#########

أبحاث

في مقدمّات الثورة السورية (2): حين فتحت حفنة من المثقفين الطريق أمام التغيير


حجر الأساس في حركة المجتمع المدني السوري المعاصرة كان بلا شك بيان الـ 99

28 / تموز / يوليو / 2018


في مقدمّات الثورة السورية (2): حين فتحت حفنة من المثقفين الطريق أمام التغيير

 

وائل السوّاح – تلفزيون سوريا

 

يبدو أن السينما كان مقدرا لها أن تكون المدخل لحركة المجتمع المدني السوري المعاصرة. في السنوات الأخيرة من عهد حافظ الأسد بدأ نفر من المثقفين السوريين بالتفكير في وسائل للخروج من المستنقع الذي كان يغرق فيه المجتمع السوري. وجاءت المبادرة الأولى من السينمائيين العاملين في “المؤسسة العامة للسينما” وهي هيئة حكومية تحتكر إنتاج الأفلام السينمائية واستيرادها وتوزيعها في البلاد. لقد وجد العاملون في هذه المؤسسة من مخرجين وكتاب سيناريو وعاملين في المونتاج وغيرها من مراحل الإنتاج أن المؤسسة تنهار تحت ضغط التخطيط السيئ والقوانين الإدارية والمالية القاصرة وبسبب الفساد المنتشر في إدارتها. فقاموا بحملة تطالب بوقف تدخل السلطة (السياسي) في عمل المؤسسة (الثقافي)، وبلغت الحملة أوجها عندما أصدر السينمائيون بيانا يعبرون فيه بجرأة عن مطالبهم.

 

كانت حركة السينمائيين رائدة في دفاع الثقافة عن نفسها وفي المساهمة في كشف سوء أحوال الإدارات الحكومية، كما يقول حسّان عباس الناقد المعروف ومؤسس الرابطة السورية للمواطنة. صحيح أنهم لم يخرقوا الخطوط الحمراء المحدِّدة لدائرة نشاطهم لكن، لو أن فئة أخرى غيرهم قامت بالمبادرة ذاتها، في اللحظة التاريخية ذاتها، لتعرضت من دون شك لاستبداد السلطة وظلمها بشكل أكبر. بيد أن السلطة كانت في أحايين معيّنة تعطي كانت تعطي هامشا من الحرية للثقافة. ولعل هذا الهامش أن يكون أوسع وأرحب لأهل السينما مما هو لغيرهم. والسبب في ذلك أن السلطة السياسية كانت تستثمر إبداع السينمائيين السوريين في تلميع صورتها حيث أن الكثير من الأفلام السورية كانت تلقى استحسانا عالميا وتفوز بجوائز عديدة في المهرجانات الدولية. وظهر في سوريا على امتداد تسعينيات القرن الفائت عبترة “سينما المهرجانات” في وصف السينما السورية، ذلك أن السلطة كانت تفتخر بإنجازات السينما الوطنية عالميا، وفي الوقت نفسه تمنع عرض هذه الأفلام في الصالات السورية، مثال: أفلام “الليل” لمحمد ملص، “نجوم النهار” و”صندوق الدنيا” لأسامة محمد، وكافة أعمال المخرج الراحل عمر أميرلاي.

 

ويبدو أن بيان السينمائيين كان مقدمة لفعل مدني آخر. فقد بادر حسان عباس وهو ناقد أدبي وأستاذ جامعي إلى كتابة بيان آخر أطلق عليه اسم “بيان المثقفين لدعم السينمائيين”، وقد وقّع على البين جمع من الأفراد المؤثرين والمرموقين في عالم الثقافة. وقد أرسل الموقعون البيان إلى جريدة الثورة لكنها لم تنشره، ولكنه نشر في جريدة لبنانية. ولكي نفهم مغزى هذ البيان، يجب أن نتذكر أنه الرابع من نوعه في السنوات الأربعين التي سبقته: كان الأول بيان المثقفين ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، والثاني بيان المثقفين ضد مشاركة قوات سورية في القوات متعددة الجنسيات والثالث هو بيان السينمائيين السوريين، والرابع كان بيان المثقفين الداعم للسينمائيين.

 

 بعد البيان مباشرة حدث إشكال مع الروائي السوري المرموق ممدوح عزام من محافظة السويداء جنوب البلاد، عندما حارب بعض المتشددين روايته (قصر المطر) وأثاروا عليه مجموعة من الأفراد المتعصبين مذهبيا الذين هددوا سلامته. وقاد الحملة على الكاتب والرواية بعض مشايخ عقل الطائفة الدرزية في سوريا، الذين اتهموا الكاتب بالزندقة والمروق على تعاليم الدين، ما أدى الى توترات كبيرة بين أفراد طائفة الدروز الموحدين في جنوب سوريا. تقع الرواية، في ستمائة صفحة وتتناول أحداثا في مطلع القرن الفائت، عبر شخصيات تعيش طقوسيات خاصة تصل الى حدود الواقعية السحرية في عالم جنسي مفتوح.

 

ردّ فعل المثقفين جاء في بيان مهم جدا صدر في في السويداء من شخصيات ومثقفي السويداء وقد وقع عليه ما يقارب 600 شخص، وعندها خوفا من أن تصبح القضية قضية خاصة بالسويداء والطائفة الدرزية سارع خمسون مثقفا في دمشق إلى إصدار بيان مؤيد لممدوح عزام ولحقه وحق المثقف عموما في التعبير عن رأيه.

 

ولكن حجر الأساس في حركة المجتمع المدني السوري المعاصرة كان بلا شك بيان الـ 99. فلم يمرّ وقت على وفاة دكتاتور سوريا حافظ الأسد، حتى عبّد تسعة وتسعون مثقفا سوريا الطريق أمام مثقفين وسياسيين آخرين للعمل العلني، من خلال توقيعهم ونشرهم، في 27 أيلول/سبتمبر 2000، ما سوف يعرف في التاريخ السوري المعاصر باسم “بيان التسعة والتسعين.” بعض الموقعين كانوا مفكرين وأكاديميين وكتابا وأساتذة جامعات، ولكن بعضهم الآخر كان سياسيا من أحزاب سياسية معارضة، وهو ربما ما أعطى البيان الشهير صبغة سياسية أكثر منها مدنية. ومع ذلك فقد كان هذا البيان الشرارة التي أشعلت الحريق. وتأتي أهمية البيان في أنه لم يكن خاصة بموضوع محدد أو مؤسسة بعينها، بل كان شاملا لكافة مناحي الحياة السياسية والمجتمعية. وإن كان للبيان فضل واحد فقط فهو أنه أول من بدأ بإزالة الخوف المقيم لدى السوريين منذ عقود.

 

ولأول مرة منذ عقود يجتمع مثل هذا العدد من النخبة السورية على المطالب التالية: “انطلاقاً من هذه الحاجة الموضوعية، وحرصاً على وحدتنا الوطنية، وإيمانا منا بأن مستقبل بلدنا لا يصنعه غير أبنائه، وبوصفنا مواطنين في نظام جمهوري يمنح الجميع الحق في إبداء الرأي وحرية التعبير، فإننا نحن الموقعين، ندعو السلطة إلى تحقيق المطالب الآتية:

أولاً: إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ العام 1963.

ثانياً: إصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسية، والسماح بعودة المشردين والمنفيين السياسيين جميعاً.

ثالثاً: إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين بالتعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق اجتماعي وتنافس سلمي وبناء مؤسساتي يتيح للجميع المشاركة في تطوير البلاد وازدهارها.

 

إن أي إصلاح سواء كان اقتصادياً أم إداريا أم قانونياً، لن يحقق الطمأنينة والاستقرار في البلاد، ما لم يواكبه في شكل كامل، وجنباً إلى جنب الإصلاح السياسي المنشود، فهو الوحيد القادر على إيصال مجتمعنا شيئاً فشيئاً إلى بر الأمان.”

 

وقد وقع البيان نخبة من ألمع المثقفين منهم عبد الهادي عباس وعبد المعين الملوحي وأنطون مقدسي وبرهان غليون وصادق جلال العظم وميشيل كيلو وطيب تيزيني وأدونيس وعمر أميرلاي ونائلة الأطرش وحيدر حيدر ونزيه أبو عفش وعبد الرزاق عيد وجاد عبد الكريم جباعي وفارس الحلو وحسان عباس وحنان قصاب حسن وجوزيف لحام وعطية مسوح وواحة الراهب ونوال اليازجي ومحمد قارصلي وسوسن زقزق وشوقي بغدادي وفايز سارة ومحمد سيد رصاص وأنور البني وخليل معتوق وعلي الجندي ومحمد كامل الخطيب وممدوح عدوان ومحمد ملص، وغيرهم.

 

ولكن بيان الـ 99 ما كان ليصدر لولا سلسلة من الأعمال الفردية الجريئة التي ظهرت للوجود في ذلك الوقت. ففي 20/7/2000، خاطب بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أغناطيوس الرابع هزيم الرئيس بشار الأسد في حفل الأربعين التأبيني للرئيس الراحل حافظ الأسد بالعبارات الآتية: “في ظننا انك تريد أن يعرف المواطنون أنك تريد أن تكون الإنسان مع الناس، لا المتعالي والمترفع – أو كما يريد البعض -المتألّه”.

 

وبعد يومين اثنين، في 22/7/2008، نشر الشيوعي والديمقراطي العتيق، وزعيم الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي رياض الترك في ملحق “النهار” مقالته المعنونة: “من غير الممكن أن تظل سوريا مملكة الصمت” وهي مزيلة بتاريخ كتابتها 15/7/2000 أي قبل يومين من خطاب القسم. وقال فيها: “إن مهمة كل سياسي ونقابي ومثقف، بما يملكه من رأسمال رمزي وثقل معنوي، هي إخراج شعبنا من بحر الأكاذيب إلى بر الحقيقة”. وطالب الرئيس الجديد بالعدل وقال: “أول العدل رد المظالم إلى أهلها”.

 

وجاء في مقال الترك، الذي كان قد خرج قبل سنتين فقط من سجن انفرادي طويل دام ثماني عشرة سنة في زنزانة ضيّقة في فرع التحقيق العسكري بدمشق، “إن الاصلاح السياسي المنشود ينطلق من اقامة نظام وطني ديمقراطي يقوم على التعددية الحزبية التي تنفي مقولة “الحزب القائد” عدا عن نفيه المقولة الجديدة: مقولة ” قائد مسيرة الحزب والشعب “والتي تخفي وراءها حقيقة حكم الأسرة التي تكرست بوراثة الابن لأبيه. كما أنه يقوم على الغاء أحكام المحاكم الاستثنائية وقانون الطوارئ المطبق منذ أربعين عاماً. وعلى خضوع الجميع. وأولهم القائمون على شؤون الحكم. لسيادة القانون في ظل استقلال القضاء. كما يستدعي إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين. والكشف عن مصير المفقودين. إن إشاعة الديمقراطية كمبدأ ناظم للحياة السياسية والاجتماعية تسمح بحل تناقضات المجتمع بالوسائل السلمية. وتتيح تداولاً سلمياً للسلطة. وترسي استقرار لا تحميه الأجهزة القمعية بل برضى الشعب الذي يجد فيه مصلحة حقيقية تحقق له الأمن والعمل والحياة الكريمة. هذا الاستقرار هو الذي يعيد الى المجتمع وحدته الوطنية التي بالاستناد إليها نستطيع أن نؤمن لسورية مكانة عربية ودولية لائقة وتضامناً معها في مواجهة التحديات والاستحقاقات المختلفة. وخصوصاً استحقاق التسوية مع إسرائيل، والانفتاح على العالم الخارجي، وكذلك حل المشكلات الناجمة عن الوجود السوري في لبنان بما فيه مصلحة الشعبين في البلدين الشقيقين.” وسرعان ما عاد ابن العمّ إلى السجن ثانية ليمضي حكما لمدّة سنتين ونصف في عهد الأسد الابن، كما أمضر قرابة عقدين في عهد أبيه ونحو ثلاث سنوات في عهد عبد الناصر.

 

على أن الحدث الفردي الأبرز كان بلا شك الخطاب المفتوح الذي نشره أنطون مقدسي، المفكر السوري الأبرز، في 14 آب/أغسطس 2000 إلى رئيس الجمهورية الجديد وقتذاك بشار الأسد، وصف له حال البلاد، بشكل مأساوي رغم صدقه. وخاطب مقدسي الأسد الابن بقوله: “الوضع العام، وباختصار يا سيدي: انهيار عام، سياسي واقتصادي وأيضاً ثقافي وإنساني،” مضيفا “كفانا يا سيدي من الكلام الفضفاض: مكاسب الشعب، انجازات الشعب، إرادة الشعب. الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل، إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين: الأول على الصعيد الخاص، أن يعمل ليلاً ونهاراً كي يضمن قوت أولاده. والثانية على الصعيد العام، أن يقول ما يُطلب منه قوله، وأن يتبنى السلوك الذي يُطلب منه (مسيرات، هتافات…). إن الذي يعصم هذا الشعب من الدمار، هو انه يتعايش مع هذا الوضع المتردي تعايش المريض مع مرض مزمن.”

 

لقد كان للرسالة أثر مدو في الأوساط السياسية والمثقفة السورية، فقد مرّت عقود طويلة، لم يكن أي سياسي أو مثقف أو نقابي يتجرأ على مخاطبة دكتاتور البلاد مباشرة عبر وسائل الإعلام. وكان ردّ فعل السلطة فوريا، فمن دون إبطاء أقالت وزيرة الثقافة حينها مها قنوت، وهي شاعرة مغمورة ومخبرة من الصفّ الأول، المفكر الذي لا تجود به البلاد كثيرا من منصبة كمدير لمديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة التي أدارها بتميّز واقتدار سنوات طوال. وقد خلق هذا التصرف السلطوي الأخرق حركة تضامن واسع مع المفكر والفيلسوف الكبير.

 

ولا شك أن رسالة مقدسي وبيان ال99 قد لعبا دورا كبيرا في كسر حاجز الخوف وحقق سابقة مفادها أنه يمكن التكلم في إطار إصلاحي دون أن يكون هناك مشكلة، هذه الفترة كانت مهمة جدا لأنه في نفس الوقت الذي صدر فيه بيان /99/  كانت تجري مبادرة أخرى هي مبادرة إحياء المجتمع المدني، التي ولدت من رابطة المجتمع المدني.

.

.