وفي العاصمة دمشق، وتحديداً في منطقة باب مصلى، وبالقرب من مقر الأمن الجنائي وفرع شرطة المرور، يقع أسوأ سجن سري في سورية قاطبة، والمسمى سجن "كركون الشيخ حسن
13 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
*سائد الشخلها
قام النظام السوري منذ عهد الأسد الأب بكم جميع الأفواه المعارضة بطرقٍ حتى أعتى الدكتاتوريات لم تستخدمها، ومن بين التجاوزات التي كان للنظام بصمة فريدة بابتكارها، وتطويرها واستخدامها، هي السجون السرية، والتي من حيث المنطق لا حاجة لها، خاصة وأن الأفرع الأمنية كانت خارج أي سلطة تحدد سلطاتها أو تراقبها، ولكن واقعياً، كان لها دور كشف تركيبة هذا المنظومة المافيوية، وطريقة إدارة الصراع من قبل أجهزتها.
وتتبع هذه السجون بطبيعة الحال لقادة وعسكريين ذوي نفوذ، وليس لأفرع أمنية، لذا تعتبر تطوراً طبيعياً للسطوة الأمنية وتحوّل الفروع لدويلات داخل جسم الدولة نفسه، فهذه السجون كانت ولا تزال بلا أي قيود تربطها بالنظام، وهو ما أرجعه عدد من المراقبين لرغبة النظام بتصفية المعارضين له بدون أن تربطه بتلك الجرائم أي صلة؛ ولكن النظرية الأقرب للحقيقة هو محاولة رؤساء تلك الأفرع إدارة تجارتهم وتصفية حساباتهم الشخصية، بعيداً عن سطوة مكتب الأمن القومي كقيادة عليا على تلك الفروع والقادة.
إن للنظام عبر تاريخه ملف أسود من السجون السرية، يبدأ مع السجون التي أقامها قادة الانقلاب البعثي آذار 1963 في سورية بحق عشرات الضباط والسياسيين الناصريين من أصحاب الصف الثاني، الذين دعموهم في انقلابهم وكان لا بد من تصفيتهم، خاصة وإن _ناصري_ الصف الأول قد هربوا من البلاد، وكان من الواجب تصفيتهم خارج نطاق الفروع الأمنية، التي كانت وقتها لا تدين بالولاء المطلق للقيادة الجديدة الوافدة للحكم، لذا تم وضعهم في معتقلات سرية في كل من دمشق وريف اللاذقية، خاصة القرى ذات الأغلبية العلوية، وكثير من المعتقلين لا زالوا مفقودين حتى الساعة، ومنهم فرقة الحرس الخاص بالعقيد جاسم علوان والمؤلفة من 8 ضباط برتب مختلفة ومن مدن متنوعة.
تميزت السجون السرية في حقبة حافظ الأسد بتبعيتها المباشرة لعدد قليل من القادة ولمهام بعينها تنتهي بنهايتها أهمية السجن. فمثلاً، السجون التي أقامها رفعت الأسد بداية سبعينيات القرن الماضي للبرجوازيين الدمشقيين وغيرهم من حلب، كانت بقصد ابتزاز عائلاتهم واختلاس الكثير من أموالهم، وكان أشهر المختفين في تلك السجون أبناء عائلة عوامة والنحّاس الدمشقية، وعائلة الماسات الحلبية، والذين اضطر الكثير منهم لترك البلاد خوفاً على أرواحهم ،واستيلاء رفعت على معاملهم وأراضيهم؛ أما السجون التي افتتحت في حماه إبان المجزرة الشهيرة فيها، كانت بقصد مساومة النظام العراقي عليهم، باعتبارهم قيادات للإخوان المسلمين مقابل تسليمه لقيادات بعثية كانت قد هربت من قبضة الأسد بعد انقلابه عليهم ،وكانت تلك المعتقلات في منطقة وادي جهنم حسب روايات لكثير من الناجين.
ومع اندلاع الثورة السورية طفت أهمية السجون السرية مرة أخرى على السطح، وأول استخدام لها كان في مدينة اللاذقية من قبل ميليشيات الدفاع الوطني، التي أنشأها هلال الأسد، والذي اتخذ من المدينة الرياضية في اللاذقية سجناً سرياً لا يتبع لأي فرع، يحتجز فيها أعداداً كبيرة، معارضين من أبناء الطائفة العلوية، أو من الذين نادوا بتنازل بشار الأسد عن الحكم مقابل ضمان خروج البلاد من حرب قد تجر الطائفة كلها لحرب هم بغنى عنهاـ وكان السبب الأساسي لاحتجازهم في هذه السجون عدم السماح لعائلاتهم الوصول إليهم عن طريق أقربائهم المنتشرين في الفروع كافة، والضغط على باقي العائلات العلوية للانضمام لآل الأسد بحربهم ضد الشعب السوري. وبعد موت هلال الأسد، بقيت تلك السجون موجودة، ولكن أصبحت تختطف الشباب من كل المشارب، إما لإجبارهم على الانضمام للجيش الوطني، أو لطلب فدية من ذويهم مقابل حيواتهم.
وفي العاصمة دمشق، وتحديداً في منطقة باب مصلى، وبالقرب من مقر الأمن الجنائي وفرع شرطة المرور، يقع أسوأ سجن سري في سورية قاطبة، والمسمى سجن “كركون الشيخ حسن”؛ فجذور هذا السجن تمتد لأوائل عام 1980 إذ ضمَّ بين جدرانه الممتدة لثلاث طبقات تحت الأرض مئات المعتقلين، والذي نادراً ما خرج منها أحد حتى اللحظة، ليخبر بويلات هذا القبر الكبير كما وصفه أحد المنشقين بتوثيق قدمه لـ “المؤسسة العامة لشؤون الأسرى السورية” عام 2016، بالإضافة لمئات السجون التي تعج فيها العاصمة مثل معتقل فرع الأمن 251 التابع للأمن العسكري والمخابرات الجوية، والذي يقع تحت مطار دمشق القديم المعروف حالياً بمطار المزة، وسجن آخر يقع تحت الثكنة العسكرية القريبة من مطار دمشق الدولي، ومعتقل الضمير القريب من مطار الضمير العسكري في ريف دمشق،
أما شعبة حزب (البعث) بمنطقة الحميدية في حمص، كانت ولا تزال أهم معتقلات النظام السرية في تلك المدينة المعروفة بمعارضتها للنظام، فهذه الشعبة كانت مقراً لاعتقال مئات الشباب ومبادلتهم بصفقات خاصة مع كتائب الجيش الحر، أو مقابل دفع أهاليهم لمبالغ وصلت لـ 15 مليون ليرة سورية. وفي حادثة غير مسبوقة، قامت هذه الشعبة بمبادلة ضابط علوي مقابل عدد من المعتقلين لديها، ثم أخذوا من عائلته مبلغ 5 مليون لإطلاق سراحه.. ويضاف إلى هذه السجون مئات المقرات المنتشرة في المدن السورية كافة بممارسات لا تقل عن ممارسة أي سجن تم ذكره.
وفي ذات الوقت التي تضغط فيه الجهات السياسية اللبنانية والناشطون لإغلاق السجون السرية التابعة لحزب الله في لبنان، إثر حادثة اعتقال الناشط “علي ولاء مظلوم” وفتاتين من “آل شمص” في العام 2015، كان الحزب يحوز حصة الأسد بإقامة هذه السجون على طول الرقعة السورية، والتي لا يستطيع حتى النظام معرفة ما يجري داخلها، لتستخدم فيما بعد كورقة لتفاوض المعارضة العسكرية عليها أو لاستخدامها بصفقات تبادلية تظهره بدور القوي المتحكم؛ وأهم سجون حزب الله هو سجن “السيدة زينب” وسط العاصمة دمشق، الذي اعتقل فيه الدكتور “إياد الصطيف” لمدة ثلاث سنوات مع مئات المعتقلين من كافة المدن السورية، يضاف إليه السجون المنتشرة في منطقة القلمون، وسجن الثقب الأصفر في منطقة تلكلخ في حمص.
رغم حماية القانون الدولي حقوق المعتقلين والسجناء باتفاقيات عدة مثل ” العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، و” اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، و”الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري”، و”قواعد بانكوك”، وكذلك “قواعد طوكيو”، وبروز قضية المعتقلين في كل التقارير الأممية عن سورية بين عامي 2012 و2018 ،إلا أنه يلاحظ عدم ذكر السجون السرية التابعة للنظام السوري بأي تقرير أممي، أو لمنظمة حقوقية كبيرة، وأكتفت منظمة العفو الدولية في تقريرها المعنون “حكم الخوف” عام 2013 بذكر انتهاكات داعش في معتقلات الشمال السوري، والمتوزعة على سبع منشآت تستعمل كمراكز اعتقال، ولم تستطع توثيق سجن واحد للنظام السوري، وفي نفس الإطار تحدث التقرير الصادر عن “المركز الديمقراطية لحقوق الإنسان في كوردستان”، عن الفظائع التي ترتكبها قوات “قسد” في سجونها السرية فيما أسمتها منطقة كردستان سورية، ولم تستطع توثيق سجن الفرقة السري في مدينة الحسكة، والذي يقع على بعد أميال فقط من سجون قسد المذكورة في التقرير.
في ظل أزمة من التخاذل الدولي الممنهج لوابل من المآسي السورية، يبقى الأمل بغد عادل هو ما يربط السوريون بهذه الحياة، وتبقى الثقة بعدالة الله والكون هي الزاد الذي يقتاته جميع المناضلين والمدافعين عن الحرية في تلك البلاد، وهو ما سيجعلنا نقاتل بكل قوتنا للحصول على سورية المستقبل بلا سجون سرية أو معلنة لأصحاب الرأي، ولن نمل من الحلم مادام هناك شخص واحد يقبع في ظلمة سجنٍ ينتظر الحرية.