منذ بداية الثورة السورية، قاتلت الميليشيات الإيرانية، إلى جانب قوات الأسد، تحت بند “حماية المزارات الشيعية”، التي يقصدها الإيرانيون وغالبية الشيعة منذ عقود، حيث بدا ذلك واضحاً من خلال مناطق توزع تلك المليشيات على الأراضي السورية، ونقاط ارتكازها
13 / كانون الثاني / يناير / 2020
المصدر: السورية نت
في دوراته الثلاث الأخيرة في أعوام 2017 و2018 و2019 هيمنت الشركات الإيرانية على معرض “إعادة إعمار سورية”، والذي ينظَّم بشكل سنوي من قبل مؤسسة (الباشق)، التابعة لنظام الأسد في مدينة المعارض بدمشق. الهيمنة كانت لافتة، قياساً بحجم المشاركة من قبل الشركات الروسية، وباقي الشركات التي تمت دعوتها من بلدان ودول مختلفة.
تنوعت المجالات التي دخلت بها الشركات الإيرانية، لكنها صبّت بالمجمل في مجال آليات ومواد البناء والتقنيات العمرانية وبناء الوحدات السكنية، إلى جانب أخرى مختصة في مجال خدمات التأمين والتطوير العقاري.
وبموازاة الانخراط الكبير لها (الشركات الإيرانية) في تحركات “إعادة الإعمار”، خرجت على العلن تصريحات رسمية من طهران، أعلنت الدخول بشكل رسمي في “إعادة إعمار سورية”، من خلال إبرام اتفاقيات مع حكومة نظام الأسد، تفضي ببناء وحدات سكنية وضواحي، في مختلف المناطق، وبشكل أساسي في العاصمة دمشق، كان أبرزها الموقعة في مطلع عام 2019، والتي جاءت تحت بند “اتفاقيات تعاون اقتصادي طويلة الأمد”.
انخراط الشركات الإيرانية، وإبرام الاتفاقيات، كان قد رافقه ومهّد له تصريحات رسمية من حكومة نظام الأسد، أكدت أن الأولوية في عقود مشاريع إعادة الإعمار في سورية، ستعطى للشركات الإيرانية، سواء كانت على المستوى الحكومي، أو على مستوى القطاع الخاص.
وزير الأشغال العامة والإسكان في حكومة النظام يلتقي مع رئيس غرفة تجارة وصناعة إيران، لبحث اتفاقيات الإسكان والمشاريع الاستثمارية- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 (سانا)
ما سبق يطرح تساؤلات حول الأهداف التي تسعى من ورائها طهران، للدخول في عملية إعادة الإعمار في سورية، بشكل منفرد، وخاصةً في مجال بناء الوحدات السكنية، والركائز التي ستعتمد عليها في ذلك، ولاسيما في ظل العقوبات الغربية المفروضة على هذا المسار.
وعلى الجانب المقابل تأخذ التساؤلات منحى آخراً، يتعلق بالطرف الروسي، والأسباب التي تدفعه للإحجام عن الدخول بإعادة الإعمار وبناء ما دمرته الحرب في السنوات الماضية، والغاية التي يريدها من إفساح المجال للجانب الإيراني للعب دور أكبر في العملية (إعادة الإعمار)، خاصةً في ظل “مباركة” رسمية من قبل نظام الأسد.
برامج تخطيط أولي لاغتنام الفرصة
تشير تطورات الأحداث إلى أن تحركات طهران للدخول في عملية “إعادة الإعمار” في سورية، لم تكن من بوابة معرض “إعادة الإعمار” بدوراته الخمس فقط، بل تم التخطيط لها منذ عام 2016، أي عقب 4 سنوات من العمليات العسكرية في سورية، وبعد عام من التدخل الروسي العسكري والسياسي في الملف السوري.
عام 2016، وفي تصريح لرئيس لجنة الشورى في مجلس الشورى الإيراني، أمير خجسته، قال إن بلاده بدأت بوضع خطط لإعادة الإعمار في سورية، وخلال مقابلة مع رئيس مجلس الشعب التابع للنظام، محمد جهاد اللحام، في الثالث من أبريل/ نيسان 2016، أضاف المسؤول الإيراني أن “انتصار سورية بات قريباً، لذا بدأت إيران بوضع برامج لإعادة الإعمار”.
البرامج التي تحدثت إيران عن وضعها لإعادة الإعمار، جاءت في الوقت الذي كانت تعزز فيه انتشار قواتها، في منطقة السيدة زينب قرب دمشق، وصولاً إلى أطراف الغوطة الشرقية، وفي محيط مطار دمشق الدولي، إضافةً إلى مواقع في مدينة حلب، ومحافظة دير الزور من المدينة وحتى البوكمال في أقصى الجنوب الشرقي.
الأحداث تسارعت بشكل تدريجي على المستويين السياسي والعسكري مع دخول عام 2016 والفترة التي تلته، لكن التطورات الخاصة بالجانب الاقتصادي في سورية، كانت “حجر الأساس”، إذ بدأ حلفاء الأسد، بإبرام الاتفاقيات، والاستحواذ على المقومات الاقتصادية في سورية، برضىً وموافقة غير مشترطة من جانب نظام الأسد، في مشهد تقاسم بات جلياً وبشكل رسمي وواضح.
عملية التقاسم اختلفت بين الحليفين (الروسي، والإيراني)، فبينما اتجه الروس للسيطرة والاستحواذ على القطاعات الكبرى والغنية من موانئ ومعامل الطاقة والسدود، وغيرها من مناجم الفوسفات وشركات الأسمدة وابتعدوا عن مشاريع “إعادة الإعمار”، دخلت إيران في قطاعات يمكن اعتبارها “فقيرة”، بمعنى أنها تحتاج لكميات كبيرة من الأموال، ويتطلب تأهيلها والدخول بها أمداً طويلاً، حتى الوصول إلى عملية الإنتاج وجني الأرباح والفواتير، كالقطاعات الخاصة بالكهرباء، والتي دخلت فيها بعدة اتفاقيات، وإلى جانبها قطاع إعادة الإعمار، من بناء الضواحي السكنية، والتي تحدد عددها بـ200 ألف وحدة سكنية، وفق ما صرح نائب رئيس جمعية المقاولين في طهران، إيرج رهبر، لوكالة “فارس”، في فبراير/شباط 2019، إلى جانب مد الجسور وإنشاء معامل البناء والمواد الأولية.
وجاءت الاتفاقيات المبرمة بين طهران ونظام الأسد بشأن “إعادة الإعمار”، على عدة فترات، في الفترة الممتدة من عام 2017 وحتى عام 2019، والذي شهد توقيع أبرزها في الأول من شهر يناير/كانون الثاني 2019، إذ وقعت حكومة النظام اتفاقية تعاون اقتصادي “طويلة الأمد” مع إيران، في مختلف المجالات الاقتصادية. ووفق ما نقلت أنباء نظام الأسد (سانا)، حينها، فإن الاتفاق تم توقيعه “بالأحرف الأولى”، في 30 يناير/كانون الأول عام 2018، بين وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، محمد سامر الخليل، ووزير الطرق وبناء المدن الإيراني، محمد إسلامي.
ويشمل مشروع التعاون “طويل الأمد” قطاعات اقتصادية عدة؛ أبرزها قطاع المصارف والمالية والبناء وإعادة الإعمار، فيما تحدث وزير الاقتصادي بحكومة النظام، أن الاتفاقية سوف تسهم بشكل كبير في تسهيل التبادلات التجارية بين النظام وإيران، بالإضافة إلى تقديمها تسهيلات للشركات الإيرانية في مجال إعادة إعمار سورية والاستثمار على أراضيها.
توقيع الاتفاق المذكور، سبقه زيارة لوفد إيراني إلى دمشق، وبحسب ما ترجمت “السورية.نت” عن مواقع إيرانية، مثّل الوفد أربع شركات مدنية، وإنشائية، ونفطية وحديدية، واقترح إنشاء مصانع لإنتاج مواد البناء في سورية، مشيراً إلى أن الشركات “الخاصة” تعمل تحت رعاية “مؤسسة المستضعفن”، والتي تعرف بالفارسية “بنياد مستضعفان”، وهي تابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” والمرشد الأعلى.
وفي سياق ما سبق، كانت وكالة “فرانس برس” قد نقلت عن رجل الأعمال الإيراني، مهدي قوّام، وهو مالك شركة “مسكن عمران” المتخصّصة بالبناء قوله: “سنستفيد من فرصة وجود الإيرانيين هنا لنعيد بناء سوق أقوى ونصنع مساكن للسوريين المتضررين خلال الحرب”، مضيفاً في أثناء حضوره لمعرض “إعمار سورية 2018”: “لنسهّل عملية إدخال المنتجات الإيرانية الخاصة بشركتنا إلى سورية”.
الاستثمار بالطبقة الفقيرة.. “ورقة ضغط”
ما الهدف التي تسعى لتحصيله إيران من الدخول في بناء الضواحي السكنية في سورية، ولماذا تولي طهران لهذه العملية أهمية قياساً بغيرها من القطاعات، وما هي الطرق التي ستتبعها لتنفيذ هذه المشاريع، سواء عن طريق الشركات الخاصة التي كانت حاضرة في مؤتمر “إعمار سورية” بجميع دوراته، أو من خلال شخصيات قد تسلك طرقاً التفافية.. أسئلة ناقشها موقع “السورية.نت” مع المحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم.
ويقول الكريم، إن الروس سيطروا على استثمارات كبيرة في سورية، كان الإيرانيون يطمحون للاستحواذ عليها، كالموانئ في المتوسط، وقطاعات الطاقة، الأمر الذي دفعهم للتوجه إلى السيطرة على المؤسسات الصغيرة جداً، والقطاعات الأخرى، بينها الخاصة بإعادة الإعمار، وبناء الوحدات السكنية.
ويوضح الكريم أن الاستثمار الروسي في سورية، هو استثمار مافيوي يقوم على نقطتين: الأولى بتفكيك الدولة وإعادة تركيبها من أجل الحصول على الولاء، بينما النقطة الثانية تركّز على الاستثمار في القطاعات الجاهزة، والتي تدر أموالاً مباشرة، ولا تحتاج لأموال كبيرة، كالفوسفات والموانئ.
الاستثمار المافيوي الروسي في سورية، وحرص طهران على عدم خسارة الروس والصدام معهم في القطاعات الاقتصادية، بحسب الكريم، دفعهم للتوجه إلى الاستثمارات الخاصة بالطبقة الفقيرة المهمشة في سورية، والتي لا تهتم بها روسيا، وهنا تكسب إيران عدة أوراق، وفق الباحث؛ بينها الحاضنة الشعبية المندرجة في الطبقة الفقيرة، والتي ستشكّل عنصر ضغط على نظام الأسد مستقبلاً في حال أي تحرك، وبالتالي ضمان ولائهم.
ويشير الكريم إلى أن “إيران تهدف إلى تلبية احتياجات الطبقة الفقيرة بالحد الأقصى وكسب ولائهم، لكي تكون هذه الطبقة مجموعة مشاغبة في المستقبل، وفي حال أي التفاف سياسي، ستتحرك هذه المجموعات، وحينها يجب إرضاء إيران لإيقافها”، وقارب الباحث هذه العملية بما عملت عليه إيران في لبنان من خلال “حزب الله” والعراق كـ”كتلة الصدر” وفي اليمن “الحوثيين”.
الكريم يرى أن إيران تحاول الدخول في سورية، بالأمور التي تهم حياة الناس، في خطوة لكسب ولائهم، وهو ما يحصل في حمص والساحل السوري ودير الزور، ومحيط دمشق.
من جانب آخر يرى الباحث أن “الاستثمار بالضواحي السكنية، يعتبر استثماراً غير مجدي اقتصادياً، لأسباب منها الدفع بالتقسيط للحصول على منزل في ظل عملة شبه منهارة، وهذا الأمر سيكون على فترة طويلة من الزمن، ويحتاج إلى تجميد أموال ضخمة.. هو أمر تقوم به الدول لخدمة المواطن وليس الربح”.
“بؤر اضطراب مستمر”
في إطار الخطوات التي تسير فيها إيران، لبناء الضواحي السكنية في سورية، وبعد تحقيق الولاء للحاضنة الشعبية التي ستقطن في الوحدات السكنية، تكون قد شكّلت “بؤر اضطراب مستمر”، بحسب الباحث الاقتصادي.
ويوضح الكريم أن “إيران سيكون لها الدور الأكبر في إدارة المجمعات السكنية، وبالتالي اليد الطولى في التغيير الإيديولوجي، والذي يفرض تبعاته على اللغة والثقافة”، مشيراً “الاتفاقيات المبرمة مع نظام الأسد ستعطي الإدارة الكاملة للشركات الإيرانية، بمعنى أن نظام الأسد أعطى طهران فرصة إنشاء المدن وإدارتها أيضاً”.
ورغم الحديث الذي دار في العامين الماضيين، عن شروع الشركات الإيرانية بعملية إعادة الإعمار، إلا أن الأمر لم يتم تأكيده على الأرض بشكل واضح، وخاصة في العاصمة دمشق، ومحيطها، وصولاً إلى الغوطة الشرقية.
وبحسب ما قال مصدر من محافظة ريف دمشق لـ”السورية.نت”، فإن شركات إيرانية عرضت الدخول بمشاريع إعادة إعمار في سورية، وخاصة في المشاريع التي يتم العمل عليها في منطقة المزة – خلف الرازي (ماروتا سيتي)، إلا أنها لم تبدأ التنفيذ على الأرض، نافياً المعلومات التي نشرت عن دخولها بشكل رسمي.
وبحسب المصدر، يقتصر عمل الشركات الإيرانية في دمشق في الوقت الحالي، على استطلاع المناطق المدمرة فقط، بين الفترة والأخرى، من خلال وفود وخبراء اقتصاديين.
وبحسب ما تم رصده على موقع “غرفة تجارة دمشق” و”غرفة صناعة دمشق”، لم يتم الإعلان عن البدء بأي مشروع من قبل الشركات الإيرانية، فيما نشرت “غرفة تجارة دمشق” في 27 مارس/آذار الماضي، إعلاناً جاء فيه أن “شركة hooman polymer ” الإيرانية ترغب بإقامة علاقات تجارية، وعلى السادة المهتمين التواصل مع الغرفة”.
ويوضح الكريم أن “إيران لم تدخل في دمشق باستثمارات، بل دخلت في الريف البعيد عن دمشق، لأن العاصمة مغلقة لأي مشروع استثماري، وذلك في إطار مشروع تحويلها إلى إقليم دمشق الكبرى، كخطوة لأن تكون ملاذاً ضريبياً آمناً”.
ويقول الكريم إن “هدف إيران هو التحكم بالجغرافية، من أجل كتابة التاريخ ورسم وضمان المستقبل”، مشيراً إلى أن طهران دخلت بمشروع بناء 30 ألف وحدة سكنية، للحصول على وحدات جغرافية، وتحاول حالياً التحرك إلى بادية حمص، وهو مشروع قديم جداً، كانت تخطط له في وقت سابق.
ماذا عن المدن الثلاث؟
عقب إبرام اتفاقيات إعادة الإعمار بين إيران ونظام الأسد بفترة لم تتجاوز شهر، كان من الملاحظ الإعلان عن بدء مشاريع تجمعات سكنية في سورية، وبشكل خاص في ريف دمشق، بينها مشروع “زيتون سيتي” على طريق دمشق- حمص، من قبل ما يسمى بـ”تجمع سورية الأم”، والذي تأسس في سورية في عام 2016، ليكون المدينة الثالثة المعلن عنها في دمشق، بعد “ماروتا سيتي” و”باسيليا سيتي”.
وطرح هذا التجمع مشروعه، خلال فعاليات المؤتمر الاقتصادي الثاني الذي أقامه، في 22 يناير/كانون الثاني 2019، أي بالتزامن مع إبرام اتفاقية التعاون الاقتصادي بين نظام الأسد وإيران “طويلة الأمد”، وبحسب ما قال رئيس “تجمع سورية الأم”، محمود العرق، حينها لوسائل إعلام موالية لنظام الأسد، فإن كلفة المشروع تصل إلى مليارين ونصف المليار دولار أمريكي، وإن هناك مجموعة من الشركات الصينية والروسية أبدت استعدادها لتنفيذ المشروع.
لكن صحيفة “المدن”، نشرت تقريراً، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، قالت فيه إن مشروع “زيتون سيتي”جزء من مشروع “غرفة التجارة السورية-الإيرانية”، ونقلت عن مصادر قولها إن نظام الأسد يقوم بمسح سكاني مجهول الهدف للقطاع الجنوبي من العاصمة دمشق ومحيط حي السيدة زينب، ومن المفترض نقل السكان من المنطقة إلى “زيتون سيتي”، فور إنجازه.
وأضافت المصادر التي نقلت عنها “المدن”، أنه سيكون ثلث سكان زيتون من المسلمين السنة، وثلثان من الشيعة خاصة من بلدتي نبل والزهراء.
وبحسب المحلل الاقتصادي، يونس الكريم: “حاول نظام الأسد الحصول على أموال من إيران لتمويل ماروتا سيتي، على شكل قروض، لكن طهران رفضت الدخول بالمشاريع الاستثمارية، كونها تحتاج إلى أموال ضخمة، وبسبب المخاطر الكبيرة المتعلقة بها”.
وأشار الكريم إلى أن دخول إيران بالاستثمارات التي تم الحديث عنها في سورية، يتم من خلال عدة شركات ومؤسسات دينية، بينها مؤسسة “خاتم الأنبياء”، التي ينضوي تحتها أكثر من 853 مؤسسة تعمل في الطاقة والاتصالات والإعمار.
“تحالف مصلحي”.. روسيا وإيران وإمكانية الصدام
رغم أن تطورات الأحداث في الملف السوري، تُظهر وجود تحالف بين البلدين الحليفين لنظام الأسد، روسيا وإيران، إلا أن مواقف عدة أخفت وراءها صداماً روسياً- إيرانياً، إذا ما تحدثنا عن المجال الاقتصادي خصّيصاً، الذي أصبح على طاولة التقاسمات، لاعتباراتٍ سعت من خلالها الدولتان إلى تحصيل فاتورة تدخلهما العسكري إلى جانب قوات الأسد، وقلب الموازين لصالحها.
وفي معرِض الحديث عن ملف إعادة الإعمار، الذي تسعى روسيا إلى قيادة دفته، عبر إقناع المجتمع الدولي بالمشاركة في إعمار سورية، بدت التفردات الإيرانية في المشاريع السكنية، وكأنها بدايةٌ لتنافسٍ خفيّ بين إيران روسيا، من أجل الاستحواذ على عقود الاستثمار في مجال الإسكان وإعادة الإعمار، في ظل رفض دولي للخضوع للرغبات الروسية.
وفي هذا الإطار، يرى الباحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، أن توصيف العلاقة بين روسيا وإيران في سورية “لا تتعدى كونها علاقة تعاون مصلحية ظرفية، لا ترقى لأن تكون بمثابة علاقة تحالف بين الدولتين”، على حد تعبيره، وذلك على اعتبار أن كلا الطرفين استفاد من المزايا التي يتمتع بها، لتحقيق الانتصار ضد معارضي النظام، وكان لكل منهما طموحاته العسكرية والسياسية والاقتصادية في سورية.
العبد الله قال في حديث لـ”السورية نت”، إنه بالرغم من الكلفة المادية الكبيرة التي وضعتها إيران لقاء تدخلها في سورية، تمكنت موسكو من التفرد بالفرص الكبرى في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، ما دفع طهران إلى محاولة الاستئثار بما تبقى من الفرص التي لم تطالها الأيادي الروسية، ومنها قطاع الإسكان، وذلك من خلال توقيع مذكرات تفاهم مع حكومة النظام، وتنفيذ تلك المشاريع بالتشارك مع المؤسسات والشركات الحكومية التابعة له، بهدف منحها شرعية أكبر في المستقبل.
فلاديمير بوتين يستقبل حسن روحاني في موسكو (رويترز)
وما يدفع روسيا إلى غض الطرف عن التفردات الإيرانية في مجال الإسكان، هو إدراكها تماماً أن مثل هذه المشاريع تحتاج لتمويل كبير ليس لدى طهران القدرة على تحمله، كونها خاضعة لعقوبات دولية، إلى جانب فرض عقوبات دولية مشددة على جميع الكيانات والأفراد ذوي الصلة بأي مشاريع إعادة إعمار في سورية.
ومع ذلك، يرى العبد الله، أن موسكو غير قادرة على الحد بشكل كامل من النفوذ الاقتصادي لإيران في سورية، لأسباب ترتبط بالكلفة الكبيرة التي ستتكبدها موسكو، إلى جانب التوغل الإيراني في المجتمع السوري، وبناء أذرع محلية في جميع المناطق السورية.
وأضاف: “موسكو ليست راغبة بمواجهة أذرع إيران الاقتصادية داخل سورية، وتسعى للتخفيف من حدة التوترات معها، بعد أن بات الوجود العسكري الإيراني مهدداً داخل سورية، من قبل الأطراف الفاعلة في الملف السوري، وكونها تعيش حالة عزلة سياسية في الوقت الحاضر”، وتابع: “تعوّل موسكو على أن تقليص النفوذ العسكري لإيران في سورية سيكون له تأثير مستقبلي مرحلي على تقليص أذرع إيران، وزيادة كلفة التواجد الاقتصادي الإيراني في سورية”.
هل تستطيع إيران دخول مجال الإسكان؟
في وقت أبدت فيه طهران استعدادها وإقبالها الكاملين للانخراط في مشاريع سكنية ضخمة في سورية، تُطرح تساؤلات عدة حول الركائز التي تعتمد عليها إيران للدخول في مشاريع كهذه، في ظل عجز مالي داخلي يعاني منه الاقتصاد الإيراني عموماً.
الباحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، يرى أن الركائز التي تعتمد عليها إيران للدخول في مشاريع الإسكان، هي الأذرع الاقتصادية التي تسعى لتوطيدها داخل سورية، حيث تنتشر تلك الأذرع في المدن السورية الكبرى، وتتكون من رجال الأعمال وأصحاب الشركات وموظفين في المؤسسات والوزارات.
وأضاف، أن هذه الأذرع “ساعدت على توغل النفوذ الإيراني، من خلال مصادرة العقارات واستملاكها لصالح أفراد وشركات مشتركة إيرانية سورية، معنية بالبنى التحتية والسكن الاجتماعي، مستغلة حالة الفقر التي يرزح تحتها القسم الأكبر من السكان، وقبولهم بالثمن المرتفع لعقارتهم”.
وكذلك ترتكز إيران على تصريح حكومة الأسد الرسمي لها، وتقديمها تسهيلات كبيرة للشركات الإيرانية في هذا القطاع، مع وجود اتفاقية تعاون اقتصادي استراتيجي طويلة الأمد بين البلدين، موقعة نهاية عام 2018، وتأسيس شركة إنشائية مشتركة لتنفيذ مشاريع إعادة إعمار سورية، والتي ستغطي كافة المحافظات.
إلى جانب ذلك، يخضع قطاع الإسكان في إيران بشكل مباشر وغير مباشر لنفوذ “الحرس الثوري”، والذي يمارس بحسب الباحث، تأثيراً كبيراً على الشركات الإيرانية الخاصة للتوجه، إلى سورية والاستثمار في هذا القطاع، على الرغم من عدم وجود أفق واضح لمستقبل هذه الاستثمارات في ظل حالة عدم الاستقرار، وعدم ضمان حماية مصالحهم بعد انتهاء النزاع، بحسب ذات الباحث.
ويضيف العبد الله: “لكن طهران تأمل في حال انتهاء النزاع أن تكون الرافد الأساسي لإعادة إعمار هذا القطاع، مع وجود عشرات ألاف المنازل والمنشآت والبنى التحتية المدمرة، لكونها أكبر منتج للإسمنت والحديد في منطقة الشرق الأوسط”.
أما بالنظر لإمكانيات إيران الاقتصادية، يرى محمد العبد الله، أن طهران غير قادرة على تقلد دور الممول للمشاريع في قطاع الإسكان السوري، كونها تعاني من عجز مالي بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها.
وأضاف أن اعتماد إيران سيكون مُنصبّاً بشكل كبير على القطاع الإيراني الخاص، لتمويل مشاريع كهذه، والذي يعاني هو الآخر من وطأة العقوبات الدولية، وتابع: “الكلفة الباهظة لمثل هذه المشاريع، والعقوبات الأمريكية المفروضة على أي كيان يتعامل مع مشاريع إعادة الإعمار في سورية، سيُبقي مشاريع الإسكان على قائمة الانتظار”.
ومع ذلك، فإن توقيع إيران مذكرات تفاهم رسمية مع حكومة النظام يبقى بمثابة طمأنة لطهران، لحصولها على موطئ قدم في عملية إعادة الإعمار، حال التوصل إلى حل سياسي متفق عليه، بحسب العبد الله، موضحاً أن طهران تعمل على تسخير أذرعها الاقتصادية في سورية، من خلال تأسيس شركات سورية جديدة، أو شركات لمستثمرين خليجيين في قطاع الإنشاءات، والدفع بوجوه جديدة إلى الساحة الاقتصادية السورية، بهدف الالتفاف على العقوبات والمضي قدماً بتنفيذ مشاريعها السكنية، وذلك بعد انكشاف صلة العديد من رجال الأعمال السوريين بطهران، وبالتالي إدراجهم في قوائم العقوبات الدولية.
الجانب العقائدي حاضر في مشاريع الإسكان
بالتوازي مع الدوافع الاقتصادية لإيران في سورية، تبرز دوافع مذهبية لا يمكن التغاضي عنها، باعتبارها ذريعة استندت عليها طهران في تدخلها وقتالها إلى جانب قوات الأسد، منذ سنوات، حين أرجعت تدخلها في سورية إلى “حماية المقامات” التي يقصدها الشيعة من مختلف أنحاء العالم.
وتعليقاً على ذلك، يرى الباحث السوري محمد العبد الله أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار، وجود دوافع مذهبية لإيران تظهر جلية في جميع مشاريعها الاقتصادية في سورية، سواء من ناحية مناطق تنفيذ المشاريع أو المستفيدين منها، وبالتالي فهي تستهدف استخدام مشاريع إعادة الإعمار، كمدخل للقيام بتغيير ديمغرافي ممنهج في بعض المناطق السورية.
وأضاف “يمكن اعتبار المشاريع السكنية التي تنوي طهران الشروع بتنفيذها في سورية، أحد مداخلها لتحقيق هذا الهدف، وكسب قاعدة شعبية أكبر في أوساط المجتمع السوري، وتجربتها في كل من لبنان والعراق خير دليل على ذلك، من خلال وجود ضواحٍ محددة في المدن الكبرى، يقطنها الموالون لها، وتعد هذه الضواحي بمثابة داعم قوي لها داخل هذه المجتمعات”.
ومنذ اندلاع الثورة السورية بدا واضحاً هذا التوجه المذهبي لدى إيران، من خلال تغلغل قواتها في سورية، بحجة الدفاع عن المقدسات الدينية، وتكوينها ميليشيات طائفية أسهمت بشكل كبير في تهجير مئات ألاف السكان من مناطقهم، وإحداث تغيير ديمغرافي داخلها.
زوار إيرانيون في ساحة السيدة زينب في دمشق (فيس بوك)
من دمشق إلى حلب.. مناطق تشبثت بها الأقدام الإيرانية
منذ بداية الثورة السورية، قاتلت الميليشيات الإيرانية، إلى جانب قوات الأسد، تحت بند “حماية المزارات الشيعية”، التي يقصدها الإيرانيون وغالبية الشيعة منذ عقود، حيث بدا ذلك واضحاً من خلال مناطق توزع تلك المليشيات على الأراضي السورية، ونقاط ارتكازها.
وانطلاقاً من ذلك أطلقت إيران صيحة حاشدة لتجنيد المقاتلين الشيعة، وجمع الأموال، وإضفاء الشرعية على تدخلها، إلا أن تلك الذريعة ما لبثت أن اتضحت معالمها، حين طال مداها ولم يعد هناك مبرر للمخاوف الإيرانية، لتظهر نوايا مُبطّنة بالهيمنة الجغرافية والاقتصادية على التجمعات الشيعية والمناطق المحيطة بها في سورية، عبر إطلاق الشركات الإيرانية مشاريع عدة لبناء ضواحٍ سكنية وتنفيذ مشاريع استثمارية في تلك المناطق.
السيدة زينب.. عصب إيران في دمشق
تعتبر منطقة السيدة زينب جنوبي العاصمة السورية دمشق، أحد أكبر تجمعات أبناء الطائفة الشيعية في العاصمة، وما لبثت أن هدأت المعارك في محيط العاصمة السورية، لصالح الأسد وحلفائه، حتى بدأت إيران بالإعلان عن مشاريعها في المنطقة، وأبرزها مشروع توسيع مرقد السيدة زينب، ومرقد السيدة رقية بنت الحسين في حي العمارة بدمشق، والذي أعلن عنه رئيس لجنة إعمار العتبات المقدسة في إيران، حسن بلارك، في أبريل/ نيسان 2018.
بلارك أشار حينها إلى أن المشروع، الذي يُنفّذ بالتعاون مع منظمة “يونيسكو”، يقضي بتوسيع مقام السيدة زينب مسافة 150 مترًا، وتشييد أبنية تاريخية في المنطقة، حسبما نقلت وكالة “إرنا” الإيرانية الرسمية عنه.
ولم يتم الانتهاء من تنفيذ المشروع حتى اليوم، رغم إعلان إيران أنها وضعت الخطة النهائية له، وقامت بتأمين جميع المواد اللازمة للمشروع.
وإلى جانب مشروع توسيع مقام السيدة زينب، برزت توجهات إيرانية خلال السنوات الماضية، لشراء العقارات وتشييد الفنادق في منطقة السيدة زينب ودمشق القديمة، ضمن مساعي طهران للاستحواذ على سوق العقارات ومشاريع إعادة الإعمار في سورية، عبر إبرام اتفاقيات اقتصادية وثقافية استراتيجية مع النظام، إذا ما اضطرت تحت ضغوط دولية، لسحب قواتها وميليشياتها من البلاد.
وكذلك أعلن ايرج رهبر، نائب رئيس جمعية المقاولين في طهران، عن إبرام مذكرة تفاهم بين إيران ونظام الأسد، في فبراير/ شباط 2019، تقضي “ببناء مدينة و200 ألف وحدة سكنية في دمشق”، كما نقلت وكالة “فارس” عنه، في حين لا يزال المشروع غامضاً كغيره من المشاريع السكنية الإيرانية في سورية.
أما مشروع “الضاحية الجنوبية”، يبقى حلم إيران في دمشق، على غرار بيروت، والذي ينطلق، بموجب الرؤية الإيرانية، من السيدة زينب ويمر بالضرورة من المناطق المحيطة بها، مثل يلدا وببيلا وحجيرة والحجر الأسود، وأجزاء من الغوطة الشرقية الواقعة حول مطار دمشق، والتي تنتشر فيها عناصر تابعة للمليشيات الإيرانية.
“مشهد الحسين” يُطلق يد إيران في حلب
يرتكز الوجود الإيراني في مدينة حلب السورية، على وجود “مشهد الحسين”، أو ما يُعرف بمسجد النقطة، في حي سعد الأنصاري الخاضع لسيطرة النظام، والذي يُعتبر أحد أبرز المقامات الشيعية في سورية، في حين كانت بلدتا نبّل والزهراء الشيعيتين، قاعدة لإيران ومركز وجودها العسكري في ريف حلب الشمالي.
ومن هناك بررت إيران لنفسها انتشار المليشيات التابعة لها في حلب، حيث باتت الطقوس الشيعية، من احتفالات ولطميات، أحد أبرز معالم المدينة، خلال السنوات الماضية، ثم ما لبثت أن أعلنت إيران عن مشاريعها الاستثمارية في المحافظة.
في يوليو/ تموز 2018، أنشأت إيران محطة تحويل للطاقة قرب بلدتي نبل والزهراء، تقدر تكلفتها بـ 2 مليون و80 ألف دولار أمريكي، كما أعادت تأهيل مدارس في بلدة نبّل ذات الأغلبية الشيعية، وبنت فيها مستشفى، هي الأكبر في ريف حلب الشمالي.
أما في حلب المدينة، برز الاهتمام الإيراني من خلال زيارة أجراها وفد اقتصادي إيراني إلى حلب، في يناير/ كانون الثاني 2019، التقى خلالها بمحافظ حلب حسين دياب، لبحث تطوير واقع الاستثمارات ومرحلة إعادة الإعمار وتنشيط المدينة اقتصادياً.
في دير الزور.. هيمنة إيرانية على قطاع الزراعة
رغم أن الوجود الإيراني في محافظة دير الزور، يحمل صبغة عسكرية من خلال انتشار ميليشيات تابعة لـ “الحرس الثوري” الإيراني في المحافظة، خاصة في مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، إلا أن الهيمنة الإيرانية على المنطقة برزت في كافة القطاعات، خاصة الزراعية منها، على اعتبار أن إيران سخرت كافة الإمكانيات العسكرية والمدنية والاقتصادية في دير الزور لصالحها.
ويظهر الاهتمام الإيراني في دير الزور، عبر افتتاح منظمة “جهاد البناء” الإيرانية مكتباً لها في مدينة البوكمال، منتصف عام 2018، مهمته شراء العقارات المدمرة وإعادة إعمارها وشراء الأراضي الزراعية وإعادة تأهيلها، حسبما أعلنت المنظمة.
ومنذ ذلك الحين، رصدت شبكات محلية، ومن بينها شبكة “دير الزور 24” و”فرات بوست”، استحواذ إيران على مساحات زراعية واسعة، بموجب عقود استثمارية موقعة مع وزارة الزراعة في حكومة النظام، إلى جانب شراء طهران عقارات في دير الزور، أصحابها نازحون أو مهجرون خارج سورية.
وتولي إيران أهمية كبيرة لمدينة البوكمال السورية، كونها تُعتبر بوابة سورية على العراق ومنها إلى إيران، ما يتيح للأخيرة فرصة إيجاد منفذ بري من أراضيها إلى الأراضي السورية، عبر العراق.
وبرز ذلك من خلال تصريحات وزير النقل في حكومة النظام، علي حمود، والذي قال في 17 يناير/ كانون الثاني 2019، إن ربط سورية مع العراق وإيران بسكك الحديد يأتي ضمن أولويات الوزارة، على أن يتم إنشاء خط حديدي ينطلق من إيران ويمر بمدينة البصرة العراقية، ومنها إلى منطقة البوكمال ثم مدينة ديرالزور في سورية.