جاءت العدالة الانتقالية للحد من الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الانسان، وتهدف الى تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات
11 / تموز / يوليو / 2018
إن مفهوم العدالة الانتقالية، حديث مقارنة مع كثير من المفاهيم القانونية الأُخرى، إذ يكاد يكون هناك إتفاق أن أول ظهور لهذا المصطلح كان في ثمانينات القرن الماضي في الأرجنتين، بعيد زوال حكم العسكر وإلغاء الأحكام العرفية. لكن البعض يرى أن محاكم نورمبرغ وطوكيو، التي أُنشأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية طبقت مفهوم العدالة الانتقالية، وإذا سلمنا جدلاً بصحة هذا الرأي، فان ذلك لا ينزع عن العدالة الانتقالية صفة الحداثة، الأمر الذي يستوجب دراسة هذا المفهوم من كل جوانبه، سواء من حيث مدى الحاجة اليه أو الآليات المتاحة لتطبيقه، والعراقيل التي واجهت الحكومات التي قامت بتطبيقه في الفترة الفاصلة بين مرحلة القمع أو الحرب وعدم الاستقرار من جهة، ومرحلة التحرر والسلام والاستقرار المنشود من جهةٍ أُخرى. تندرج هذه الورقة البحثيّة في هذا السياق، وهي محاولة لدراسة جدوى العدالة الانتقالية في سورية في المرحلة الانتقالية، والآليات الواجب اتباعها، والصعوبات التي يمكن ان تواجه الحكومة الانتقالية في سورية بعد سقوط نظام الحزب الواحد. تنقسم هذه الورقة إلى قسمين، يتناول الأول منهما التعريف بالعدالة الانتقالية وأهميتها واستراتيجيتها وأهدافها، أما في القسم الثاني منهما؛ فسنسقط المحاور السابقة على الحالة السورية، وكيفية تطبيق العدالة الانتقالية فيها.
ماهية العدالة الانتقالية
لا يزال مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم الغامضة، لا سيما فيما يتعلق بالجزء الثاني منه، أي مصطلح الانتقالية. فما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء الى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟
اذا كانت العدالة الانتقالية تشترك مع التقليدية في احقاق الحق وإعادته الى أصحابه، و في كشف الحقيقة ومن ثم جبر الضرر وتعويض الضحايا، وخصوصاً لما له علاقة بالقضايا السياسية والمدنية العامة، إلا أنها تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تعنى بالفترات الانتقالية، مثل الانتقال من حالة نزاع مسلح او حرب أهلية الى حالة السلم والعمل الديمقراطي، أو من حالة انهيار النظام القانوني الى إعادة بنائه بالترافق مع إعادة بناء الدولة، أو الانتقال من حكم تسلطي دكتاتوري الى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي يشهد حالة الانفتاح والاقرار بالتعددية، وبذلك تعتبر العدالة الانتقالية حلقة الوصل بين مفهومين عموميين هما؛ الانتقال أو التحول (Transition) والعدالة (justice).
من جهتها عرفت الأمم المتحدة العدالة كما يلي: “هي من المثل العليا للمساءلة والإنصاف في حماية الحقوق وإحقاقها، ومنع التجاوزات والمعاقبة عليها”. أما الانتقال أو التحول في مفهوم العدالة الانتقالية: فهو مفهوم منحصر في فترة من التغيرات السياسية تتميز باتخاذ تدابير قانونية وحقوقية لمواجهة وتصحيح جرائم ارتكبت عن طريق نظام قمعي سابق، وهو ما يعني أن التحول أو الانتقال مرتبط في مفهوم العدالة الانتقالية بالانتقال من مجتمع أقل تحرراً إلى آخر أكثر ديمقراطية وتحرراً. كما عرفت الأمم المتحدة العدالة الانتقالية بأنها: “… كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة، وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة.”.
وبناء على ما ذُكر، “العدالة الانتقالية” هي مجموعة الأساليب والآليات التي يستخدمها مجتمع ما لتحقيق العدالة في فترة انتقالية من تاريخه. تنشأ هذه الفترة غالبا بعد اندلاع ثورة أو انتهاء حرب، يترتب عليها انتهاء حقبة من الحكم السلطوي القمعي داخل البلاد، والمرور بمرحلة انتقالية نحو تحول ديمقراطي. وخلال هذه الفترة الانتقالية يواجه المجتمع إشكالية هامة جداً، ألا وهي التعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، سواء كانت حقوقاً جسدية أو اقتصادية أو حتى سياسية. وهي عبارة عن فترة أو مرحلة ما بعد الأزمات “الثورات”، ويقصد بها العدالة التي تنتقل بالمجتمعات من حالات الصراع إلى حالة التوافق والسلام، وصولاً إلى نظام ديمقراطي يمنع تجدد الصراعات.
أهمية العدالة الانتقالية
بعد وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، يحق للضحايا معرفة الحقيقة، والحصول على تعويضاتٍ تجبر بعض الضرر الذي لحقهم، وكذلك معاقبة الجناة. ولأن الانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لا تؤثّرعلى الضحايا المباشرين فحسب، بل على المجتمع ككل، فمن واجب الدول أن تضمن، بالإضافة إلى الإيفاء بهذه الموجبات عدم تكرار تلك الانتهاكات، ومن ذلك؛ واجب خاص يقضي بإصلاح المؤسسات التي كان لها يد في الانتهاكات أو كانت عاجزة عن تفاديها. أن تاريخاً حافلاً بالانتهاكات الجسيمة التي لم تُعالج، سيؤدي على الأرجح إلى انقسامات اجتماعية، وسيولد غياب الثقة بين المجموعات و في مؤسسات الدولة، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما، كما أنه سيطرح تساؤلات بشأن الالتزام بسيادة القانون، وقد يؤول الأمر في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف متعدد الأشكال. وهنا يمكن تلخيص أهمية العدالة الانتقالية في ثلاث نقاط:
الحق في إقامة العدل
العدل في أصل معناه اللغوي يعني المساواة والإنصاف، وأبسط مفاهيمه هو إعطاء كل ذي حقٍ حقه. فالعدل هو مجموعة القواعد التي يكشف عنها العقل ويوحي بها الضمير، ويرشد إليها النظر الصائب لتحقيق المساواة بين الناس. وإذا كان مثلث الكرامة الإنسانية يشتمل على الحق والمساواة والحرية، فإن الثلاثة نتاج العدل. أجمعت البشرية ألا حياة آمنة مستقرة، تحقق للبشرية طموحاتها دون توفر هذه القيمة المسماة «العدل»، ولهذا نشأت الدساتير والقوانين. أما في الإسلام فإن العدل هو القيمة الكبرى، التي من أجلها أَرسلَ الله الرسل وأنزل عليهم الكتب ليحكم بين الناس بالقسط، فغاية رسالات الله إلى البشر، إنما هي العدل. وقد أدرك الانسان بعد الحروب والنزاعات الأثر العظيم والقيمة الكبيرة للعدل في المجتمع، زد على ذلك الحاجة الماسة اليه، إذ تصان به الدماء والأنفس والأعراض والحرمات، وبه تُحفظ الحقوق والحريات والاموال والممتلكات، وتُطبق القوانين على الجميع، ويُقضى على الفساد، ويُشاع الأمن والاطمئنان، ويَعمُّ السلام والاستقرار وتُبنى البلدان وتتطور.
جاءت العدالة الانتقالية للحد من الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الانسان، وتهدف الى تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات وتعزيز امكانية اقامة العدل والديمقراطية، وليست العدالة الانتقالية شكلاً خاصاً من أشكال العدالة، بل هي تكييف للعدالة على نحو يلائم مجتمعات تمر بمرحلة حرجة، في أعقاب فترة تفشّت فيها انتهاكات حقوق الانسان، لذلك كان لابد من اقامة العدل وزرع الثقة في نفوس أولئك الضحايا، بأن العدل لابد آتٍ ولو بعد حين، وهذا ما يرمي إليه الداعين الى تطبيق العدالة الانتقالية.
الحق في معرفة الحقيقة
غالبً ما تسعى المجتمعات التي تعيش المرحلة الانتقالية، الى فهم مدى وطبيعة العنف أو الانتهاكات التي وقعت أثناء حكم النظام السابق، ويكون مطلب الضحايا، وكذلك المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الانسان، هو كشف الحقيقة حول الماضي، كردّ فعل على أعمال النظام السابق الذي اعتمد على الأكاذيب والخداع. أكدت الأمم المتحدة على حق ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وأسرهم في معرفة الحقيقة بشأن الظروف التي تمت فيها الانتهاكات، والاسباب الدافعة لارتكابها، وهوية مرتكبيها. قال الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون بهذا الخصوص: “إن كشف الحقيقة يساعد المجتمعات بأسرها على تعزيز المساءلة عن الانتهاكات، نظراً لأن عملية التوصل الى معرفة الحقيقة تشمل في غالب الاحيان اجراء تحريات لتقصي الحقائق، وإدلاء الضحايا والجناة بشهاداتهم، مما يساعد على وضع سجل مشترك للأحداث ويسهل تضميد الجراح والمصالحة”.
الحق في التعويض:
أمام الانتشار الواسع لانتهاكات حقوق الإنسان، أصبح لزاماً على الحكومات، ليس فقط التصدي لمرتكبي التجاوزات وحسب، بل أيضاً ضمان حقوق الضحايا. إن بإمكان الحكومات تهيئة الظروف الملائمة لصيانة كرامة الضحايا، وتحقيق العدل بواسطة التعويض عن بعض ما لحق بهم من الضرر والمعاناة. يمكن التمييز بين التعويضات بحسب النوع (مادية ومعنوية) والفئة المستهدفة ( فردية/ جماعية). ويمكن أن يتم التعويض المادي عن طريق منح أموال أو محفزات مادية، وتقديم خدمات مجانية أو تفضيلية كالصحة والتعليم والسكن. أما التعويض المعنوي فيكون تحقيقه على سبيل المثال عبر إصدار اعتذار رسمي، أو إعلان يوم وطني للذكر،. ويمكن ان يكون تخليد الذكرى في بلد آخر أيضاً. في هذا الشأن، أقامت فرنسا نصباً تذكارياً في باريس لمحمد بوعزيزي، الذي أشعل بجسده نار الثورة التونسية في ديسمبر 2010، والتي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي.
أهداف العدالة الانتقالية
تهدف العدالة الانتقالية بشكل عام إلى التعامل مع الموروث المتراكم، عبر عقود من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، وإعادة فرض المساءلة وتحقيق المصالحة، لتشمل كافة الضحايا، وتحميل الجناة المسؤولية بغض النظر عن انتماءاتهم ومناصبهم. وتمتاز عملياتها بالعقوبات حيناً وبالتصالح والعفو حينا آخر. وتعيد بناء ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة إلى جانب ثقتهم ببعضهم البعض. وتهدف العدالة الانتقالية بشكل أساسي إلى تحقيق المصالحة الوطنية، فبعد الإرث الكبير من انتهاكات حقوق الإنسان، تنحو المجتمعات إلى فقدان الثقة بحكم القانون وبآليات العدالة التقليدية، ويظهر ذلك جلياً في الدول التي تعاني من الحروب والنزاعات الأهلية، حيث يتشكل لديها الدافع القوي للرغبة بالانتقام، ما يدخل المجتمع في دوامة لا نهائّة من العنف المتبادل. كما تهدف العدالة الانتقالية إلى إصلاح مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مؤسسة الجيش والأمن، وكافة المؤسسات المتورطة في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، أو التي لم تمنع ارتكابها. وبهذا تكون قد منعت، وإلى حد كبير، تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل، ما يساهم في تعزيز الديمقراطية والسلام، وهما هدفان تصبو اليهما المجتمعات، بالتزامن مع تضميد جراحها والنهوض من محنتها بعد فترات من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
تتلخص الغاية النهائية من مشروع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية باستكمال المصالحة السياسية وبمصالحة مجتمعية، هدفها إرضاء المجتمع وحمله على القبول بالمصالحة عن طريق إنصاف الضحايا وأهاليهم، والمجتمع بمختلف فئاته وأطيافه السياسية والاجتماعية وصولاً إلى تحقيق السلم الاجتماعي عبر إشاعة الاخاء الوطني, وإجراء مصالحة وطنية شاملة مبنية على أُسس من الاعتراف بارتكاب الأخطاء واقتراف الانتهاكات وطلب العفو والاعتذار والتسامح والتصالح, لطي صفحة الماضي والتطلع نحو المستقبل بروح مجردة من الرغبة في الانتقام والثأر، وتعزيز الوحدة الوطنية والسلم الاهلي وبناء دولة القانون وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة والقانون، وتعزيز قيم الديمقراطية والحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان وتنمية وإثراء ثقافة وسلوك الحوار والقبول بالرأي الآخر، والعمل بمبدأ المساءلة والمحاسبة لضمان وقف استمرار ارتكاب الانتهاكات ومنع تكرار حدوثها مستقبلاً”.
فالعدالة الانتقالية لابد ان تبنى على ثلاث مرتكزات اساسية هي الصفح، العدل، والسلام، بحيث لا يوجد تعارض بين العفو والعدل ولا يؤدي العفو الى تهديد السلام. وضرورة تأكيد ذات الفرد واثبات حريته وإقامة المساواة الطبيعية والعدل بين افراد المجتمع ورفع جميع القيود التي تحد من حرية الانسان ونشاطه.
في ضوء ما تقدم، تقوم غاية العدالة الانتقالية على اساس مبدأين اساسيين يجسد مضمونها القيم الاجتماعية، هما مبدأ أمن المجتمع واستقرار المعاملات (السكينة الاجتماعية) ومبدأ تحقيق العــدل في المجتمع.
استراتيجيات واشكال العدالة الانتقالية
لتحقيق الاهداف السالفة ذكرها، لابدّ من اتباع استراتيجية ما. وللعدالة الانتقالية العديد من الاستراتيجيات، يمكن تقسيمها كما اسلفنا لدى تعريف مفهوم العدالة الانتقالية الى قسمين (قضائية وغير قضائية):
1ـ الاستراتيجيات القضائية: وهذه تقسم الى نوعين أيضاً، وهما لجان التحقيق والمحاكمات.
لجان التحقيق: مهمتها التحقيق في أنماط الانتهاكات المنتظمة والتبليغ عنها، والتوصية بإجراء تعديلات والمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. ويمكن لعملية تقصي الحقائق ان تشكل الركيزة الاساسية لجبر الضرر واصلاحات مؤسسية جذرية بما في ذلك اصلاح المؤسسات القضائية والقطاع الأمني المضطرب.
المحاكمات: وتشمل التحقيقات القضائية مع المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان. وكثيراً ما يركز المدَّعون تحقيقاتهم على من يُعتقد أنهم يتحمّلون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو الممنهجة. ويمكن القول: إن أول إعمال لهذه الآلية كان مع محاكمات نورمبرغ التي أُجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تتم على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي أو من قبل بعض الأجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون. وكثيراً ما تكون الاجراءات القضائية لوحدها غير كافية لحل الارث الكبير الذي ورثته الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت في فترة الظلم والطغيان. فإذا كان هناك مئات الآلاف من الجناة والضحايا، كيف يمكن انصافهم جميعاً عن طريق المحاكم؟ خاصة عندما تكون تلك المحاكم ضعيفة وفاسدة. وحتى اذا كانت تلك المحاكم تتمتع بالكفاءة والنزاهة اللازمة للقيام بمهامها، فلابد في نفس الوقت من اتخاذ مبادرات أخرى لإصلاح النسيج الاجتماعي الممزق.
2ـ الاستراتيجيات غير القضائية: ثمة آليتين في هذا الخصوص هما الاصلاح المؤسسي والتعويض.
الاصلاح المؤسسي: إنّ إصلاح المؤسسات هو العملية التي تتمّ بموجبها مراجعة مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها، بحيث تحترم حقوق الإنسان وتحافظ على سيادة القانون وتُخضع للمحاسبة كل من انتهك تلك الحقوق. وتساهم جهود الإصلاح في ضمان محاسبة المرتكبين الأفراد، وفي تعطيل البنى التي أتاحت حدوث تلك الانتهاكات. ويمكن أن يشكّل إصلاح مؤسسات الدولة الضالعة في انتهاكات حقوق الإنسان أحد تدابير العدالة الانتقالية المهمّة التي تروّج للمحاسبة وتساعد على تفادي تكرار الانتهاكات. اذ يجب إصلاح المؤسسات التي لعبت دوراً في هذه الانتهاكات (غالبا القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية.. وغيرها)، وإلى جانب ذلك لابدَّ من تطهير هذه الأجهزة من المسؤولين غير الأكفّاء والفاسدين، وإجراء تعديلات تشريعية وأحيانا دستورية.
ويهدف إصلاح المؤسسات كتدبير للعدالة الانتقالية إلى الاعتراف بالضحايا كمواطنين وحاملي حقوق، وإلى بناء الثقة بين كافة المواطنين ومؤسّساتهم العامة، لأن اصلاح المؤسسات بدون أية محاولة لتلبية التوقعات المشروعة للضحايا بشأن تحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة والتعويضات، ليس عديم الجدوى فقط بل من المستبعد ان يفلح في تحقيق النتائج المرجوة منه.
التعويض: وهذه مبادرات تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي. ويكون التعويض المادي عادة بتوزيع التعويضات النقدية أو الخدمات الصحية والعلمية المجانية على الضحايا أو ذويهم. بينما التعويض المعنوي يمكن ان يكون بان تلجأ الدولة المعنية بتخليد الذكرى، كإقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة، وترفع مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي، بهدف بناء سد منيع يمنع تكرارها مستقبلاً.
آليات العدالة الانتقالية في سورية
لكل تجربة طابعها الخاص، وليس ثمة نماذج عالمية حول كيفية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية أو حتى ضرورة مواجهتها. “ومن هذه الآليات الدعاوي الجنائية. وتتمثل بمحاكمة كبار المسؤولين المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة من الطرفين وتشمل أصحاب القرار في القيادة و الأمراء من ضباط الجيش وجهاز الاستخبارات والشرطة والأمن ضمن محاكمات وطنية سورية خاصة تنشأ لذلك، والحكم وفق القانون السوري والاستفادة من القانون الجنائي الدولي، وبإشراف المنظمات الحقوقية الدولية والعربية والأمم المتحدة، كي لا تتحول إلى محاكمات انتقامية” (عاصم امين، مستقبل العدالة الانتقالية في سورية). زد على ذلك فانه من الممكن اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية مستقبلا لمحاكمة كبار مرتكبي جرائم الحرب في سورية، ان قامت هيئة الحكم الانتقالي المزمع تشكيلها وفق القرار 2254 بالتصديق على نظام روما لعام 1998 واعلنت قبولها باختصاص المحكمة الجنائية الدولية للجرائم التي تقع ضمن صلاحياتها والمرتكبة قبل تاريخ الانضمام (المواد 11و12 من نظام روما). دون ان ننسى بان الجرائم التي تقع ضمن اختصاص هذه المحكمة لا تسقط بالتقادم (المادة 29 من نظام روما).
“ومن آليات العدالة الانتقالية السريعة أيضاً جبر الضرر. وذلك بتنفيذ برامج إعادة الحقوق والتعويضات لضحايا سياسات النظام وحزبه وأجهزته القمعية، قبل الثورة وأثنائها. وتشمل التعويض المعنوي والمالي” (عاصم امين). اذ لابد من اعادة الممتلكات التي سلبها نظام الاسد الاب والابن من المواطنين الضعفاء أو المناهضين للنظام القمعي ومنحها لأصحاب النفوذ او لشراء الولاءات. على سبيل المثال لا الحصر؛ لابد من اعادة الاراضي التي سُلبت من الاكراد في منطقة الجزيرة السورية ومُنحت للعرب الذين غمرت اراضيهم بمياه الفرات في منطقة الرقة.
مرت دول بمثل هذه التجارب يمكن الاستفادة منها. مثلاً “الإجراءات الألمانية فيما يتعلق بالتعويضات بعد الحرب. وكذلك تجربة المغرب. وكذلك حين طالبت الحكومة التشيكية بإرجاع كافة الملكيات التي تمت مصادرتها من أراضي وعقارات بين أعوام 1984-1990م خلال الفترة الشيوعية إلى المالكين الأصليين” (عاصم امين). فلا بد من مصادرة أملاك آل الاسد والمقربين منه كآل شاليش ومخلوف والذين استولوا على أموال الشعب السوري ومقدراته واصبحوا ينعمون بالغنى الفاحش لا بسبب مقدراتهم وكفاءاتهم الفردية بل بسبب استحواذهم غير المشروع على السلطة في سورية.
ولابدَّ في سورية الجديدة من “تأهيل المتضررين، المدنيين والمقاتلين، جسدياً ونفسياً، وتخليد ذكرى ضحايا الحرب والمجازر” (عاصم امين)، كالطفل حمزة الخطيب والمقدم حسين هرموش والسيد مشعل تمو وابراهيم قاشوش وغيرهم، “من خلال بناء نصب تذكارية، أو إطلاق أسمائهم على المدارس والمراكز والأبنية المدنية والحكومية. وتدريس هذا التاريخ المريض في المناهج المدرسية لترسيخ حقبة تاريخية مؤلمة في الذاكرة السورية القادمة إلى الحياة، وتمتين سيادة القانون لمنع تكرارها، ولتكون رموزاً للمصالحة الوطنية، وتأسيساً للسلم الأهلي، وتعبيراً عن انتهاء فترة الحكم المتسلط وإحلال الحكم الديمقراطي. وهي مهمة الحكومة الانتقالية أو هيئة الحكم الانتقالي في سوريا، قبل الوصول إلى إجراء أية انتخابات برلمانية أو حكومية. ويمكن الاستفادة من تجارب الشعوب التي لها باع طويل في إجراءات العدالة الانتقالية” (عاصم امين).
“وهنالك آليات أخرى للعدالة الانتقالية بعيدة المدى، وذلك لتعقيد إجراءاتها وحاجتها لفترات زمنية طويلة، كلجان تقصي الحقائق، وإصلاح المؤسسات. بالنسبة للجان تقصي الحقيقة المراد تشكيلها في سوريا عليها أن تكون مختلطة، وطنية وعربية ودولية وبإشراف خبراء دوليين مستقلين وبمراقبة المنظمات الدولية والأمم المتحدة وبمرسوم من الحكومة الانتقالية وذات صلاحيات واسعة، ويكون تمويلها وطنياً تحسّباً لأي تأثير أو أجندة. مهمتها كشف الحقيقة للسوريين والعالم وتقديم سجل تاريخي للانتهاكات ضمن المعايير المؤسس لها. هذا فيما يتعلق بالقضايا والانتهاكات الجسيمة والكبيرة. وتشرف كل لجنة على الموضوع المنتهك او الجريمة المراد كشفها ابتداءً من استلام النظام وحزبه السلطة، ومروراً بالثورة وحتى انتهاء النزاع بين الطرفين وتشكيل الحكومة الانتقالية” (عاصم امين). ويمكن الاعتماد على مكاتب التوثيق التي عمل لها ناشطو الثورة السورية بشرط ان تكون قد راعت معايير التوثيق المعتمدة دولياً. . إلا انه يجب الاخذ بعين الاعتبار ان لجان التحقيق تتناول الوقائع التي يمكن ان تكون موضوعاً للمحاكمة. ولا يمكن ان نساوي بينها وبين الهيئات القضائية، ولا يمكن ان تكون بديلاً عنها. اذ ان هذه اللجان هي هيئات غير قضائية، وصلاحياتها أقل بكثير من سلطة المحاكم، فليس لها سلطة السجن وليس لها سلطة تنفيذ توصياتها. ويمكن القول: إن لجان التحقيق هي رديفة للمحاكم.
“وتتقصى هذه اللجان الانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية للسوريين حتى تلك الانتهاكات التي حدثت قبل الثورة عام 2011 كمجزرة حماه 1982م، وجريمة حرق سجن الحسكة 1993م. ناهيك عن الإعدامات والقتل خارج القضاء في سجون سوريا – كسجنيّ تدمر وصيدنايا مثلا -وكذلك الانتهاكات بحق المعتقلين في سجون النظام، والكشف عن المتورطين في تلك الانتهاكات، والمؤسسات المسؤولة عنهم. وكذلك الجرائم الاقتصادية، كنهب المال العام وتسخير موارد البلاد في الحرب لقمع الثورة، والإقصاء العرقي والقومي بحق الأقليات والمكونات غير العربية، والاستيلاء على ممتلكاتهم، كالاستيلاء على الأراضي التابعة للأكراد في الجزيرة 1974م، وإعطائها لعرب الغمر كما ذكرنا سابقاً، والكشف عن الجريمة السياسية المتوحشة في (انتفاضة القامشلي) بحق الكرد 2004. ” (عاصم امين). ونظرا لكثرة الانتهاكات التي حدثت في سورية قبل الثورة وخلالها ولصعوبة او استحالة محاكمة كل من انتهكَ حقوق المواطن السوري وارتكب الفظائع، يمكن الاستفادة من التجربة المغربية بخصوص الانتهاكات التي حدثت في سورية قبل 2011، اذ أُنشئتْ في المغرب هيئة الانصاف والمصالحة، في سياق البحث عن حلول واقعية لمعالجة حقيقة الانتهاكات الجسيمة التي تخللت سنوات الرصاص (1956- 1999) والتي ذهب ضحيتها العديد من الناشطين السياسيين والحقوقيين. وقد قدمت نموذجا للعدالة الانتقالية يهدف للوصول الى إرساء الحقيقة وجبر الضرر الفردي والجماعي والكشف عن حقيقة حالات الإخفاء القسري والاعتقال السياسي وإصدار توصيات لتفادي تكرار الانتهاكات مستقبلا، دون ان يكون لها الحق في تحريك الدعاوى القضائية ضد المنتهكين. وقد ساهمت التوصيات التي انتهت اليها الهيئة في وضع المسار الديمقراطي في المغرب على السكة الصحيحة.
“اما آلية إصلاح المؤسسات فهي عملية طويلة مهمتها تحويل مؤسسات القضاء والشرطة والجيش والاستخبارات إلى مؤسسات نزيهة في خدمة العامة والشعب وتعمل على حفظ السلام وتمتين القانون وسيادته. وتعتمد بشكل فعلي على إصلاح القطاع الأمني والتطهير المؤسسي، وتدقيق الاختيار والإشراف والتأهيل، ونزع السلاح والتسريح وإعادة الاندماج. وهذه هي إجراءات الإصلاح المؤسسي التي يجب إتباعها لتعود المؤسسات إلى الشعب وتتطهر من سيادة حزب البعث والأجهزة الأمنية والفاسدين والمتورطين في ما آلت إليه سوريا” (عاصم امين).
“وتلعب هنا مؤسسات المجتمع المدني دوراً كبير في إنجاح خطط العدالة الانتقالية في سوريا من خلال نشر الوعي القانوني وتقديم التسهيلات لإجراءات المحاكم، وفي توثيق الجرائم والانتهاكات. وبإمكانها الإشراف على سير العدالة الانتقالية وتقديم المساعدة والمشورة للجان تقصي الحقائق وتشجيع الضحايا لتقديم شهاداتهم والتمثيل لقضاياهم ورفع الدعاوي ضد المسئولين عن الجرائم، للانتقال بسوريا من حالة الاستبداد والشمولية الى حالة الديمقراطية والمدنية والتعددية وفق دستور يحمي ويصون حقوق الجميع” (عاصم امين). وعلى سبيل المثال فقد لعبت منظمات المجتمع المدني في البوسنة دورا ضاغطا على القوى المتفاوضة لوضع ملف المفقودين على طاولة الحوار في مدينة دايتون 1995، وفي الحالة السورية أولى مبعوث الامم المتحدة الخاص بسورية السيد ستافان ديمستورا اهتماما كبيرا بالمجتمع المدني السوري، منظمات ومستقلين، اذ أنشأ غرف خاصة لدعم المجتمع المدني ويتم دعوة الكثير من المنظمات والشخصيات المستقلة الى جنيف بالتزامن مع عقد جولات التفاوض بين النظام والمعارضة، ويتولى المجتمع المدني مناقشة القضايا التي يخشى المشاركون ان يتجاهلها طرفي التفاوض، كقضايا المعتقلين والمفقودين وعودة اللاجئين واصلاح القطاع الامني ومؤسسات الدولة ومسار العدالة الانتقالية وضرورة التركيز على مبدأ عدم الافلات من العقاب، وكوني من المشاركين الدائمين في تلك الاجتماعات أعلم مدى الجهد الذي يبذله المجتمع المدني السوري للضغط على طرفي التفاوض والمجتمع الدولي لوضع كل تلك القضايا بالحسبان عند التوصل لاتفاق سياسي قد ينهي الحرب السورية المدمرة، مع علمنا بانه قد يتم اهمال الكثير من طلبات المجتمع المدني السوري في ذلك الاتفاق المرتقب، وفقا للعبة المصالح والتجاذبات السياسية.
الهدف من العدالة الانتقالية في سورية
“باتت الدعوة إلى العدالة الانتقالية كمنهج لمعالجة قضايا وانتهاكات الماضي، حاجة ملحة في سوريا، بسبب التاريخ والإرث الكبير من الانتهاكات والتجاوزات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الجنائي الدولي، وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، ونزوح الآلاف من العائلات, والاعتقالات التعسفية الانتقائية، والاختفاء القسري، والقتل خارج القضاء واستخدام الأسلحة المحرمة بحق السوريين، نتيجة الصراع الدائر والنزاع المسلح بين المعارضة والنظام منذ أكثر من ست سنوات. لذا أصبحت العدالة الانتقالية غاية قصوى في سوريا” (عاصم امين). ولان الحروب الداخلية تحت أي اسم اندرجت، تترك بلا أدنى شك شرائح واسعة وعريضة من المواطنين لا يفارقهم الشعور بالغبن، مما يغذي الرغبة العارمة بالانتقام، كلما أغفل المجتمع واجبه في المحاسبة والقصاص.
حيث ان عدد الضحايا في سورية فاق الحدود التي يمكن ان يتخيلها العقل البشري, اذ انه بتاريخ 7/1/2014 ذكر الناطق باسم مفوضية الامم المتحدة “روبرت كولفيل” ان المنظمة توقفت عن تحديث حصيلة ضحايا النزاع في سورية, بعد ان تجاوز العدد 100 ألف قتيل. علماً ان الامم المتحدة تعتمد اسلوباً معقداً لتقييم أعداد الضحايا، يقوم على تحليل الكثير من مصادر المعلومات وتأخذ بالاعتبار فقط حالات القتلى الذين تتوفر أسماؤهم الكاملة ومكان مقتلهم وتاريخه. وبعد التأكد من ان مصادر المعلومات موثوق بها. وهذا يعني ان هناك عشرات بل مئات الآلاف من الضحايا الذين لم يتم ذكرهم لا في تقارير الامم المتحدة ولا في تقارير غيرها من المنظمات بسبب صعوبة معرفة اسم الضحية في حالات كثيرة. فمثلا هناك الكثير ممن قتلوا تحت التعذيب في سجون النظام السوري ولم يتم ابلاغ أهاليهم بمكان وجودهم ولم يتم تسليمهم الجثث، فقد وثقّت منظمة “العفو الدولية” في تقرير تحت عنوان “المسلخ البشري” نشرته بتاريخ 7/2/2017 قيام النظام السوري باعدام 13000 معتقل في سجن صيدنايا أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015. وهناك الكثير ممن قتلوا نتيجة التفجيرات في العديد من المدن السورية وتحولوا لأشلاء من المستحيل التعرف على هوية أصحابها. وهناك الكثير من المقابر الجماعية التي اكتشفت في سورية، وكانت الجثث متفسخة يصعب التعرف عليها. وكقاضٍ عايش الثورة السورية لأكثر من عام ونصف في دمشق وريفها، قمت بالكشف على الكثير من جثث القتلى، أحياناً كنّا نأمر بدفن الجثة عن طريق مكتب دفن الموتى دون أن نتمكن من معرفة هوية الضحية.
وهنا، يتعيّن على الحكومة الانتقالية التي ستتولى تطبيق العدالة الانتقالية في سورية ايجاد حل لأهالي الضحايا الذين فُقدوا نتيجة النزاع الدائر في سورية دون ان يُعرف مصيرهم، بهدف إيجاد أو خلق نوع من العدالة للضحايا والمتضررين من سجن وتعذيب واغتصاب وموت ونزوح وخسارة في الممتلكات,، ومحاسبة أو معاقبة المسؤولين من طرفي النزاع في الثورة، وتقديمهم إلى محاكمات عادلة، والاعتراف بوقوع تلك الانتهاكات، وتعزيز السلام الاجتماعي والمصالحة الوطنية السورية وتوثيق الماضي الأليم، وإيجاد سجل تاريخي للمجتمع السوري المتنوع بمكوناته، بهدف معالجة معظم الانقسامات داخله. بالإضافة إلى إعادة الاعتبار والسيادة للقانون السوري الغائب وتمتينه وتعديل بعض مواده بما يتوافق مع القوانين الدولية، لمنع تكرار وقوع الانتهاكات مرة أخرى. ولضمان تحقيق قيم الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها وتأهيل مؤسسات المجتمع المدني للعمل في سورية، وبناء دولة حديثة ديمقراطية مدنية تعددية تضمن لكل المواطنين الحق الإنساني فيها.
مستقبل العدالة الانتقالية في سورية
ان معرفة الحقائق حول جرائم حقوق الانسان بقدر ما تهيئ أرضية لاحترام تجارب الآخرين, فأنها من الأهمية بمكان لمعرفة العناصر البنيوية في تركيبة اجهزة الدولة التي أدت لحدوث مثل هذه الاخطاء، والمساعدة في عدم تكرارها في المستقبل. فكما تؤكد الدراسات المستندة لتجارب الماضي وطرق المعاملة الحالية في الحاضر كأساس نحو حلول مستقبلية، فان الاختلاف في فهم المعاملة المنصفة يؤثر على تشكيل مفهوم الانسان عن العدالة. فالكيفية التي ينظر بها الأفراد أو الجماعات للطرق التي يعاملون بها تؤثر بالضرورة على تشكيل سلوك يتسم بروح التعاون أو المقاومة. الأمر الذي يؤثر تأثيراً قوياً على أي عملية بناء واستقرار السلام والديمقراطية بالبلاد.
ان اطلاق عملية العدالة الانتقالية في سورية ستكون من أصعب وأعقد الامور التي ستواجه المجتمع السوري بعد سقوط النظام. اذ لا يمكن لأحد ان يتحدث باسم الضحايا. وقضية تحقيق العدالة بالنسبة للكثير من أسر الضحايا لا تسامح معها ولا التفاف أو تهاون فيها. ففي أي مجتمع سيكون هناك من يقف في وجه العملية الاصلاحية. والعدالة الانتقالية في سورية لابد ان تواجه بالكثير من المعوقات. ولن يكون معارضو تطبيق العدالة الانتقالية قلةً ابداً. فالكثير من الطبقات الاجتماعية والنخب السياسية ستكون بالمرصاد لها. ومن السذاجة القول بأنه يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في سورية بشكل سلس. لان مناصري الاسد ومن كان يستفيد من فساد النظام، ومن تحولوا الى امراء حرب في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام _وان كانوا سيقبلون علنا بسقوط النظام وانتصار الثورة _ الا انهم سيعرقلون اية عملية اصلاحية بشتى الوسائل. ومن الممكن ان يلجأوا الى التفجيرات الارهابية لإثبات ان الاسد كان يدير البلاد بطريقة افضل، أو للعودة الى حالة الفوضى التي أغرقتهم بالمال والسلطة. وقد حصل ذلك في الكثير من الدول التي شهدت سقوط الانظمة الدكتاتورية كالأرجنتين والعراق. وكلما طال امد الثورة كلما ازداد عدد المعرقلين للعدالة الانتقالية. لان الكثيرين ممن اعلنوا ولائهم للثورة امتطوها وحققوا الكثير من المكاسب السياسية والمادية منها. ومن المستبعد تماماً ان يتخلّى هؤلاء عن تلك المكاسب بسهولة وطواعية.
إن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وانتشار التطرف الديني الاقصائي أو الارهاب، عوامل ستؤدي بالنتيجة الى فقدان المناخ المناسب للعدالة الانتقالية. ولا يخفى أيضاً أثر تأخر المجتمع السياسي السوري، وافتقاره الى الادوات السياسية الاساسية من أحزاب وتجمعات سياسية محترفة في اضافة تحديات جديدة لعملية العدالة الانتقالية. إن افتقار مجتمعنا الى ثقافة المشاركة السياسية، وندرة مظاهر المجتمع المدني، من نقابات وجمعيات ومنتديات لا يجعل الطريق معبداً لنجاح العدالة الانتقالية على الوجه الاكمل. ولا يمكن تجاهل التأثير المعرقل للبنية الثقافية السورية المهيئَة أصلاً للشحن الطائفي، نتيجة الموروث الاجتماعي المغلوط أحياناً، ونتيجة ممارسات النظام المغرقة بالطائفية، والتي تضاعفت خلال الثورة، ما أدى الى موجات من الطائفية والطائفية المضادة التي غزت المشهد السوري. كما ان ضعف الامكانيات الاقتصادية وقلة الموارد سيؤثر سلباً في ايجاد الادوات المناسبة لتحقيق العدالة الانتقالية.
ومع ذلك، فان السبيل لتحقيق العدالة الانتقالية في سورية ليس مسدوداً. وعلى الحكومة الانتقالية السعي لتعزيز انفاذ القانون، باختيار جهاز قضائي من ذوي الخبرة والكفاءة، لضمان المحاكمات العدالة لرموز الفساد السياسي والمالي وكل من تسبب في قتل المواطنين. ولا بد من رصد اجراءات المحاكم بمراعاة قوانين الاجراءات القضائية، بما فيها حق الدفاع، لضمان نزاهة وحياد القضاء وتجنيبه الضغوط المتنوعة التي يمكن ان يتعرض لها في معرض عمله المهني.
ولابد من اقرار التعويضات المادية والمعنوية, لضمان تهيئة المناخ المناسب للمصالحة الوطنية واعادة ثقة الجمهور بالدولة ومؤسساتها. زد على ذلك ضرورة صياغة دستور جديد ينسجم مع المعايير الدولية، ولا سيما الشرعة الدولية لحقوق الانسان، اضافة الى ضرورة تعديل التشريعات الوطنية كي تنسجم مع الدستور الجديد من جهة, ومع المعايير الدولية المعمول بها من جهة أخرى. ورغبةً في تطبيق الآليات السابقة يفضل الاستعانة بذوي الخبرة في هذا المجال على المستوى الدولي.
مسار العدالة الانتقالية مرتبط بالاستقرار السياسي وانصراف ارادة المواطنين والقوى السياسية الى التفكير الجدي بطي صفحة الاقتتال، والمضي في المصالحة الوطنية نحو دولة الحق والقانون. الا ان الاستقرار السياسي نفسه مرتبط بجدية الاجراءات الضامنة للعدالة الانتقالية ومسار تحقيقها على قاعدة (توازن الحقوق) دون تجاوز أو اهمال لأي منها. فالإحساس بالغبن عامل حاسم في عدم الاستقرار. ومن شأنه ان يفتح الطريق لخيارات أخرى أخطرها محاولات (استيفاء الحق بالذات). ويبقى ان يدرك الجميع حتمية مرحلة العدالة الانتقالية, وانه لابد من توفر الارادات بما يكفي الدفع بعملية المصالحة والبناء ورأب الصدع المجتمعي الذي سعى اليه النظام جاهداً، وضرورة المساءلة القانونية لكل اركان النظام وكل من تلطخت أيديهم بالدم السوري.
خلاصة
من خلال ما تم سرده آنفاً نرى ان العدالة الانتقالية ضرورة ملحة لكل دولة تمر بمرحلة المخاض بين الحَبَل المثقل بتركة من الصراعاتِ والجرائم والظلم والدكتاتورية, وبين الولادة القيصرية لنظامٍ ديمقراطي يسدل الستار على تلك الصراعات والجرائم التي أُرتكبتْ بحق الانسان, اذاً الانسان هو نفسه من يرتكب الجرائم ويختلق الحروب والنزاعات المدمِّرة, وهو نفسه من يسعى لمقاضاة مرتكبي تلك الجرائم ومشعلي فتيل الحروب, وهو من ينشر الظلم في أرجاء المعمورة وهو من يبحث عن العدل فيها, أيها الانسان أنت ذلك الجَرمُ الصغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر, للأسف أنت مصدر الداء وفيك يكمن الدواء.!!! والعدالة الانتقالية وان كانت تهدف لتحقيق العدل في مرحلة المخاض, فان هذه العدالة هي من نسيج خاص, لان العدل هنا لا يمكن أن يرقى الى درجة ذاك الذي يمكن تحقيقه في حالات الاستقرار الطبيعية, وذلك لان المرحلة الانتقالية مرحلةٌ بالغة الحساسية وتهدف الى تحقيق المصالحة الوطنية, وذلك بمقاضاة مرتكبي الجرائم وجبر الضرر للضحايا, الا ان الضرورة قد تقتضي أحياناً الصفح عن البعض درأ للفتنة ولمنع مؤيدي فساد النظام السابق, او حالة الفوضى والظلم السابقين من اثارة القلاقل وادخال البلاد في دوامة العنف المَقيت, ونبذ سياسات الإقصاء والعنف, اذ يقول المفكر التشيلي سكرتير منظمة الاشتراكية الدولية لويس أيالا “بعد إقصائنا بينوشيه احتويناه وفتحنا أذرعنا للذين أقصونا لنبني وطننا، وهذه هي الديمقراطية الحقيقية”. وان كانت المحاسبة والقصاص حقٌ للمجتمع الذي عانى الويلات, فمن حقه أيضاً منح العفو في حالات معينة, ان رأى ان هذا العفو سيمنع سقوطه(المجتمع) ثانيةً في ذاك الوادي السحيق الذي ما لبث ان خرج منه بعد أن ضحَّى بدماءٍ ودموعٍ كثيرة, فالمصالحة الوطنية تهدف الى غسل القلوب المكلومة من دنس الماضي المرير, دون العقول لأن الأخيرة لابد ان تتذكر ذلك الماضي كي لا يتكرر. وذلك بان تفكر تلك العقول بضرورة الاصلاح المؤسسي وتخليد الذكرى للانتهاكات الماضية.
.
.