نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا قبل أيام بعنوان: “كيف يبدو (النصر): جولة في سوريا المحطمة”
28 / آب / أغسطس / 2019
المصدر: عنب بلدي – منصور العمري
زارت مراسلة نيويورك تايمز في بيروت، فيفيان يي، برفقة مصورة أمريكية ومترجم أو مترجمة لبنانية سوريا لثمانية أيام في حزيران/يونيو بعد أن منحهم النظام السوري الموافقة. تنقّل الفريق في عدة مدن ومناطق بمرافقة مخابرات الأسد وتحت رقابتها، في أثناء إعداده هذا التقرير.
بدأ تقرير نيويورك تايمز من دوما، المدينة التي قتلها الأسد بالكيماوي في آب/أغسطس 2013، وانتهى بالحمص الناعم والمتبل والدجاج المشوي وكباب الخروف في حلب. نُشر التقرير في يوم ذكرى ضربة الأسد الكيماوي للغوطة حين “استيقظ العالم على فظائع استخدام نظام الأسد لغاز الأعصاب السارين في هجوم على بلدة تسيطر عليها المعارضة السورية “، كما وصفه السفير الأمريكي كينيث وارد.
لم يذكر التقرير كلمة واحدة عن هجوم الكيماوي الأكثر بشاعة في هذا القرن، والذي أودى بحياة أكثر من 1400 سوري في ساعات قليلة، وأدى إلى “التجريد” المفترض لنظام الأسد من أسلحته الكيماوية، والتي بعدها نفّذ الأسد مئات الهجمات الكيميائية التي اجتاحت الأراضي التي يسيطر عليها الثوار.
في عنوان التقرير وُضعت مفردة “النصر” بين علامتي اقتباس، كي ينأى كاتبه بنفسه عن فكرة انتصار الأسد. رغم ذلك، ذكر الكاتب أكثر من مرة تأكده من انتصار الأسد صراحة، وقدم ما اعتبره أدلة على ذلك:
“بعد ثماني سنوات من الحرب الأهلية ، تسيطر الحكومة السورية الآن على معظم أنحاء البلاد ، وبدا يوم الثلاثاء أن الحكومة أقرب من أي وقت مضى للسيطرة على إدلب، آخر أراضي المتمردين”، و”لم يعد هناك شك بأن الرئيس بشار الأسد سينتصر منذ زمن” نحن -ثلاثة صحفيين من نيويورك تايمز- أتينا إلى سوريا لنرى كيف بدا انتصاره، و الأسد “سيبقى الرئيس”.
يبدو التقرير وكأنه يقدم الأدلة بأن الأسد انتصر وباق فوق رؤوس السوريين، كما أنه صور أن الأسد يسيطر على كل شيء، مع “جهاز استخباراته القوي“. هذا هو بالضبط ما يريد بعضهم رؤيته في سوريا: السيطرة على الناس، ورجل مخيف ويعتمد عليه كي يجعل البلاد آمنة من جديد، لإعادة اللاجئين والتعاون في ملف الإرهاب. وأن العقوبات الأمريكية والأوروبية على نظام الأسد غير فعالة ولا داعي لها.
لكن الحقائق على الأرض تناقض ما أراد التقرير تقديمه إلى الرأي العام الأمريكي وللساسة الأمريكيين، بل أخفى هذه الحقائق ونفّذ ما يريده الأسد تمامًا، فالأسد لا يريد أن يرى العالم أنه ضعيف للغاية، ولا يسيطر حتى على حراسه الشخصيين.
حتى الطريقة التي حاول بها التقرير إقناع الناس بها لم تكن فعالة. فالوضع في إدلب أكثر تعقيدًا وكارثية من وصف: “يوم الثلاثاء بدت الحكومة أقرب من أي وقت مضى للسيطرة على إدلب”، في إشارة إلى تقرير إخباري يصف مدينة مختلفة تمامًا، وهي خان شيخون.
هناك أكثر من ثلاثة ملايين في إدلب، نصفهم هجرهم الأسد من جميع أنحاء سوريا، ورفضوا العيش تحت سيطرته، ومستعدون للموت من أجل هذا.
ما لم يره صحفيو نيويورك تايمز في سوريا
في زيارة استغرقت ثمانية أيام، “تمكن صحفيو صحيفة نيويورك تايمز من دخول سوريا، ورأوا الخراب والحزن والكرم”، كما نقلوا للعالم من خلال صحيفة “نيويورك تايمز” المؤثرة في جميع أنحاء العالم، الدمار ومعاناة الناس بعد الحرب، التي يعرفها الجميع مسبقًا، بالإضافة إلى نقل صورة الأسد صاحب السيطرة الكاملة، ووجهة نظر حكومة الأسد، وصلابة وقوة موالي الأسد، وعدم فائدة استخدام العقوبات الأمريكية.
من ناحية أخرى، لم يرَ صحفيو نيويورك تايمز “التوسع الشيعي الإسلامي الإيراني” (عنوان الجارديان) ذو الهدف السياسي لمنح المرشد الأعلى لإيران سيطرة أكبر على المجتمع السوري، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من القوات الطائفية التي تتلقى أوامرها من طهران مباشرة، وليس من الأسد.
لم يروا “حزب الله” والشركات التابعة له، وتجارته للمخدرات حتى في المدارس، وذراعه الطويلة، وسيطرته على عديد من المدن والبلدات السورية، بما في ذلك بصرى الشام والقصير.
- لم يروا جثث ودماء السوريين الممزوجة بتراب دوما الطاهر الذي داسوه، ولا المذبحة المدفونة تحته.
لم يروا “الرجل الأبيض” الروسي في سوريا، ولا السيطرة المتزايدة على روسيا، ليس فقط على الصعيدين السياسي والعسكري بما فيه الفيلقان الخامس والسادس، ولكن أيضًا في المدارس، وعلى الأطفال السوريين، وكذلك السيطرة الكاملة لروسيا على موارد سوريا واقتصادها بما في ذلك الغاز والنفط والفوسفات والموانئ والمطارات.
رأى صحفيو نيويورك تايمز أنه كان هناك “عدد قليل من الشباب” لأنهم إما “ماتوا في الحرب، أو تم إلقاؤهم في السجن أو مبعثرون خارج الحدود السورية”، لكنهم فشلوا في رؤية الشاغل الرئيسي للذكور السوريين: التجنيد في جيش الأسد، أو الاختباء منه.
لم يروا الانفلات الأمني وجرائم القتل والاغتصاب والخطف والسرقة وشبكات الدعارة التي تستغل البشر، وحالات الانتحار وطاعون تجارة وتعاطي المخدرات.
أين الخبر في هذا التقرير؟ أين السبق الصحفي؟ أين تقارير نيويورك تايمز المميزة؟ أين الفكرة أو الحدث الفريد الذي قدمه هذا التقرير لأي شخص لديه حد أدنى من المعرفة؟ أين المصداقية والبراعة الصحفية التي رأيناها في تقرير إيزوبل يونغ مثلًا في تقريرها: “كيف تبدو سوريا بعد ست سنوات من الحرب“؟
- قدم التقرير أيضًا مقابلات مع سوريين تحت حكم الأسد بوجود عناصر المخابرات.
حين يسأل أي صحفي أي سوري أو سورية تحت حكم الأسد، أول ما يدور في خلد هذا السوري ليس التفكير بالسؤال والإجابة عنه، بل هذا ما يدور في خلده:
سوف أعتَقل، سوف أتعرض للتعذيب والتجويع، وسوف أتعرض للاغتصاب، وسأحرم من جميع وسائل الحياة، وبعد ذلك إذا لم أمت في المعتقل أو تحت التعذيب، سأعدَم بلا محاكمة، وسوف تختفي جثتي. ستقضي عائلتي بقية حياتها تكافح من أجل الحصول على وثيقة تثبت أني ميت، وعلى جثتي كيف تصنع قبرًا لها.
كان واضحًا أن حديث أم خليل، إحدى من قابلتهم نيويورك تايمز، قد مر بعدة فلاتر، منها فلتر التعذيب وفلتر الاغتصاب.
كما قدم التقرير معلومة خاطئة كليًا وهي: “يفترض كثير من غير العلويين أن العلويين يكافؤون بشكل كبير مقابل ولائهم”. لكن في الحقيقة، يعرف كل سوري أن جنود الأسد وعائلاتهم لا يكافؤون بل يتعرضون للمهانة.
يعرف السوريون أن أولئك الذين ضحوا بكل شيء من أجل الأسد يتعرضون للإهمال والتهميش، بل حتى إن هذه المعلومة أصبحت موضوعًا للتندر والكوميديا السوداء بين السوريين. فعندما يُقتل أحد مقاتلي الأسد، تحصل أسرته على ساعة حائط، أو بسكويت، أو برتقال.
أم أحمد، سورية من حلب، قابلتها نيويورك تايمز. لكن أم أحمد لم تستطع تمالك نفسها وقالت أشياء للصحفيين “لا ينبغي أن تقولها”، فأخذتها رنا التي تعمل مع المخابرات “إلى المطبخ” وسمعت الصحفية التي كتبت التقرير “أصواتًا مرتفعة”. أم أحمد “كانت هادئة عندما عادت”.
قالت صحفية نيويورك تايمز إنها “اشتكت في وقت لاحق إلى وزير الإعلام حول كثرة المرافقين”. الصحفية اشتكت للوزير نفسه الذي طرده الأسد لأنه قال علانية إنه لا يملك ميزانية كافية لشراء فساتين لمذيعي التلفزيون السوري!
- هل سنعرف يومًا ما، ما الذي سيحدث لأم أحمد؟ هل سيغتصبها ويقتلها “جهاز المخابرات القوي” التابع للأسد؟
لا، أيها الصحفيون الأعزاء في نيويورك تايمز، الأسد لا يسيطر على سوريا، ولا! لم ينتصر، بل خسر سوريا لصالح روسيا وإيران. في الواقع هو انتصار لروسيا وإيران والبروباغاندا على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والديمقراطيات والحكومات التي تدعم حقوق الإنسان في العالم، وهزيمة للشعب السوري بكل أطرافه.