في الدولة ذات الرأس الواحد، كالدولة السورية، يبدو العدو واضحاً، ولا يمكن لمسؤولٍ أن يتنصل من مسؤوليته تجاه المتظاهرين المطالبين بالتغيير، إلا بأن يقطع علاقته مع النظام بصورة تامة، ويتحوّل بالتالي إلى عدو للنظام
25 / تشرين أول / أكتوبر / 2019
المصدر: العربي الجديد – راتب شعبو
ما يشهده لبنان اليوم هو أكبر خروج شعبي إلى الشارع، بعد التظاهرات الشعبية الواسعة في ساحات لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، في 14 فبراير/ شباط 2005، والتي أفضت إلى الانقسام السياسي الشهير بين فريقين سياسيين، حمل كل منهما اسم تاريخ نزول جمهوره إلى الشارع (فريقي 8 آذار و14 آذار)، وهما فريقان تعاكسا في الموقف من الوجود والدور السوري في لبنان، وفي الموقف من النظام السوري، ولكنهما كانا متفاهمين دائماً في ما يخص النظام السياسي الطائفي اللبناني.
على خلاف الحال في العام 2005، لا يخرج الشعب اللبناني اليوم إلى الشوارع تلبية لطلب قوى سياسية تريد استعراض شعبيتها، وتتبارى في ما بينها في أعداد المشاركين، بل يخرج بالأحرى ضد هذه القوى، أو للدقّة ضد دولة هذه القوى، أو ضد النظام السياسي الذي يشكّل من هذه القوى دولةً بطريقةٍ تسمح لها أن تتوازع الدولة، وأن تتبرّأ منها، في الوقت نفسه، كما يظهر اليوم على ضوء انتفاضة اللبنانيين.
زعماء الطوائف اليوم يؤيدون المتظاهرين، فلا يبدو أن للنظام اللبناني الذي يطالب المتظاهرون اللبنانيون بإسقاطه أبا في هذه اللحظات، الجميع يقر “بالمطالب المحقّة”، ويرى العلّة في الآخرين. أكثرهم موضوعية يقول إنها “مسؤولية الجميع”، هذه العبارة، في عموميتها وضياع معناها، لا تختلف في الواقع عن رمي المسؤولية عن النفس. أحد الأثرياء من زعماء الطوائف قال إن جمهورنا ينتفض ضد الدولة، وليس ضدنا. هذه هي الدولة الطائفية اللبنانية التي تسمح للزعماء بجعلها قنوات سلطةٍ ونهب، وتسمح لهم بالتنصّل من المسؤولية في الوقت نفسه، وحسب الحاجة. وهذا ما يدفع المتظاهرين اللبنانيين إلى التأكيد على شعار “كلن يعني كلن”، الشعار الذي يريد بلورة النظام السياسي في حزمةٍ واحدةٍ لاستهدافها “ككل”. وفي السياق نفسه، يمكن فهم مطالبة بعض المتظاهرين بحكم عسكري، أي رغبة في الانتقال من نظام متعدّد الرؤوس إلى نظامٍ برأس واحد. ولكن حتى لو نجح المتظاهرون في إسقاط هذه الحزمة، وهذا غير متاح، فإنه لن يتمكّن من “إسقاط النظام”.
يدرك جميع الزعماء الطائفيين الذين تحوّلوا اليوم إلى “ثوار” مرهفين، يشعرون بمشقّات حياة الناس ويدركون أحقية مطالبهم، أنهم يستندون إلى حائط متين، هو “النظام السياسي الطائفي” الذي يشكل المصيدة الأخطر لشعوب بلداننا، والتي إذا ما أطبقت على شعب، فإنها تحيل تطلعاته التحرّرية إلى ضربٍ من المستحيل. يدرك هؤلاء أن الهوية الوطنية اللبنانية التي تجمع المتظاهرين اليوم في أرجاء لبنان مكسورة الظهر، منذ تأسس النظام الطائفي، حتى أن حركة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، والتي يفترض أن تشكّل مصنعاً للوطنية اللبنانية، اتخذت، هي الأخرى، لوناً طائفياً، وراحت تفتّ في عضد الوطنية اللبنانية. على هذا، يطمئن هؤلاء الزعماء الطائفيون إلى أن الوطنية اللبنانية باتت أعجز من أن تعبر الخنادق الطائفية المصونة جيداً.
في الدولة ذات الرأس الواحد، كالدولة السورية، يبدو العدو واضحاً، ولا يمكن لمسؤولٍ أن يتنصل من مسؤوليته تجاه المتظاهرين المطالبين بالتغيير، إلا بأن يقطع علاقته مع النظام بصورة تامة، ويتحوّل بالتالي إلى عدو للنظام. هنا تكون العلاقة بسيطة وواضحة بين النظام السياسي والثائرين عليه، علاقة عداء متبادل. بدلاً من الشعار اللبناني الذي يؤكّد على مسؤولية الجميع، كان المتظاهرون السوريون يؤكّدون على إسقاط الرأس، بشار الأسد، فيما يرد النظام بالتأكيد القاطع على صيانة رأس النظام إلى حدود تأليهه. في حين أن التركيز في المظاهرات اللبنانية على “رحيل ميشال عون” وحرق صوره هو تقليد أعمى للسوريين، ودليل على ابتعاد المتظاهرين اللبنانيين عن فهم جوهر نظامهم السياسي. هذا لأن النظام السياسي اللبناني أقوى من رئيس الدولة، وقد أمكن لهذا النظام أن يعيش سنوات بدون رئيس (سنوات الفراغ الرئاسي)، أما في سورية فإن الرئيس يشكل مركز ثقل النظام وعقدة تماسكه.
في النظام السياسي اللبناني، حيث الدولة موزّعة بين قوى طائفية تشكل كل منها “دولتها” الخاصة”الخاصة، تبدو العلاقات أقوى من الفاعلين، بما في ذلك “الرؤساء الثلاثة”. القاعدة السياسية للنظام اللبناني واسعة باتساع القوى التي تتوازع سلطات الدولة. ولذلك، النظام يمكنه أن يسير وأن يعيد ترميم نفسه وترميم رئاساته. صحيحٌ أن هذا النظام متعدّد الركائز ومتعدّد الرؤوس ينتج دولةً ضعيفة، ولكنه في المقابل يتمتع بقدرة كبيرة على مقاومة التغيير الجذري، نقصد التغيير الذي يخرج بلبنان من وهدة الطائفية السياسية. الحال ليس كذلك في النظام السوري، حيث يستمد النظام استقراره من السلطة المطلقة للرئيس، هذه السلطة التي يمكن لغيابها أن يعطّل آلية النظام ويهدّده بالانهيار. النظام السوري لا يتحمل وجود فراغ رئاسي كما يتحمل النظام اللبناني، ولذلك رأينا كيف اندفع فاعلو النظام سريعاً إلى تأمين الرئاسة بعد وفاة حافظ الأسد.
كان يمكن للمرء أن يأمل بوجود فضيلة للنظام السياسي اللبناني متعدّد الرؤوس، تتمثل في الدور الرقابي الذي يمكن أن تمارسه القوى على أداء الدولة، وأن يشكل صراع القوى وتنافسها رقابة متبادلة على بعضها بعضا، وأن ينتج عن هذا النمط من العلاقة نوع خاص من “مجتمع مدني” لصيق بالدولة يحميها من الفساد غير أن النظام اللبناني عرض نوعاً من التواطؤ المتبادل بين القوى بالأحرى، وأحال هذا التواطؤ فاعلية كل الحريات المتوفرة في لبنان إلى ما يقارب الصفر، وأحال الدولة اللبنانية إلى بؤرة فساد عز نظيرها، من دون أن تتمكّن الدولة اللبنانية، طوال تاريخها، من محاسبة فاسد واحد. هناك كلامٌ عن أن قانون الإثراء غير المشروع لم يستعمل ولو مرة واحدة منذ إقراره عام 1952.
تركيبة النظام اللبناني تجعل من المستبعد أن يتعرّض المتظاهرون اللبنانيون إلى قمع “دولتي”، كالذي تعرّض له أشقاؤهم السوريون. القمع الذي يمكن أن يتعرّض له المتظاهرون اللبنانيون يمكن أن يكون طائفياً على شاكلة التركيبة اللبنانية نفسها، وعلى يد قوى طائفية تمتلك القوة على القمع، وذلك حين تتهدّد الزعامات الفردية. ويمكن أن نشهد، إذا استمرّت المظاهرات وتوسعت، بروز “شارع ضد شارع”، لتشتيت الطاقة وإدخال الحراك في مساحاتٍ سياسية ضيقة. وقد يكون حزب الله الجهة الأكثر قدرة على تفعيل هذا المسار، بالاستناد إلى أسطورة “العدو والمقاومة”.
لن يكون “إسقاط النظام” في لبنان أسهل منه في سورية، على الرغم من الفرق الكبير في التضحيات والخسائر المترتبة على المحاولة هنا وهناك. تأتي الصعوبة في سورية من انعدام مرونة النظام، ما يجعله يرتد بأقسى ما يمكنه ضد أي محاولة تغيير، فيما تأتي الصعوبة في لبنان، على عكس ذلك، من مرونة النظام وقدرته على امتصاص محاولات التغيير، وجعلها بلا قيمة. على هذا، ستكون الخسائر اللبنانية أقل بكثير منها في سورية، من دون أن يؤثر هذا على النتيجة المباشرة هنا وهناك.