#########

أبحاث

الأفرع الأمنية مافيا بمناصب حكومية


بالتوازي مع حرب أعلنها النظام بقياداته الأمنية على الثورة والشعب، كانت هناك حروب بين الأفرع تطفو على السطح كل فينة وأخرى، لتظهر النظام بشكله المهلهل وغير المترابط، يصل صداها أحياناً لأروقة القصر الجمهوري.

30 / تشرين أول / أكتوبر / 2018


الأفرع الأمنية مافيا بمناصب حكومية

 

*سائد الشخلها

 

إبان هزيمة العرب عام 1948 دخلت سورية دوامة من الانقلابات العسكرية المدمرة، استخدم فيها المتصارعون جميع الوسائل للوصول للحكم ولجم أفواه المعارضين خاصة وإن الجميع لا يمتلكون أي أرضية شعبية تسمح لهم الوصول للحكم بطرق ديمقراطية، ومع اقتراب زمن الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 بدأ دور الأفرع الأمنية في سورية بالظهور كلاعب أساسي في مشهد الصراع على السلطة، إذ كان كل طرفٍ يستخدم تلك الأفرع لترجيح كفته بما تمتلكه تلك الأفرع من طرق غير تقليدية في اعتقال وتنحية المعارضين لها.

فقد برز دور الاستخبارات كبيضة القبان أول مرة قبيل الوحدة، عندما كان عبد الحميد السراج -والذي يعتبر الأب المؤسس لمنظومة الاستخبارات التي إلى الآن تحكم سورية، مسؤولاً عن  أول عملية قتل تحت التعذيب في أقبية فروع الأمن – رئيساً لمكتب المخابرات العسكرية (المكتب الثاني)، إذ استفاد أيضاً من اغتيال البعثي عدنان المالكي رئيس المكتب الثالث ليتخلص من السوريين القوميين، والذين اتهموا بالاغتيال ويغلق مكاتبهم، ما فسح المجال للبعثيين والناصريين والقوميين بالبروز على الساحة السياسية بقوة ومن ثم ضغطه على باقي السياسيين للقبول بالوحدة، التي كانت نتائجها سحق الليبرالية الديمقراطية آخر معاقل مناهضة العسكر في البلاد، وتأسيس الوحدة الفاشلة بين القطرين، ومن ثم زرع بذور الانفصال فيها، والتأسيس لحكم عسكري استخباراتي أنتج انقلاب عام 1963 ومن ثم حكم الأسد في نهاية المطاف.

 

أذرع قوة

تأسست الأفرع الأمنية بداية كأذرع حماية ومراقبة للسلطات والقوى الموجودة في البلاد، فكل فرع كان عيناً مراقبة لجهة بعينها، فشعبة الاستخبارات العسكرية “الأمن العسكري” وإدارة الاستخبارات الجوية تتبع لوزارة الدفاع، وشعبة الأمن السياسي وإدارة الأمن الجنائي لوزارة الداخلية وإدارة أمن الدولة لرئاسة الجمهورية، بينما إدارة الجمارك تتبع مكتب الأمن القومي، وهو ما أدى لحروب خفية فيما بينهم وتحالفات غامضة واغتيالات نالت قيادات تلك الأفرع.

 

وخلال حكم البعث لسورية حصل أول تغيير دستوري غير منطقي في عمل الاستخبارات بجعل فرع المخابرات العامة ذراع مشترك لمكتب الأمن الوطني (أو القومي سابقاً) وللحزب الحاكم (حزب البعث العربي الاشتراكي)، وتتالت بعدها الهيمنة البعثية على بقية الأفرع حتى وصلت جميعها تحت وصاية حافظ الأسد عند حكمه سورية عام 1971، إذ حولها من أذرع للقوى في البلاد إلى جهات تحكم وتسير تلك الجهات وتراقبها لصالحه، وربطها جميعها بمكتب الأمن القومي لتبقى تحت مراقبته المباشرة.

 

وباستلام بشار الأسد لمقاليد الحكم (التوريث)، بقيت السلطات في سورية في قبضة الأفرع الأمنية، لكن بفقدان شخصية القائد الأوحد، والمتمثلة بحافظ الأسد، أصبحت تعمل على تثبيت حكمها لسورية ولكن طفت على السطح خلافات واضحة فيما بينها للاستحواذ على أكبر مصادر الدخل السورية، وتحولت مقراتها غرفاً لنسج المخططات وبناء دول صغيرة لرؤساء تلك الأفرع.

 

صب الزيت على النار

مع انطلاق الثورة لم يكن الحل الأمني خياراً في سورية، لأنه أصبح منهجاً لحكم انتهج لعشرات السنين، و التناقض بين كلام القيادة، وعلى رأسها بشار الأسد وتصرفات قواتها على الأرض وقمعها الوحشي للمظاهرات والحراك السلمي لم يكن باتفاق مسبق بينهم، بل يعكس رؤيتين داخل القيادة، الأولى متمثلة بالدولة (الحديثة) على رأسها بشار، والثانية الدولة العميقة وعلى رأسها قادة الأفرع الأمنية، انتصرت بنهايته الدولة العميقة، وكان آخر مسمار دق بنعش الإصلاح حين قرر بشار الأسد تسمية الحكومة التي رأسها رياض حجاب بحزيران 2012 “بحكومة حرب”، بعد أن سماها سابقاً “حكومة إصلاح” ،بإعلان واضح منه بتبني المنهج الأمني، والذي يعتبر المسبب الأساسي لما حصل في سورية، وما آلت إليه الأمور من أزمات وعمليات تهجير وقتل، فالأفرع في بداية الحراك رغم توجيهات مباشرة من القيادة باستيعاب الحراك إلا أنها منذ البداية اعتقلت ولاحقت المتظاهرين، لأن الكثير منهم طالبوا بالإصلاح وتحديد سلطات فروع الأمن وهو ما ليس مقبولاً بالمطلق.

وقامت قوات الأمن وعلى جميع الرقعة السورية بنهج موحد في قمع التظاهرات واعتقال المتظاهرين وتعذيبهم، ما أجج تلك المظاهرات وارتفع سقف مطالبها لإسقاط النظام. فحتى عام 2013 فقط اعتقلت تلك الأفرع ما يقارب 215 ألف مدني، منهم 9 آلاف دون سن الثامنة عشر، و70 ألف مختف قسرياً، و35 ألف طالب جامعي، و4500 امرأة بينهم 400 طالبة جامعية، وفق توثيق نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وأحصت منظمة العفو الدولية في تقرير حول التعذيب والموت في معتقلات النظام وفاة “17723 شخصاً أثناء احتجازهم بين اذار 2011 وكانون الاول 2015″، أي بمعدل أكثر من 300 شخص شهرياً..

 

 

وقال أحمد المعتقل السابق في فرع أمن الدولة في دمشق: “كل يوم يقتل بين أربعة أوثمانية أشخاص طوال سنة ونصف من الاعتقال. كنت أنتظر يومي بفارغ الصبر، فقد تعبت من الموت. أصبح النهار الجديد يعني عذاب جديد، وموت جديد، وأصوات لا تترك ذهني مهما عشت”. وأردف أحمد قائلاً: “خلال ثلاث سنوات من الاعتقال، وزيارة لسبعة أفرع أمنية، كان كل اعتقال بداية جديدة، وملف جديد، وكأني اعتقلت بهذه اللحظة، وكأن اضبارتي التي أصبحت أثقل من وزني لا معنى لها”.

 

حروب داخلية

بالتوازي مع حرب أعلنها النظام بقياداته الأمنية على الثورة والشعب، كانت هناك حروب بين الأفرع تطفو على السطح كل فينة وأخرى، لتظهر النظام بشكله المهلهل وغير المترابط، يصل صداها أحياناً لأروقة القصر الجمهوري، كما حدث أواسط 2012عندما تصادمت قوى الأمن العسكري في درعا مع قوى للجيش، ما أدى لاعتقال قائد حاجز للجيش برتبة مقدم مع عناصره، والذي كاد أن يفجر الوضع لولا تدخل ماهر الأسد شخصياً لحل الأزمة، وهو ما تكرر مراراً في حمص عام 2013 بين قوات الأمن العسكري والأمن الجوي، وفي دير الزور عام 2015 بين الأمن العسكري والجيش الوطني ما أدى لسقوط 12 قتيل وجرحى، وآخرها منذ أسابيع خلت بين عناصر الأمن الجوي وأمن الدولة في جرمانا بريف دمشق.

وفي بعض الأحيان تصبح الحرب ضمن الفرع نفسه، وهو ما حدث عام 2014 إذ اضطرت قوة من الأمن العسكري في دمشق إلقاء القبض على بعض أفراد الأمن العسكري في حمص، وذلك بعدما أطلقوا سراح مطلوب لهم يقال إنه دفع مبلغاً طائلاً من المال ليخرج، ومئات الأحداث التي تتكرر يومياً أصبحت حوادث عادية يسمع بها المراقب والناشط.

 

لا قانون فوق السلطة

حرص النظام على عدم وجود قوانين تحكم عمل الأجهزة الأمنية في سورية، أو تضبط علاقتها ببعضها أو بالمجتمع أو بالقضاء، ليتحكم وحده بعمل الأجهزة، ومنح الجميع السلطة الكاملة للتدخل في حال أحس بخطر أمني على نفسه، ولم يُحدّد اختصاصات أو سلطات أو آلية تعاون بين هذه الأجهزة، ولم يُحدّد كذلك طريقة قانونية أو شروط لتعيين رؤساء هذه الأجهزة أو الفروع، وترك للجميع حالة التنافس على خدمة رئيس الجمهورية الذي يملك وحده هذا الحق، وأضاف لذلك حمايتهم من المساءلة والمحاسبة؛ إذ نصت المادة 16 من المرسوم 14 لعام 1969 القاضي بإحداث إدارة أمن الدولة على عدم إمكانية مقاضاة أي عنصر أمن قبل الحصول على موافقة رئيسه، وكذلك نص قانون أصول المحاكمات العسكرية بوجوب الحصول على أمر يلزم المحاكمة من وزير الدفاع قبل تحريك الدعوى بحق أي عنصر بالجيش أو متعاقد معه، وأضاف  بشار الأسد عناصر الشرطة والجمارك والأمن السياسي  لتلك القائمة لتخرج جميع الفروع الأمنية من تحت مظلة الدستور والقانون معاً، ما جعل الجميع تحت رحمته، فهو الذي يُشكل الحماية لهم من المحاكمة عن الجرائم التي يرتكبونها، إن كانت ضد الأشخاص أو قضايا الفساد أو أي نوع من الجرائم الأخرى. ولكن هذه الحماية أصبحت شكلية مع اشتداد قوة رؤساء تلك الأفرع وزيادة نفوذهم وامتلاكهم لملفات سوداء وتراخي القبضة المتحكمة بهم، حتى أصبح كل فرع دولة صغيرة داخل الدولة، وشركة مساهمة خاصة لعائلة أو شخص ترتبط فيما بينها بعدة أقنية، ولكنها فعلياً لا تشكل تعاضداً وليس هناك أي تواصل فيما بينها إلا فيما يخص قهر المواطن وسرقة مقدرات البلاد.

 

 

وكما عجز الدستور السوري عن حماية المواطنين من ظلم الأجهزة الأمنية، عجز المجتمع الدولي كذلك، ولكن المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية قامت بتوثيق آلاف الحالات التي قام بها النظام السوري ونشرها بتقارير تقشعر لها الأبدان، لعلّ المستقبل يحمل في طياته أملاً بمحاكمة هؤلاء القتلة.

 ففي شباط 2013 أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً حمل عنوان “بأي طريقة: مسؤولية الأفراد والقيادة عن الجرائم ضد الإنسانية في سوريا”، ويستند إلى أكثر من 60 مقابلة مع منشقين من الجيش والمخابرات السورية، قدم خلالها المنشقون معلومات تفصيلية عن مشاركة وحداتهم في الهجمات، والانتهاكات بحق المواطنين السوريين، والأوامر التي تلقوها من القادة والمسؤولين في مختلف المستويات والمناصب، وقد تم ذكر أسماء 74 قائداً ومسؤولاً في التقرير.

 

وفشلت فرنسا ومعها دول غربية عديدة أواسط عام 2014 بتحويل ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعدما استخدمت روسيا والصين الفيتو داخل مجلس الأمن.

وسلط تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2017 بعنوان “المسلخ البشري” الضوء على فظاعات النظام بحق المعتقلين، وأشار بقيامه لإعدامات جماعية سرية شنقاً بحق 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا، غالبيتهم من المدنيين المعارضين لحكمه خلال خمس سنوات من عمر الثورة السورية.

 

يحق للسوريين بعد عشرات السنين من الخوف وجثوم السطوة الأمنية على صدورهم أن يحسوا  بعدم وجود مستقبل لسورية وتلك الأفرع التي قتلتهم وهجرتهم وكممت أفواههم فيها، وأن أي حل مستقبلي بسورية يبدأ بحل تلك الأفرع واستبدالها بمنظومة وطنية تسهر على راحة المواطن، تحت مظلة دستور قوي لا يسمح لها بظلمه أو ظلم أولاده.