صاحب الدعوة القضائية المقدّمة للقضاء الفرنسي هو "عبيدة دباغ"، شقيق "مازن دبّاغ" وعمّ "عبد القادر" أو (باتريك) ابن مازن دباغ، اللذان قتلهما النظام السوري في أقبية المخابرات الجوية
25 / كانون الثاني / يناير / 2019
*أحمد طلب الناصر- مع العدالة
ما يميّز أنظمة بلدان العالم الأول، عموماً، عن أنظمة بلدان العالم الثالث، لا سيما دول العالم العربي، هو ممارسة حرياتها التي منحتها لها دساتير تلك البلدان، بالإضافة إلى عدم التعرّض لحريات مجتمعاتهم وممارسة حقوقها الديمقراطية؛ إلا إن تلك الحريّتين تبقيان خاضعتين للقانون وتحت سقفه وسلطته.
على عكس أنظمة العالم العربي، الشمولية المستبدة، والتي تمارس حريتها المطلقة في التسلّط على حرّيات شعوبها، في القول والكتابة وحتى الإيماء؛ وكل ذلك يحصل أمام أنظار القانون وفوق سقفه وسلطته، القانون الذي فُصّل أساساً لحماية الطغمة الحاكمة ومعاقبة كل ما دونها.
على الساحة السورية، ومنذ ما قبل اندلاع الثورة فيها، وعى المواطن السوري، كليّاً، عدم إمكانية (التفكير) باللجوء إلى المؤسسة القضائية للمطالبة بحقّ من حقوقه، مهما صَغُر حجمه وقلّ ثمنه، لا سيما إن كانت تلك المطالبة تستهدف رأس النظام أو حتى أوضع شخصية من شخصياته (الاعتبارية)، خاصة في عهد حكم عائلة الأسد.
وفي ظلّ الضبابية المحيطة بمصير نظام الأسد، وانعدام الشعور بحلٍّ قريب يحقق المطالب المشروعة للشعب السوري، توجّه السوريون إلى مؤسسات ومنظمات وحكومات المجتمع الدولي للمطالبة بحقوقهم في ملاحقة مرتكبي الجرائم ومحاسبتهم، من خلال تقديم الأدلّة والبراهين على انتهاكاتهم الوحشية، وضد الإنسانية، والمخالفة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، مما مارسه نظام الأسد بحقّ المدنيين السوريين.
حقيقةً، فقد السوريون الثقة بغالبية الأطراف الدولية ومؤسساتها الحقوقية نتيجة غياب نتائج ملموسة على الأرض السورية من شأنها أن توقف شلال الدم وتعمل على إحقاق العدالة.
لكن، ومع مرور الوقت، أخذ الأمل يتسرّب إلى داخل أرواح السوريين عقب إصدار القضاء الفرنسي، في بداية نوفمبر 2018، مذكّرة توقيف دولية بحق ثلاثة من أعتى ضباط الأسد وأكثرهم إجراماً وتنكيلاً بالسوريين، وهم: رئيس مكتب الأمن القومي، اللواء علي مملوك، ورئيس إدارة المخابرات الجوية اللواء جميل الحسن، بالإضافة إلى عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية.
شكّلت تلك المذكّرة أولى الخطوات الفعلية نحو تحقيق العدالة، وتمثل سابقة في تاريخ القضاء الدولي ضد نظام الأسد؛ إذ جاءت تتويجاً لدعوى قضائية “شخصية” رُفعت ضد أولئك الضبّاط وتضمنت اتهامات بارتكاب جرائم حرب ، بخلاف تلك الدعاوى الحقوقية الأممية والدولية التي دائماً ما تصطدم بالفيتو الروسي وأكاذيب النظام.
صاحب الدعوة القضائية المقدّمة للقضاء الفرنسي هو “عبيدة دباغ”، شقيق “مازن دبّاغ” وعمّ “عبد القادر” أو (باتريك) ابن مازن دباغ، اللذان قتلهما النظام السوري في أقبية المخابرات الجوية.
تمكّن عبيدة من رفع الدعوى بمساعدة كلّ من الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، واستطاع خلال سنتين كاملتين إثبات الانتهاكات التي تعرّض لها شقيقه وابن شقيقه، واللذان يحملان الجنسية الفرنسية.
ورغم هذا الانتصار الجزئي لضحايا السوريين الذين قضوا تحت التعذيب داخل معتقلات النظام، لكنه ما يزال في طور البداية؛ ويستلزم عملاً جماعياً دؤوباً للنجاح بتقديم جميع المجرمين، بمن فيهم رأس النظام، إلى المحاكم الدولية لينالوا عقابهم الذي يستحقون.
ومن الأمثلة على تلك الدعاوى، شهدت قضية الشبّيح “فادي شمعون” في النمسا انتشاراً واسعاً بين أوساط المهجّرين في أوروبا عموماً. أثيرت تلك الدعوى بعد أن نشر “شمعون” صوراً تظهر حمله لعلم (حزب الله) في مطار النمسا أوائل عام 2018، ومقطعاً مصوراً يظهر فيه واضعاً علم الحزب، المصنف إرهابيًا، على كتفيه، متوجّهاً بعبارات التأييد لبشار الأسد.بالإضافة إلى تجربة دبّاغ، استطاع بعض من السوريين داخل دول المهجر الأوروبية تقديم شكاوى عديدة بحقّ أشخاصٍ لاجئين، ادّعوا بأنهم هربوا من بطش النظام ليظهر لاحقاً بأنهم من أشدّ المؤيدين لنظام الأسد، بل وارتكبوا العديد من الجرائم ضد مدنيين سوريين، وذلك اثناء مشاركتهم النظام في قمع التظاهرات وقتل المحتجين، قبل وصولهم إلى أوروبا.
تقدّم العديد من اللاجئين السوريين، بشكاواهم لدى السلطات النمساوية لإقناعها بتورط شمعون في أعمال عسكرية ضد السوريين، قاتل فيها لصالح الأسد، منخرطاً في ميليشياته، مشاركاً في سفك دماء السوريين مع عناصر حزب الله. فتبيّن أن شمعون كان أحد قادة ميليشيات (الدفاع الوطني) التابعة لجيش الأسد، وقاتلت في القامشلي والحسكة؛ وأظهرت صوراً، تعود لأعوام سابقة، حمله لأسلحة ثقيلة تثبت مشاركته في قتل السوريين إلى جانب عصابات الأسد. كما يظهر في أحد المقاطع العائدة إلى العام 2014 قيامه مع رفاقه في الميليشيات بتصفية 32 معارضاً من أحد الألوية السورية المعارضة للأسد؛ ومقطعاً آخر يتحدث فيه عن مشاركته بقتل مدنيين في حي “غويران” الواقع في مدينة الحسكة.
وكما حصل في فرنسا، فقد تفاعل القضاء النمساوي مع مناشدات اللاجئين السوريين ضد فادي شمعون منذ شهر نوفمبر الماضي، حينما استجاب القسم الخاص باللاجئين في وزارة الداخلية النمساوية، والمكتب الفيدرالي للهجرة، لجميع الوثائق التي يمكن أن تؤدي إلى ترحيل الرجل من البلاد، وعلى رأس هذه الوثائق، تأييده لمنظمة إرهابية.
ولو كان من بين السوريين المناشدين للسلطة النمساوية شخصاً واحداً تربطه معرفة أو صلة قربى بأحد ضحايا شمعون، لتقدّم بدعوى شخصية من شأنها إصدار مذكرة توقيف بحقّه، ولتمّت محاكمته ونيل جزائه داخل الأراضي النمساوية.
ولا نستطيع فصل مذكرة التوقيف التي أصدرها النائب العام الألماني بحق “جميل الحسن” أيضاً، منتصف العام 2018، عن قضايا الحق الشخصي بالرغم من تقديمها عبر “المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان” في العاصمة الألمانية برلين، إلا أنها مبنية على إفادات أشخاص وصور ما بات يعرف باسم “قيصر”.
ورغم أن الانتهاكات لم تحصل في ألمانيا، إلا أن رفع الدعوى بناء على مبدأ “الولاية القضائية العالمية” يتيح ملاحقة المرتكبين بغض النظر عن مكان ارتكاب الجرم.
وتوجد العديد من الدعاوى الشخصية القائمة الآن داخل كواليس المحاكم الوطنية في دول اللجوء، منها ما نجحت بتقديم الدلائل الدامغة على تورّط النظام وأركانه بارتكاب الجرائم، ومنها ما تنتظر جمع الثبوتيات والقرائن الجرمية لإصدار مذكرات التوقيف وملاحقة الجناة.
ويجب التنويه إلى أن المحاكم الوطنية الأجنبية باستطاعتها التحركّ ضمن الجرائم الدولية المتعلّقة بدول أخرى، كجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، والتعذيب والإبادة الجماعية؛ كما تستطيع أيضا التحقيق في هذه الجرائم ومحاكمتها إن ارتكبت في الخارج، من قبل أجانب ضدّ أجانب آخرين، لأنها تعتبر خطيرة إلى درجة أن الإنسانية جمعاء معنيّة بضمان محاسبتها.
واليوم، يتوزّع أكثر من 8 مليون سوري مهجّر داخل دولٍ تسود في معظمها سلطة القانون واستقلالية القضاء، وانطلاقاً من الصلاحيات الممنوحة للمحاكم الوطنية الداخلية، كما أسلفنا، من حيث النظر بدعاوى جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، أصبح بمقدور كل شخص فقد أخاً أو قريباً أو عزيزاً التقدّم برفع دعوى شخصية، داخل محاكم البلدان التي لجؤوا إليها، ضد الأسد وضبّاطه المسؤولين عن تعذيب وتصفية المعتقلين والمختفين قسرياً؛ وتشير مصادر خاصة بـ “مع العدالة” من داخل مناطق النظام بأن أعداد أولئك الضباط، الأمنيين، اليوم لا تتجاوز 325 ضابطاً تتراوح رتبهم بين (ملازم أول) و(لواء) يتلقّون أوامرهم المباشرة، أو عن طريق التسلسل، من: وزير الداخلية، وزير الدفاع، علي مملوك، جميل الحسن، ماهر الأسد، بشار الأسد.
والحال، فمن شأن تلك الآلية مستقبلاً أن تتسبب في عزل الأسد وأركان نظامه دولياً وإنسانياً في حال انتشارها داخل محاكم دول العالم، وحثّها قانونياً، من خلال الدلائل والبراهين ذات الصلة، على إصدار مذكّرات توقيف دولية جراء ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحقّ السوريين.
ونودّ الإشارة إلى توفّر العديد من تجارب سابقة حقّقت نتائج ملموسة على مستوى دعاوى الحق الشخصي، منها ما حصل، على سبيل المثال، مع ضبّاط جزائريين أدينوا بارتكابهم انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء فترة الأزمة الجزائرية خلال تسعينيات القرن المنصرم؛ فعندما توجّه وزير الدفاع الجزائري الأسبق “خالد نزار” إلى سويسرا، اضطر فوراً للهروب والعودة إلى الجزائر بعد تحريك القضاء السويسري دعاوى شخصية بحقّه.
المزيد للكاتب
⇓