أما الجانب الآخر للصورة، والذي لا ينتبه إليه من يحتفلون بانتصار المجرم هو كيف يمكن أن يصل البلد إلى الاستقرار وسط هذه البشاعة، وفي ظل هذه الجرائم، وكيف سيتعايش السوريون معه، وماذا يمكن أن يفعل المكلومون في مواجهته في زمن العنف الرخيص؟
21 / أيار / مايو / 2019
المصدر: عربي 21 – ياسر الزعاترة
حين تقرأ التقرير، ستُصاب غالبا بالغثيان والدوار، فهذا المستوى من البشاعة لا يمكن أن يصدر عن بشر عاديين، ولا بد أن يكون مقترفوه وحوشاً لا تعرف معنىً للإنسانية.
من الصعب تلخيص تقرير يتكون من 5000 كلمة، في بضع مئات من الكلمات، ولا بد أن يطلع عليه كل معني بالقضية، وهو متاح (بترجمته الكاملة) إذا أحب أي أحد البحث عنه عبر “غوغل” بعنوان: “من داخل سجون التعذيب السرية.. كيف سحق بشار الأسد المعارضة؟”.
العنوان بطبيعة الحال ليس صحيحاً في شقه الثاني، لأن الطاغية لم يسحق المعارضة عبر السجون السرية، وإن كان ما ذكره التقرير في أحد أجزائه صحيح، أعني ما يتعلق بتلك اللعبة التي أدارها حين أطلق معتقلي السلفية الجهادية من السجون، في الوقت الذي كان يزج فيها بالآلاف من المتظاهرين السلميين؛ وبالطبع كي يتهم الثورة بالإرهاب.
مع ذلك، لم يتم سحق المعارضة بهذه الوسيلة، وإن كانت بالغة الأهمية في السياق، فقد فشل وجاء تدخل إيران لكي ينقذه حين كان على وشك السقوط عام 2012. وحين فشلت الأخيرة، تم استدعاء القاتل الروسي الذي مارس سياسة الأرض المحروقة في كل المناطق.
الأهم أن التسامح الدولي مع التدخل الإيراني، وتالياً التدخل الروسي، لم يأت لأن هناك قوىً مصنفة في لوائح الإرهاب تنشط في الساحة، بل لأن أمريكا والغرب قد لبوا الرغبة الصهيونية في جعل سوريا “ثقباً أسود” يستنزف كل أعدائها وخصومها، وفي المقدمة الربيع العربي الذي أنذرها بمحيط ينسجم مع رغبات الشعوب الرافضة لوجوده بالمطلق.
هذا البعد في عنوان التقرير لا يقلل من أهميته في سياق كشف الوقائع الرهيبة التي حدثت وما زالت تحدث في السجون السرية والعلنية لبشار الأسد، والتي آوت ما يقرب من 128 ألف معتقل، وفق أقل التقديرات، وهؤلاء ليس بينهم سوى قلة قليلة جدا ممن حملوا السلاح، فيما الباقون من المعارضين السلميين للنظام.
يقول التقرير: “على امتداد سبع سنوات، أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقابلات مع عشرات الناجين وأقارب لمعتقلين مفقودين أو لقوا حتفهم، كما استعرضت الوثائق الحكومية التي تتضمن التفاصيل المتعلقة بحالات الوفاة في السجون والقمع المُسلّط على المعارضة، وفحصت أيضا مئات الصفحات من إفادات الشهود في تقارير حقوق الإنسان ودعاوى المحاكم. في الواقع، تتوافق روايات الناجين المبلغ عنها هنا مع روايات السجناء الآخرين المعتقلين في السجون ذاتها، كما تدعمها المذكرات الحكومية والصور المُهرّبة من السجون السورية”.
ويذكّر التقرير بسجل آل الأسد الحافل بقصص الاعتقال والتعذيب قبل تنصيب بشار رئيساً من قبل أجهزة الأمن بعد وفاة والده في مسرحية ديمقراطية سخيفة. يقول التقرير: “وعلى مدى عقدين من الزمن، اختفى حوالي 17 ألف محتجزا في غياهب نظام يمتاز بمرجع تعذيب تمت استعارته من المستعمرين الفرنسيين والديكتاتوريين الإقليميين، وحتى النازيين، حيث كان من بين مستشاريه الأمنيين، ألويس برونير، مساعد أدولف إيخمان الهارب. وعندما خلف بشار الأسد والده في سنة 2000؛ أبقى نظام الاعتقال على حاله”.
مرة أخرى، لن يكون بوسعنا أن ننقل هنا أياً من الشهادات التي يحفل بها التقرير، ونحيل القارئ المهتم إليه. والسؤال الذي تطرحه الصحيفة، ويطرحه كل من لديه ذرة من إنسانية، هو: هل سيفلت المجرمون من العقاب، وماذا يمكن أن يفعله المعنيون كي يجعلوا حياة المجرمين صعبة، عبر رفع دعاوى في كل المحاكم الدولية والمحلية التي تتقبل هكذا دعاوى.
أما الجانب الآخر للصورة، والذي لا ينتبه إليه من يحتفلون بانتصار المجرم هو كيف يمكن أن يصل البلد إلى الاستقرار وسط هذه البشاعة، وفي ظل هذه الجرائم، وكيف سيتعايش السوريون معه، وماذا يمكن أن يفعل المكلومون في مواجهته في زمن العنف الرخيص؟ والنتيجة أن سوريا لن تعرف الاستقرار الحقيقي ما بقي هذا النظام الطائفي البشع. أما الجانب الآخر فيتمثل في أن داعميه الإيرانيين قد ربحوا عداء الأمة جمعاء بدعمهم لجرائمه ومشاركتهم فيها، إذ ستظل دماء الطفل حمزة الخطيب، وعشرات الآلاف ممن قضوا تحت التعذيب، بجانب مئات الآلاف ممن قضوا بالبراميل المتفجرة وأدوات القتل الأخرى، تلاحقه دون توقف حتى تقتلعه من جذوره؛ طال الزمان أم قصر.