#########

آراء

العدالة الانتقالية فردوس السوريين المفقود


الحديث عن مفهوم العدالة الإنتقالية ليس مجرد حديث للتداول بين المثقفين أو إحدى حالات الترف السياسي . إنه أمر حتمي لابدّ منه إذا ما أراد السوريون العودة إلى خارطة الحياة

19 / آب / أغسطس / 2018


العدالة الانتقالية فردوس السوريين المفقود

 

*معاذ حسن 

 

بمجرد طرح مفهوم العدالة الإنتقالية تتبادر إلى الذهن أفكار مشوشة مابين إشكالية العدالة بمفهومها المجرد الذي يحمل عدة أوجه، وانتقال العدالة بفمهومها الحركي ،أي تطورها ومراحلها.

يذهب عامة الناس للتعامل مع هذه القيمة بصورتها البديهية، البسيطة، وماتحمله من أفكار وردية كالمساواة الحقوق وحضور القانون والمواطنة، بينما في حقيقية الأمر، يحتوي المفهوم على إشكالية شائكة أكثر تعقيداً من محاولات تطبيقها على أرض الواقع، وهنا أخصّ الشأن السوري تحديداً.

إن الباحث في هذا الشأن، يجد تنامي هذا المفهوم وحضوره بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، منتصف القرن العشرين، حيث يرى تنوعاً واضحاً في طرق تحقيق العدالة الانتقالية ونتائجها، بين الدول المختلفة التي شهدت هذه التجربة، بالرغم من الإجماع الواضح على مكونات ثابتة ورئيسية في تحقيق العدالة الانتقالية:

المساءلة القانونية والمحاكمات: الأمر الذي لايحتاج إلى توضيح حول معاقبة الأشخاص الذين وقفوا وراء الكوارث الإنسانية وتهشيم المجتمع.

 

 

الحقيقة: نقل الأحداث وكل ما خفي تحت طاولات السياسة التي صنعت حقبة زمنية مريرة في حياة الشعوب، أيضاً الكشف عن الانتهاكات الإنسانية ومرتكبيها وتوثيقها أمام العالم.

تعويض الخسائر وجبر الضرر: وهذا المكون يشمل الجانبين المادي والمعنوي، كإعادة الإعتبار إلى الفئات المهمشة أو ضحايا التفرقة العنصرية والطائفية والعرقية.

 إصلاح المؤسسات: والتي بدورها كانت تخدم النظام الحاكم لا الوطن؛ وهذا الأمر يحتاج إلى تخصص في البحث فيه على إعتبار أن المؤسسات هي هوية الدولة ووجه المجتمع.

فالحديث عن مفهوم العدالة الإنتقالية ليس مجرد حديث للتداول بين المثقفين أو إحدى حالات الترف السياسي . إنه أمر حتمي لابدّ منه إذا ما أراد السوريون العودة إلى خارطة الحياة بعدما أصبح البلد ساحة لمصارعة الثيران، ومواطنوه في أحسن حالاتهم مدعاة للشفقة.

ليس من المبكر الحديث في هذا الشأن بناءً  على اعتبارات مرحلية مؤقتة كإنتصار النظام ، فالحرب مازالت قائمة، والمعارضة السياسية فاشلة، وما إلى ذلك من سيناريوهات أفرزتها فترة الحرب والصراع القائم.

ونحن هنا لسنا بصدد التخمين والتوقعات حول فترة ما بعد الحرب، بقاء النظام أو سقوطه ، “مؤيديون معارضون، إسلاميون، ليبراليون”، شكل العلاقات الخارجية ، نمط الحياة السياسية، وكل ما إلى ذلك من وقود لإستمرار الحرب وتأجيل مرحلة لابد منها في تكريس العدالة الإنتقالية .

كل مافي الأمر هو إستعادة البوصلة لما يجب أن يكون ، ووجود ملامح واضحة لخطة عمل بناء الدولة بالمعنى الحرفي للكلمة ، ذلك أن سوريا هي دولة السلطة، والفرق كبير بين سلطة الدولة ودولة السلطة، بمعنى خضوعها لسلطة العسكر، حيث لم يتم بذل أية جهود لبناء الدولة بمفهومها المؤسساتي وسيادة القانون؛ الأمر الذي بات يعرفه الصغير قبل الكبير.

 

مرة أخرى بالعودة إلى مفهوم العدالة الإنتقالية، لابد من إلقاء نظرة سريعة حول تجارب الدول التي نجحت في هذه التجربة، لنكون أكثر حكمة في التعامل مع الشأن السوري، ونحظى بجاهزية أعلى لترسيخ مفهوم العدالة الإنتقالية في بلد آن له أن يبعث من جديد.

لقد نجحت تجربة العدالة الإنتقالية في الكثير من بلدان العالم ، حوالي ٣٥ دولة على امتداد القارات .

في جنوب إفريقيا منذ عام ١٩٤٨ وحتى عام ١٩٩٤ م _ أي قرابة خمسة عقود، حيث عانى المجتمع أقسى أنواع التعذيب والقمع، والإعتقالات العشوائية تحت نظام الفصل العنصري . ولقد أثبت الفاعلون السياسيون جهودهم بإعتماد نهج المصالحة، لتجنب كل أشكال الإنتقام والعمل على نمو البلد الإقتصادي و الإجتماعي . أيضا يذكر إحداث (لجنة التحقيق والمصالحة ) التي عملت على مدار ٣ سنوات لتسجيل التاريخ اعتماداً على قصص الضحايا وشهاداتهم، وتنفيذ المحاكمات. أيضا في المقابل، تم قبول بعض طلبات العفو التي تقدم بها أكثر من ٧٠٠٠ شخص .

 

ومن التجارب المهمّة أيضاً، التجربة الأرجنتينية بين عام ١٩٧٦ -١٩٨٣ . حيث مارس النظام العسكري أبشع أساليب القمع تحت ذريعة وجود تهديد ثوري، وتذكر الإحصائيات وجود ألوف القتلى والمعتقلين والمفقودين، إضافة إلى أكثر من مليون ونصف لاجئ في دول الجوار وغيرها.

اعتمدت تجربة العدالة الإنتقالية على التسوية بين البحث عن الحقيقة والعدالة، وكذلك العفو بالنسبة لبعض أفراد الأمن الذين ارتكبوا جرائم بأوامر من قياداتهم . وتم في حينها محاكمة كبار الجنرالات الذين استحوذوا على السلطة آنذاك.

كذلك لا نستطيع أن نغفل تأسيس اللجان الوطنية للتحقيق في أمر الأشخاص المفقودين و ملاحقة الأشخاص المسؤولين عن الإنتهاكات، إضافة إلى تعويض الضحايا.

ومن الجدير بالذكر هنا، هو أنه ينسب لألمانيا البداية الحقيقية لتطبيق العدالة الإنتقالية في محاكمات “نورمبرج”، التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بمنتصف الأربعينات من القرن الماضي، التي تضمنت محاكمات لمجرمي الحرب الذين ارتكبوا جرائم إنسانية في أوروبا.

تختلف تجارب الدول ونتائجها في تحقيق مفهوم العدالة الإنتقالية بحسب ظرفها التاريخي والسياسي، وشكل المرحلة التي عانت منها، يضاف إلى عامل التسامح، وروح الصفح التي تتفاوت بدورها من مجتمع لآخر .

 

فإن محاولة وضع تصور لكيفية تحقق العدالة الإنتقالية ضمن المجتمع السوري، أشبه بالدخول في حقل من الألغام نظراً  لتعقيد التركيبة الإجتماعية و النفسية للمجتمع، ناهيك عن تعدّد الطوائف و الإيديولوجيات التي استخدمها النظام الحاكم وباقي الأطراف في تأجيج النزاعات  وذريعة لاستمرار الحرب .

المقصود بالقول هنا، جملة العوائق التي ستواجه تحقيق العدالة الإنتقالية، كيف سيكون وجه العدالة الإنتقالية في المجتمع السوري تحت ظل الإختلاف ما بين أفراد يقبلون بالصلح وتعويض الضرر، وآخرين  لايقبلون بروح الصفح لإعتبارات أيديولوجية أو حتى لخسارات مادية وبشرية؛  أيضاً ما بين انتماءات لمذاهب ومناطق على حساب الإنتماء للوطن ،

بين الحق والباطل، وهي بنهاية المطاف مسألة نسبية تكاد تكون وجهة نظر برأيهم ، الأمر الذي  قسم الشارع السوري إلى عدة أطراف متنازعة ، والعديد من العوائق لأسباب تخص تركيبة المجتمع السوري و تعقيدات كثيرة في المشهد، منها غياب الحقيقة وحضور ذهنية الصراع وإلغاء الآخر.

وهنا لابد من حضور دراسات وأبحاث نوعية في هذا الصدد، ستأتي لاحقاً من شأنها تمهيد الطريق و إزالة العوائق التي تقف في وجه التغيير الإجتماعي وإرساء دولة القانون والمواطنة.

 

في المحصلة، لابد أن تكون أحد أهم أهداف العدالة الإنتقالية هو ترسيخ التعايش مرة أخرى بين أفراد الوطن الواحد الذين جندهم الصراع يوماً ما لخدمة مرحلة ظلامية .

مختصر القول :الخوض في هذه التجارب  يفضي إلى تعريف وملامح واضحة لمفهوم العدالة الإنتقالية على أنها ردة فعل المجتمعات تجاه حقبة من الزمن سادت فيها النزعة الدموية واستبدا الظلم بالبلاد والعباد.

إن كل ما أسلفناه في السطور السابقة يتمحور حول كيفية تكوين ذهنية واضحة للعمل على تحقيق العدالة الإنتقالية و الإمساك بآلياتها وأدوات تطبيقها؛ ذلك أن التأخير سيكلف المزيد من الدماء وتهالك الدولة والمجتمع.

ولم يعد خافياً علينا كيف يدير نظام الأسد دولته، من هم قياداته، كيف يعمل جهازه الإعلامي، من هم حلفاؤه، مؤيديه ومعارضيه.

كل ذلك يصب في توضيح ملامح العدالة الإنتقالية، كيف سيتم تحقيقها على أرض الواقع، ابتداءً من توثيق الإنتهاكات، فضح سياسة عمل المؤسسات، النظام الاجتماعي والإقتصادي المفروض على المجتمع السوري، وليس انتهاءً بتشكيل اللجان والمحاكم المختصّة .

 

ولكن يبقى السؤال : أين نحن من تطبيق العدالة الإنتقالية ؟ ماهو المناخ المطلوب لبدء تكريسها؟ هل أنتج المجتمع السوري الذهنية والكفاءات القادرة على حمل هذا العبء التاريخي؟

العدالة الإنتقالية ما بين الضرورة التاريخية في تحول المجتمعات، نتاج الثورات وصناعة النخب.

والعديد من الأسئلة التي تبقي الباب مفتوحاً على أكبر إشكاليات العصر في سوريا.

.

.