في لقاء علي مملوك المشار إليه فقد عرض على من التقى بهم من وجهاء العشائر (قيل إن عددهم عشرون) مشروع إقامة إدارات محلية بزعامات عشائرية، وستقوم حكومة النظام بتقديم الدعم اللازم لهم
13 / كانون أول / ديسمبر / 2019
المصدر: تلفزيون سوريا | حسن النيفي
في الزيارة التي قام بها علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن القومي، بتاريخ (5 – 12 – 2019)، إلى مطار القامشلي، حيث التقى بمبنى النادي الزراعي المحاذي للمطار، بعدد من وجهاء العشائر العربية، طلب منهم بوضوح وجدّية، عزْل أبنائهم ممّن يعملون في صفوف قوات قسد، وضمّهم إلى قوات النظام، وذلك في مسعى واضح الدلالات والأهداف، يتمثل بإضعاف قوات الحماية الكردية، وتجريدها من شرعيتها بتمثيل أبناء المنطقة الشرقية، وبالتالي عزلها أو حصارها، لتسهيل عملية الانقضاض عليها حين تتيح الظروف ذلك.
تجدر الإشارة إلى أنه في شهر كانون الثاني من العام الجاري، قامت سلطات الأسد بعقد لقاء لما سمّي بوجهاء العشائر والرموز الاجتماعية، فجمعت ما يقارب خمسة آلاف شخص، بحسب رواية إعلام النظام، في بلدة أثريا التابعة لمنطقة السلمية، على بعد 100 كم من مدينة حماة. علماً أن الذي قام بالتواصل والتنسيق مع الأشخاص الذين حضروا الاجتماع هو المدعو (حسام حمشو) رجل الأعمال المشمول بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على عدد من الشخصيات الاقتصادية في سوريا. وكالعادة، انتهى اللقاء بتلاوة البيان النهائي المُعد قبل الاجتماع، والذي يؤكد ولاء المجتمعين وعشائرهم لنظام الأسد، وإصرارهم على المضي خلف سياساته الحكيمة وفقاً لبيان النظام، وقد كافأ النظام المجتمعين – آنذاك – بإطلاق ستة وثمانين معتقلاً من سجونه، أما في لقاء علي مملوك المشار إليه فقد عرض على من التقى بهم من وجهاء العشائر (قيل إن عددهم عشرون) مشروع إقامة إدارات محلية بزعامات عشائرية، وستقوم حكومة النظام بتقديم الدعم اللازم لهم.
وفي خطوة مماثلة، بتاريخ 3 – 5 – 2019، قام المجلس السياسي لقوات سوريا الديمقراطية (مسد) بدعوة ما يقارب ثمانية آلاف شخص – وفقاً لإعلام قسد – للاجتماع في بلدة (عين عيسى) التابعة لمحافظة الرقة، وانتهى اللقاء
بطريقة مماثلة لنظيره السابق، بتلاوة بيان يؤكد فيه المجتمعون على تأييدهم المطلق لقسد، وشكرها العظيم على طردها لتنظيم داعش.
لعلّ السمة المشتركة لدى الطرفين – نظام الأسد وقسد – هي أنهما يدركان جيداً أن ورقة العشائر هي من أضعف الأوراق في إدارة السيطرة وبسْط النفوذ، ولهذا فهما لا يستخدمانها إلّا حين الشعور بالإفلاس، وافتقاد أوراق القوة الأخرى، كما يدركان أيضاً أنهما – أعني النظام وقسد – معاً ، أسهما أيّما إسهام ، ليس باضطهاد عشائر شرق الفرات وإضعافها وتجريدها من أي دور فاعل فحسب، بل بجميع مكونات المحافظات الشرقية، إذ لم يكن خافياً على أحد أن ما تحظى به محافظات (دير الزور والرقة والحسكة) من ميزانية الدولة في مجال الخدمات والحاجات السكانية، لا يوازي ما تحظى به مثيلاتها من المحافظات والمدن السورية، علماً أن الغلّة الاقتصادية التي يجنيها النظام من المنطقة الشرقية – النفط – الغاز – الحبوب – القطن – تشكّل عصب الاقتصاد السوري، أضف إلى ذلك السخطَ السياسي والأمني الذي يسلّطه النظام منذ عهد (الأسد الأب) على سكان تلك المناطق، متّهماً إياهم بالولاء للنظام العراقي السابق، فهم جميعاً – وفقاً للنظام – حاضنة شعبية (لليمين المشبوه) بحسب التعبير الأمني لآل الأسد. ولم يكن الأسد (الابن) ليخالف نهج أبيه حيال تعامله مع سكان تلك المناطق، إذ لم تستثن براميله الحاملة للموت والدمار ودباباته وراجماته مناطق شرق سوريا، بل لم تستثن مجازره – كما معظم المحافظات السورية – أرواح السكان المدنيين وبيوتهم وممتلكاتهم.
أمّا سلوك سلطات مشروع الإدارة الذاتية، فربّما بدا أكثر مفارقةً، ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني(pkk) وهو صاحب الحمولة السياسية لمشروع الإدارة الذاتية، فقد أخفق في إقناع القوى والأحزاب الكردية السورية بجدوى ومشروعية أهدافه، وأعلن العداء لكل من لا يدخل تحت عباءته من الكرد، وقد كانت شعاراته الديمقراطية خاذلة للكثير من الكورد حين اعتقل العديد من الشخصيات الوطنية الكردية، وكان سبباً في هجرة الكثيرين من أبناء الجزيرة الكورد، بسبب نزعته نحو الهيمنة والإقصاء، ولم يجد سوى أن يفرض إراداته على مكوّنات تلك المنطقة، مُستمدّاً مشروعية سلطته من القوّة التي بحوزته أولاً، ومن الدعم الذي حازه من التحالف الدولي، لقاء محاربته لتنظيم داعش، وكان الغطاء المناسب لتلك الممارسات، هو الشعارات الأوجلانية ذات النزوع الأممي، في محاولةٍ لاستبعاد النزعة القومية، بينما واقع الحال يؤكد مدى تماهي ممارسات قسد مع سلطات الأمر الواقع السابقة (النظام – داعش) من حيث الاعتماد على القبضة الأمنية وفرض الإتاوات، وحملات التجنيد القسري لأبناء المنطقة، وتهجير السكان من قراهم وبلداتهم، بل ومحْو وإزالة العديد من القرى نهائياً، فضلاً عن حالات الاعتقال والتغييب لخصومهم السياسيين.
لقد أدّى استمرار صراع المصالح الإقليمية والدولية على الأرض السورية، إلى ظهور معطيات جديدة، لعلّ أبرزها التخلّي الأمريكي التدريجي عن الحليف القسدي بعد الانتهاء من حرب داعش، والاتفاق الأمريكي التركي الذي أتاح لأنقرة مهاجمة قوات الحماية والإطاحة بمشروعها، ما دفع قسد للعودة إلى الحليف القديم – الجديد، نظام الأسد، عبر الوسيط الروسي الذي نجح في تحقيق بعض التفاهمات بين الطرفين، أفضت إلى دخول النظام والشرطة العسكرية الروسية إلى ثلاثة مواقع في شمال شرق سوريا (عين عيسى – صوامع عاليه على الطريق الدولي m4 غربي تل تمر – عامودا)، إلّا أن الأمر الذي ترفض قسد الإقرار به، وهو الأمر الذي يجسّد مقتلها في الآن نفسه، هو أن الحليف الأسدي لا يقبل أن يرى سواه في الغابة، ولا يخفي سعيه المحموم لالتهام الجميع، بما فيهم الحلفاء المرحليون.
وهكذا يعود الطرفان، ليبحث كل منهما عن أوراق تسعفه في المنافسة على حيازة النفوذ، فنظام الأسد يريد من ضحاياه الانفكاك عن قسد والعودة إلى صفوفه لاستنزاف ما تبقى لديهم من حياة، وكذلك تريد قسد من الضحية ذاتها المشاركة في مواجهة القوات التركية دفاعاً عن حزب الاتحاد الديمقراطي pyd من جهة، كما تريد منها البقاء في صفوفها وعدم الانصياع لدعوات النظام من جهة أخرى، إلّا أن ما يتجاهله الطرفان المتنازعان على السيطرة وحيازة النفوذ هو الآتي:
أولاً – إن تعاقب سلطات الأمر الواقع على منطقة شرق الفرات (نظام الأسد – داعش – قسد) إنما كان قائماً على الإكراه، ومُستمّدّا من مشروعية حيازة القوّة، وليس نابعاً من خيار شعبي للسكان، وبالتالي فإن أيّ ولاء شعبي
لأيٍّ من السلطات المتعاقبة، إنما هو في الأصل حالة قهرية مفروضة على أصحاب الأرض.
ثانياً – الرهان على موقف عشائري موحّد يبدو شديد الاستحالة، بسبب تعدد مناطق النفوذ، وتوزّع أبناء العشيرة الواحدة على أكثر من منطقة، ولعلّه من الطبيعي في هذه الحالة، أن تشهد العشيرة الواحدة ولاءات متناقضة.
ثالثاً – ولعلّه الأهمّ، وهو أن الخيار الأمثل لسكان المحافظات الشرقية، وهو الخيار الوحيد الذي عبروا عنه بكامل حريتهم وإرادتهم هو خيار الثورة، المتماهي مع انتفاضة معظم المحافظات السورية في آذار 2011، والمتمثّل بإدراكهم أن جوهر القضية السورية برمتها يكمن بالتحرر من نظام الاستبداد والتوحّش، والانتقال إلى دولة القانون والعدل والديمقراطية، ولعلّ الحراك المدني الذي جسّدته مظاهرات أبناء دير الزور في شهر أكتوبر – تشرين الأول الماضي، كان ساطع الدلالات، حين عبّر المتظاهرون عن رفضهم لممارسات قسد، موازاةً مع رفضهم المطلق بدخول قوات النظام والميليشيات الإيرانية.
ربما كانت أصوات المتظاهرين الذين يحملون شعارات الثورة، في شرق الفرات وسواها من المدن السورية، تبدو ضعيفةً إلى جانب ترسانات السلاح التي يمتلكها أصحاب الأجندات العابرة للحدود، ولعلّه من الصحيح أيضاً، أن تلك الأصوات باتت أكثر انزياحاً نحو الحيّز الأخلاقي للثورة، قياساً إلى الواقع الذي تصوغه وترسمه أدوات ووسائل القوّة المتوحشة، ولكن مما لا شكّ فيه أيضاً، هو أنها الأكثر رسوخاً وصدقاً وإنسانية.