لم تطل إقامة لولا في المعتقل، لكنها تعرضت للكثير من التعذيب والشبح مع أنها كانت حاملًا، وبعد خروجها بدأت العمل في إحدى ورش الخياطة لتعيل أدولاها، وتواصلت مع شخص بإمكانه أن يخرج زوجها من السجن لقاء خمسين ألف ليرة سورية
22 / كانون الثاني / يناير / 2020
المصدر: صحيفة جسر الالكترونية
قصة لولا الآغا، وردت تحت عنوان “لقاء في المسلخ” ضمن كتاب “كي لا أكون على الهامش”للباحثة السورية لمى قنوت. قصة تحرق القلب لما تعرضت له هذه المرأة من عنف ووضاعة من دون أن تلقى العون حتى من أهلها وأقاربها. لولا، من مواليد العام 1984، ربة منزل لم تكمل تعليمها، كانت تعيش مع زوجها الموظف وأولادها الأربعة في منطقة صلاح الدين، حيث خرجت أولى التظاهرات السورية، وكانت المنطقة الأولى التي تحررت من سلطة النظام في حلب.
كان أهلها وزوجها من المحايدين الصامتين، وكان أهل زوجها من الشبيحة، يرفعون التقارير الأمنية ويشاركون في التعفيش، بينما كانت لولا معارضة سلمية تتمنى سقوط النظام. شاركت في لقاءات أسبوعية عن الثورة، وخرجت في ثلاث تظاهرات، قبل أن يمنعها زوجها وتبتعد عن السياسة، وتضطر وأسرتها للنزوح من منطقة إلى أخرى بسبب القصف. وشى بها شقيق زوجها محمد، لأنها رفضت أن يسجل ابنتها الصغرى باسمه، كونه وزوجته غير قادرين على الانجاب، وفي 20 تشرين الأول 2013 داهم عناصر من المخابرات الجوية منزلها واعتقلوها، وفي اليوم التالي اعتقل الأمن السياسي زوجها من مقر عمله في دائرة السكك الحديدية.
لولا الآغا
تنقلت لولا بين فروع الأمن العسكري في حماه وحمص، وأمضت ثلاثة أشهر في “فرع فلسطين” بدمشق، وخرجت من سجن عدرا في 10 كانون الأول 2014، لكن في يوم إخلاء سبيلها وصلت برقية إلى السجن لتحويلها إلى الأمن السياسي، وهناك التقت بزوجها في غرفة التحقيق، وكان تحت التعذيب قد أدلى باعترافات لا أساس لها عن دوره ودورها في تسليح الثورة. أنكرت أقواله وتراجع هو عن اعترافاته، فبدأوا يضربونه ويتحرشون بها، وتقول: “قاموا بتعريتي، واغتصبني أحدهم أمامه بعدما أمسك بي عنصران، لم يتحمل زوجي ما رآه فوقع، ولم تصدر عنه أي كلمة. اعتقدت أنه غاب عن الوعي، ولم يخطر في بالي أنه مات. حملوه وأخذوه خارج الغرفة، وأنا ارتديت ملابسي وأعادوني إلى المنفردة”. وفي اليوم التالي استُدعيت مجدداً إلى جلسات التعذيب والصعق بالكهرباء.
في الشهر الثاني من العام 2015، أُحيلت لولا إلى سجن عدرا، وخرجت منه في 16 كانون الأول 2016، لكنها بقيت تحت المحاكمة، وفي الجلسة الثالثة أصدر القاضي بحقها حكمًا بالسجن لمدة 16 عامًا، وكان أمامها شهر لتسليم نفسها أو الطعن في الحكم، ففضلت الذهاب إلى إدلب، ثم استقرت في تركيا مع أولادها، باستثناء ابنتها الصغيرة التي نجح عمها محمد في أن يبقيها عنده.
كتاب “كي لا أكون على الهامش/ الذاكرة الشفوية لناجيات سوريات من الاعتقال” صدر أواخر 2019 عن منظمة “اليوم التالي” TDA ، ويضم سرديات 11 معتقلة سابقة في سجون النظام السوري بعد قيام الثورة السورية، جُمعت عبر حوارات هاتفية مسجلة، أُجريت بالاستناد إلى لائحة مطولة من الأسئلة المعدة مسبقًا. وبإمكان القارئ أن يلحظ الجهد الذي بذلته لمى قنوت في تهيئة الشخصيات وإدارة الحوارات، ومن ثمة صياغتها بأسلوب رشيق في قصص منفصلة، لكل منها عنوان مستقل، وبطلة فريدة، رغم الألم الذي يرشح من داخلها.
قصص الكتاب تفصل بينها رسوم تشكيليين سوريين، وبطلات القصص من أعمار ومشارب متباينة، يختلفن من حيث مستوى التعليم ونوع التجربة الحياتية، وينحدرن من مناطق عديدة، دمشق وريفها، حلب وحماه ودير الزور، والأسئلة التي وجهت لهنّ لم تقتصر على ظروف الاعتقال وأساليب التحقيق والتعذيب، بل شملت كافة مراحل حياتهنّ، في سوريا وفي دول اللجوء. لولا الآغا، وأميرة فؤاد الطيار، ومنى بركة، كنّ الوحيدات اللواتي تحدثّن بأسمائهنّ الحقيقية، فيما اكتفت ثلاث نساء بأسمائهن الأولى: هنادي وزينب وريم، وتحدثت الأخريات بأسماء مستعارة: نرجس ونورهان ونور وورد وياسمين الشامي.
قصة أميرة فؤاد الطيار، تختزل كل العنف الذي عاناه السوريون في ظل نظام الأسد. فهي من مواليد حماة العام 1974، تفتح وعيها على مجزرة 1982، وتقول: “شهدت بأمّ عيني في “نزلة الجزدان” كيف كان النظام يقوم بصفّ الرجال، ووضع ذقونهم على حافة الرصيف، بينما أجسادهم على الأرض، وبعد ذلك جاءت الدبابة لتدهسهم واحدًا تلو الآخر”.
انهت أميرة مرحلة الدراسة الابتدائية، وتزوجت ورُزقت بثلاثة أطفال، وما إن قامت الثورة حتى جعلت منزلها مشفى ميدانيًا، وتقول: “أنا ثائرة، قمت بإسعاف المصابين، ومساعدة العساكر على الانشقاق، وتأمين أماكن آمنة لهم، وتطوعت في الهلال الأحمر في مدينتي، وقمت بمساعدة العوائل الفقيرة، وخبأت الثوار في منزلي، واصطحبت نساءهم إلى المشافي ليلدن… دعمت الثورة والجيش الحر، ولم نكن أبدًا فصائل “هيئة” أو “تحرير” أو “إخوان مسلمين”.
أُوقفت أميرة لمدة خمس ساعات، العام 2012، واعتقلتها أمن الدولة من منزل أهلها في 22 تشرين الأول 2014، بعدما أُحرق منزلها. تنقلت بين عشرة فروع أمنية وسجون عديدة، وأُطلق سراحها في 27 كانون الثاني 2015، وخرجت بكتف مكسورة وأظافر مقلوعة، وندوب في جسدها من آثار التعذيب والصعق بالكهرباء. وهي تعيش اليوم في تركيا مع أطفالها الثلاثة، فيما قُتل أخوها بالتعذيب في سجن صدنايا.
“شمس الدمشقية” أو “الحرة الدمشقية” اسمان مستعاران للسيدة منى بركة، وهي من مواليد دمشق 1984، ومن سكان منطقة القدم، وتحمل شهادة تربية “معلم صف”. أوقفها الأمن 48 ساعة العام 2001 لاشتراكها في جمع مساعدات لغزة، وبعد ذلك بعام تزوجت وأنجبت طفلين، وتقول عن مشاركتها في الثورة: كنتُ من المؤسسات لجميع التنسيقيات في منطقتي، تنسيقية القدم واليرموك والحجر الأسود وغيرها، نظمنا التظاهرات في هذه المناطق، وكتبنا شعاراتها وحددنا من سيهتف خلالها، وكنا نوزع مراقبة المنافذ على العوائل، ليُخبروا عن دخول الأمن إلى المنطقة خلال التظاهرة.. كنت أعمل في الظل عبر الإنترنت، ولم أكن أشارك في التظاهرات، لأن أهلي كانوا محافظين جدًا، وكانوا يمانعون ظهوري أو الاختلاط. كنت أجمع الأخبار وأنقلها وأصوّر من مكان مرتفع في بيتنا يطل على ساحة الضبع التي غيّر الشباب اسمها إلى ساحة الحرية… كانت لي مصداقية بين الثوار، وكنت الناطقة الإعلامية باسم “جنوب دمشق والمنطقة الغربية”، منذ منتصف 2012 وحتى بداية 2013.
في العام 2012، اضطرت منى للنزوح من حي القدم إلى أكثر من منطقة في ريف دمشق، وأسست جمعية خيرية للاغاثة، قبل ان يُنصب لها كمين في منطقة الكسوة، وتُعتقل في 9 حزيران 2014، من قبل سرية مداهمات الأمن العسكري فرع 215، حينها قال لها أحد العناصر: “يا بنت الحرام حفينا وراكِ منذ سنتين ونحن نلاحقك”، “هل تعرفين القانون الجديد الذي أصدره سيادة الرئيس بشار الأسد؟”، “عشرة أشخاص سيشرفون على اغتصابك يا شمس”. وكان يقول لها المشرف على تعذيبها: “بس تروحي لعند الله تبعك قوليلو بعتني لعندك المهندس أنس”.
بعد تسعة شهور كُتبت لها النجاة، وخرجت من المعتقل في أيار 2015، لكن الأمن ظل يتعقبها ويستدعيها ويطلب منها التعاون معه، فانتقلت من دمشق إلى حماه فإدلب، ثم وصلت إلى تركيا، حيث لا تزال تعمل وتقيم مع أولادها، ولا تدري ما الذي حل بزوجها الذي أختفى أثره عند أحد الحواجز الأمنية في منطقة القدم العام 2012.