تتضمن عمليات التعبئة الآيديولوجية والسياسية إجراء تغييرات عميقة في أفكار السكان ومعتقداتهم ومواقفهم السياسية، وإذا كان التغيير الديموغرافي يتم عبر القوة عادةً، فإن التعبئة الآيديولوجية والسياسية مرتبطة بسياسة الترغيب والترهيب
13 / كانون أول / ديسمبر / 2019
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط – فايز سارة
لا يحتاج إنسان إلى جهد كثير للتأكد من تدهور وصل إلى الكارثة في واقع السوريين، شعباً وكياناً، بعد تسع سنوات من حرب مدمرة، قتل فيها وجرح واعتقل وهجر في داخل البلاد وإلى خارجها ملايين، أدت إلى تبدلات وتغييرات عميقة في الخريطة السكانية بكل محتوياتها، وصاحب التغيير المتصل بالسكان تغيير أصاب الكيان، فبدّل الكثير من وقائعه ومواصفاته. إذ تم تدمير بناه التحتية، وتلوثت بيئته، واستُنزفت موارده، وتم التفريط في قدراته لصالح قوى أجنبية ثمناً لموقفها في دعم النظام، كما تم التفريط في استقلاله ووحدته، فصار خاضعاً لاحتلالات قوى بينها روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وغيرها ووجود ميليشيات وعصابات مسلحة ترتبط بتلك الدول مباشرة أو غير مباشرة، بينها «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية وغيرها، فيما يتنازع النظام وتشكيلات مسلحة قسماً من الأرض السورية بين الأخيرة ميليشيات إسلامية النزعة منها «النصرة»، وأخرى تنتمي إلى تجربة «الجيش الحر».
ورغم خطورة ما سبق من مجريات على مستقبل سوريا، فإن مجريات أخرى تتواصل بقدر أقل من الضجيج ومن تسليط الأضواء عليها، والأهم في هذه المجريات ثلاثة؛ أولها التغييرات الديموغرافية، وثانيها التعبئة الآيديولوجية والسياسية، والثالث فيها تجنيد الأطفال، وثلاثتها تشكّل خطراً يتجاوز أخطار القتل والتهجير ونهب الموارد والاحتلالات الأجنبية، حيث كلها قابلة للتوقف والانتهاء، أما الثلاثة الأخيرة فإنها تمثل بداية، سيكون من الصعب توقع نهاياتها إذا ترسخت وأصبحت جزءاً من الواقع.
إن عمليات التغيير الديموغرافي كانت في صلب اهتمامات نظام الأسد مع انطلاق الثورة عام 2011، كما حدث في حمص ومنها بابا عمرو والقصير، وفي ريف دمشق وفيه يبرود والنبك، قبل أن تمتد الممارسات إلى الأبعد، فتشمل مناطق ريف دمشق الغربي في الزبداني ومحيطها، وتوافق الحدث الأخير مع انخراط تشكيلات مسلحة خارج مناطق سيطرة النظام في جريمة التغيير الديموغرافي، حيث هجّر سكان قرى من الشيعة والدروز في ريفي حلب وإدلب ومنها كفريا والفوعة وقلب لوزة، وبعدها أصبحت جرائم التغيير الديموغرافي سلوكاً عاماً لكل من يحمل السلاح في سوريا من الجماعات الإسلامية إلى قوات سوريا الديمقراطية، التي هجّرت عرباً من قراهم في الجزيرة، وقد أدت العمليات العسكرية التركية الثلاث في الشمال السوري في واحدة من نتائجها إلى تغيير ديموغرافي، ودفعت أكراداً خارج مناطقهم، وبخاصة في عمليتي «غصن الزيتون» في عفرين و«نبع السلام» في شرق الفرات.
وتتضمن عمليات التعبئة الآيديولوجية والسياسية إجراء تغييرات عميقة في أفكار السكان ومعتقداتهم ومواقفهم السياسية، وإذا كان التغيير الديموغرافي يتم عبر القوة عادةً، فإن التعبئة الآيديولوجية والسياسية مرتبطة بسياسة الترغيب والترهيب، حيث يقدم أصحابها من الروس والإيرانيين وميليشياتهم إغراءات للسوريين في مناطق سيطرتهم للاستجابة لعمليات التعبئة، التي وإنْ غلب عليها الطابع العقائدي عند الإيرانيين، فالغالب جانبها السياسي عند الروس.
إن سياسة الإيرانيين وميليشياتهم في موضوع التعبئة الآيديولوجية والسياسية، تبدأ من توفير الحماية لمن يعرفون أنهم لا ينتمون إلى المعارضة، ويضيفون إلى الحماية الشخصية تقديم مساعدات عينية ومالية لمن ينخرط في نشاطات دعوية وتعليمية تقوده إلى التشيع، ومَن ينضمّ إلى الميليشيات التابعة للشيعة الإيرانية، وبطبيعة الحال فإن الترحيل نصيب المحايدين من سكان مناطق سيطرة إيران وميليشياتها، وغالباً فإن السجن وصولاً إلى القتل نصيب معارضيهم، وكانت من نتيجة هذه السياسة فرض التشيع في مناطق متعددة من سوريا بينها قريتا حطلة ومراط في دير الزور والقصير في ريف حمص الغربي والسيدة زينب ومحيطها جنوب دمشق وداريا في جنوب غربي دمشق إضافةً إلى أحياء ضمن دمشق.
ويركز المسار الروسي في هذا السياق على تقارب موقف السوريين من سياسة موسكو، وهذا يوفر حماية للمقربين وبخاصة في مناطق المصالحات التي تسعى الأجهزة الأمنية وميليشيات النظام لإعادة ضبطها وفق رؤيتها، فيما يوفر الروس هامشاً أوسع في المواقف وفي حركة الأشخاص المقربين منهم.
لقد كرّست سنوات الحرب ظاهرة تجنيد الأطفال، وهي ظاهرة معقّدة وفيها كثير من الاختلاطات، لكنها في كل الأحوال ظاهرة مرفوضة من حيث انتهاكها لحقوق الطفل من جهة ومخالفتها للقانون الذي يجعلها جريمة يعاقب عليها القانون، وقد فتحت ميليشيات النظام عند تأسيسها الباب نحو تجنيد الأطفال لتغطية احتياجاتها من العناصر البشرية من جهة، وأفسحت المجال لحواضنها من أجل التكسب ولو على حساب الأطفال وحياتهم من جهة ثانية، وشجّع هذا السلوك على انتقال الظاهرة إلى التشكيلات المسلحة خارج مناطق سيطرة النظام، فانخرط أغلبها في تجنيد الأطفال، وكان نشاط «داعش» مثالاً مميزاً في الرهان على جيل جديد من مقاتلين تتم تربيتهم على ثقافة التطرف والإرهاب، ويجري تدريبهم على أكثر أشكال العنف والقتال دموية، ودفعهم للقتال على الجبهات.
وسط هذا السياق من تجنيد الأطفال، ينفرد المثلث المؤلف من روسيا وإيران و«حزب الله» في عمليات تجنيد الأطفال وفق برنامج خاص. فقد اختار الروس مجموعة من الأطفال، ودفعوا بهم إلى مدارس النخبة العسكرية الروسية لإعدادهم ليكونوا ضباطاً قياديين في الجيش السوري في وقت لاحق، فيما خصص «حزب الله» اللبناني معسكراً لتدريب الأطفال في مدينة القصير من أجل حصولهم على تدريب يماثل تدريب الكادرات القيادية في الحزب.
لقد سجلت إيران دخولاً على خط تجنيد الأطفال عبر ما تقوم به ميليشياتها خصوصاً في معسكراتها في السيدة زينب جنوب دمشق، إلا أن تطوراً ملموساً حدث في الفترة الأخيرة في منطقة شمال شرقي سوريا، حيث تعمل إيران على تقوية وجودها في دير الزور وتأمينها مع محيطها حيث مكامن الغاز والنفط، ونقطة الربط الحدودي بين العراق وسوريا، وبداية الطريق السريع الذي ينطلق منها نحو الغرب وصولاً إلى دمشق والساحل السوري، وفي هذه المنطقة من سوريا تذهب إيران إلى عمق أعماق سياستها السورية، فتعمل هناك على تغيير ديموغرافي وتتابع التعبئة الآيديولوجية والسياسية، وتضيف إليهما عملية تجنيد الأطفال في آن معاً، وقد افتتحت في دير الزور معسكراً لتجنيد الأطفال لأعمار تمتد ما بين عامي 8 و12 عاماً برعاية اللجنة الشعبية للصداقة السورية – الإيرانية، حيث يقوم ضباط من «الحرس الثوري» بالتدريب على استعمال السلاح والأعمال القتالية لفترة تصل إلى عامين، يصبح الأطفال بعدها قادرين على خوض أعنف المعارك.
إن مسار السياسات والإجراءات التي تتوالى في سوريا من القوى الإقليمية والدولية وبخاصة من جانب حلفاء النظام، تؤشر (رغم اختلاف المصالح) إلى مساعٍ مشتركة للسيطرة على مستقبل سوريا، شعباً وكياناً، بعيداً عن أي دور للسوريين بعد أن تخلى النظام عن مسؤولياته وفتح أبواب البلاد أمام من هبّ ودبّ، وأعطى امتيازات لا حدود لها لحلفائه من روس وإيرانيين، وأغرق بالتعاون مع حلفائه الشعب السوري في مشكلات لا حلول لها، إن لم يحدث تحول جوهري في واقع القضية السورية وآفاق حلها.