائعات حول تسلل عناصر الأمن، انتشر شعور بعدم الثقة بين المتطوعين. وأخبرت أسرة أحد المتطوعين في الهلال الأحمر، الذي قُبض عليه وتوفي في الحجز في عام 2014، المركز السوري أنه اعتُقل بعد مخالفته أوامر عدم إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة في حمص. وقد تم الإبلاغ عنه، حسبما تعتقد عائلته، من قبل أحد زملائه من داخل المنظمة. وقال أحد المتطوعين “في البداية، كانت هناك قاعدة: إذا أراد أعضاء جدد الانضمام، كان على الآخرين أن يزكّوه شخصياً. وكان هناك جو من الثقة بين الفريق. [لكن] هذا تغير في عام 2013”.
وبحلول عام 2014، أظهرت مذكّرات الحكومة السورية التي حصل عليها المركز السوري للعدالة والمساءلة كيف أن أجهزة المخابرات كانت تُصدِر أوامر واضحة لفروعها للعمل بتنسيق وثيق مع الهلال الأحمر العربي السوري “لتنظيم توزيع المساعدات الطبية إلى هذه المناطق [الواقعة تحت سيطرة المعارضة] واختيار أنواع المساعدات التي يُسمح بإيصالها”. وتشير وثائق أخرى إلى شكاوى الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى الحالات التي قام فيها أفراد الأمن باستجواب واحتجاز متلقّي المعونة مباشرة من مراكز توزيع المساعدات. وفي مقابلة مع هيومن رايتس ووتش، ذكر متطوع سابق في الهلال الأحمر العربي السوري أنه شهد حالات عديدة تعاون فيها ضباط المخابرات مباشرة مع موظفي الهلال الأحمر لسرقة إمدادات إنسانية. وعلى غرار ذلك، عندما دخل أحد موثّقي المركز السوري للعدالة والمساءلة إلى المرافق التي تم هجرها مؤخراً لشعبة الأمن السياسي في عام 2015، وجد العشرات من صناديق المساعدات المصادرة مختومة بشعارات اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر العربي السوري.
وليس من الواضح ما إذا كان الرئيس السابق للهلال الأحمر العربي السوري، عبد الرحمن العطار، وبعض أعضاء مجلس الإدارة قد رفضوا أوامر الحكومة وتدخل القطاع الأمني، وإلى أي درجة حدث ذلك. وكان الاعتقاد السائد لدى العديد من المتطوعين هو أنه بينما أراد المتطوعون أنفسهم أن يكون الهلال الأحمر محايداً، فإن القيادة في المقر الرئيسي كانت متحالفة مع الحكومة. ومع ذلك، فقد أُجبر العطار على الاستقالة في عام 2016 – يعتقد البعض أن السبب وراء ذلك أنه لم يرضخ بما يكفي لمطالب الحكومة. وأما خليفته ورئيس الهلال الأحمر العربي السوري الحالي، خالد حبوباتي، فهو رجل أعمال بارز مقيم في دمشق ولديه صلات وثيقة بالحكومة، وكان حماه هو الرئيس السابق لمجلس الأعمال في دمشق.
In addition to government documents released by SJAC, this video taken by members of our documentation team shows boxes of @ICRC and @SYRedCrescent humanitarian aid stored in a political security branch building, clearly diverted from those in need. https://t.co/HDZKAanVxw pic.twitter.com/C4iGpkoZ0o
— Syria Justice and Accountability Centre (@SJAC_info) August 7, 2019
تكلفة التسوية
مع بدء جهود إعادة الإعمار في أغلب مناطق سوريا، سيكون لانحياز وفساد أكبر موزع للمساعدات عواقب طويلة الأجل. ففي المناطق التي استعادتها الحكومة، تستغل دمشق سيطرتها على الهلال الأحمر لمعاقبة السكان غير الموالين. وفي درعا والقنيطرة، على سبيل المثال، تم حل أو نقل جميع منظمات المجتمع المدني العاملة بين عامي 2012 و2018، ثم تم استبدالها بالهلال الأحمر السوري بعد أن استعادت الحكومة السيطرة. وعندما بدأ الهلال الأحمر في توزيع المساعدات التي تبرع بها برنامج الأغذية العالمي في مطلع عام 2019، اتهم السكان المحليون هناك الهلال الأحمر برفض تقديم المساعدة لأولئك الذين لهم صلات بجماعات المعارضة، على الرغم من اتفاقات المصالحة المعمول بها. ويبدو أن أحد موظفي الهلال الأحمر الذين قابلتهم منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة اعترف بوجود سياسة من هذا القبيل، قائلاً: “إنه إجراء روتيني تطلبه الإدارة. نكتب كلمة (أمن) بجانب أسماء المطلوبين لفروع الأمن، مما يعني أنه يجب عليه/عليها زيارة فرع الأمن لإجراء تحقيق روتيني ومن ثم يحق له/لها الحصول على السلة الغذائية”.
ونظراً للأنظمة الحكومية التي تُجبر المنظمات الإنسانية الدولية على الاعتماد على شركاء محليين، فإنه لا يوجد لدى هذه المنظمات سوى النذر اليسير من الآليات لمنع هذه الممارسات التمييزية من جانب الهلال الأحمر. وفي شراكته مع وكالات الأمم المتحدة، على سبيل المثال، يتكفل الهلال الأحمر بجميع عمليات التنفيذ والتوزيع والإبلاغ. ولا يمكن للشركاء الدوليين إجراء زيارات ميدانية لمراقبة المشاريع دون موافقة مسبقة من الهلال الأحمر وتصاريح تنقّل من وزارة الخارجية. وفي النهاية، أخبر أحد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم المركز السوري للعدالة والمساءلة أن “الهلال الأحمر يقرّر نوع المعلومات التي سيقدمها للمنظمات. وفي كثير من الحالات، لا يتم التحقّق من صحة تلك المعلومات من مصادر مختلفة”.
أخيراً، لقد اتخذت المنظمات الإنسانية الدولية تدابير غير كافية لحماية متطوعي الهلال الأحمر العربي السوري الذين تدعمهم على الأرض.أحد متطوعي الهلال الأحمر العربي السوري الذين عملوا طوال حصار الغوطة الشرقية ، في حي حرستا ، أخبر المركز السوري للعدالة والمساءلة أن وحدته بدأت في تلقي الرواتب والأموال من الإمدادات اللوجستية من اللجنة الدولية للصيب الأحمر. في عام 2017 (قطع الهلال الأحمر العربي السوري التمويل عن الوحدة بعد بدء الحصار) على الرغم من دعم اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، عندما انتهى الحصار في عام 2018 ، أخبر مقر الهلال الأحمر العربي السوري المتطوعين في حرستا بأنهم “لا يضمنون” سلامتهم. دون حماية ، فر الكثيرون إلى إدلب إلى جانب من تم إجلاؤهم. “لم تفعل اللجنة الدولية للصليب الأحمر أي شيء لضمان سلامتنا أو أمننا في الغوطة” ، كما يقول الشخص الذي تمت مقابلته ، وكان من بين من فروا. استمر زملاؤه الذين اختاروا البقاء في تلقي رواتب من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. من بينهم شخص إعتقلته الحكومة لستة أشهر ثم أرسلته لإكمال خدمته العسكرية الإلزامية.متطوع آخر تم اعتقاله فيما لا يزال قيد الإعتقال حتى يومنا هذا.
الحاجة إلى النقد واتخاذ إجراء
في عام 2016، انسحبت أكثر من 70 مجموعة إغاثة في سوريا، بما في ذلك الدفاع المدني السوري والجمعية الطبية السورية الأمريكية، من اتفاقية لتبادل المعلومات مع الأمم المتحدة، قائلة بأن “وكالات الأمم المتحدة الموجودة في دمشق وشريكها الرئيسي، الهلال الأحمر العربي السوري، تقوم باتخاذ القرارات النهائية، المتأثرة بالنفوذ السياسي للحكومة السورية”. ولسوء الحظ، لم تفعل المقاطعة الكثير لوقف تأثير الحكومة المتزايد على الهلال الأحمر العربي السوري، وتأثيره المتزايد على المساعدات الإنسانية في سوريا.
يدعو المركز السوري للعدالة والمساءلة المنظمات الإنسانية الدولية ومانحيها إلى بذل المزيد من الجهد لرفض الفساد والتحيّز في الهلال الأحمر العربي السوري. ويشمل ذلك مقاومة الشروط التطفلية التي يفرضها الهلال الأحمر العربي السوري التي أعاقت قدرة الجهات الدولية الفاعلة على الالتزام بالمبادئ الإنسانية في سوريا. وفي الوقت الذي تحوّل فيها ملايين الدولارات من المساعدات إلى الهلال الأحمر، يمكن للمنظمات الإنسانية الدولية، بل وينبغي عليها، أن تدين الممارسات الفاسدة أو التمييزية التي تنفّذها هذه المنظمة. وعلاوة على ذلك، تتحمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر مسؤولية أساسية في حماية موظفي الهلال الأحمر العربي السوري الذين تحتجزهم أو تهددهم الحكومة السورية، ومناصرتهم لأقصى درجة ممكنة. وحتى تاريخه، لقي أكثر من 60 متطوع من الهلال الأحمر العربي السوري حتفهم أثناء تقديم المساعدة المنقذة للأرواح في مختلف أنحاء سوريا. ويستحق عملهم التقدير، لكن لا يمكن للمجتمع الدولي أن يسمح باستخدام تضحياتهم بازدراء لحماية الهلال الأحمر العربي السوري من النقد واعتراف ضروري بانحيازه المتزايد.