بعد قيام الثورة السورية، ومشاركة الأكراد السوريين بالتظاهرات المنددة بالنظام السوري، والمطالبة بإسقاطه؛ حاول الأخير استمالتهم من خلال منحهم بطاقات هويةٍ سوريةٍ كان قد حرمهم منها ومن حقّ المواطنة، طيلة أكثر من أربعين عاماً
18 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2019
أحمد طلب الناصر
خلال مرحلة “الوحدة الناصرية” وما تلاها من سيطرة البعث على السلطة في سوريا، منذ عام 1963، راحت تتنامى مظاهر قمع الحريات الفكرية والسياسية والاجتماعية، ليطال الظلم جميع مكونات الشعب السوري دون استثناء، بدءاً من العرب والكورد بجميع طوائفهم وتياراتهم وانتهاءً ببقية القوميات والإثنيات الموزّعة ضمن الجغرافيا والتاريخ السوريَّين.
ولن نبالغ إذا قلنا بأن أكثر المكونات التي عانت من ظلم وتهميش نظام البعث، وعلى الأخص في مرحلة حكم عائلة الأسد، الأب والابن، هو المكوّن السوري الكوردي.
فالإهمال والتهميش اللذان تعرّض لهما الأكراد منذ بدايات حكم البعث، على صعيد المواطنة والهوية واللغة، أجّج الشعور بالمظلومية، ليس تجاه النظام القائم فحسب، وإنما تجاه كل من يحيط به من منتفعين ومتسلقين ومعتنقي مبادئه، عرباً كانوا أم غيرهم.
كل ذلك دفع العديد من الأكراد للانضمام إلى أغلب الأحزاب والحركات المناهضة للنظام البعثي وأفكاره القومية- العنصرية، إضافة إلى تأسيس وترؤس العديد منها، ما عرّضهم لاحقاُ للملاحقات والاعتقالات، والتصفية، مثال ما حصل للمناضل “مشعل تمو” حين تم اغتياله في بداية انطلاق الاحتجاجات ضد نظام الأسد 2011.
وبالعودة قليلاً إلى سنوات سبقت اندلاع الثورة، وبالتحديد إلى العام 2004 الذي شهد أحداث مباراة القامشلي الشهيرة؛ سنلحظ بأنها، تلك الأحداث، قد أفرزت الشرارة الأولى للثورة الكوردية ضد نظام القمع، لا سيما بعد اتساعها لتشمل مدناً من ريف الجزيرة السورية، وحلب وبعض أحيائها، وعلى نطاق ضيّق في دمشق العاصمة.
إلا أن التخبّط الذي حصل آنذاك، إضافة إلى الدور (المخابراتي) الأسدي ولعبه في حرف المواجهة، من مواجهة بين مظاليم الكورد وظُلّام النظام، إلى مواجهة كوردية- عربية، انخرط في أحداثها جزء من أبناء العشائر العربية المقيمة داخل مناطق الهيجان، بدعمٍ سافر من أجهزة أمن النظام بعد نشرها لشائعات ادّعت فيها بأن الكورد كانوا يبيّتون لأعمال شغب وتخريب وقتلٍ قبل حدوث تلك المباراة؛ والتي كان طرفاها فريقي الفتوة “الديري”، والجهاد “القامشلاوي” المحبب لدى الكورد.
والحال، فقد قُمعت التظاهرات بعد أيام قليلة لتعود أجهزة الأمن بالتضييق على الكورد وأنشطتهم وتحركاتهم؛ فأضحت أحداث القامشلي بالنسبة للكورد بمثابة أحداث الثمانينيات في حماة بالنسبة للعرب، وما تلاها من السيطرة الأمنية على مفاصل ومقدرات البلاد والعباد منذ ذلك الوقت.
استمرتّ استفزازات النظام بحقّ الأكراد لتمسّ بعد شهور قليلة أحد أعلامهم وهو الشيخ “معشوق الخزنوي”، حين أقدمت أجهزة الأمن على خطفه وتصفيته، لتقوم بعد ذلك باختلاق فيلم سيئ الإخراج والتمثيل، يتحدّث عن حالة انتقام قام بها اثنان من مواطني مدينة دير الزور بحق الشيخ “معشوق الخزنوي”، قاما بقتله ثم دفنه في مقبرة المدينة؛ ما أدّى إلى اتساع الهوة بين الجارين العربي والكوردي.
تلك الحادثة وتبعاتها، أثارت استهجان العديد من شخصيات معارضة لنظام الأسد وقتذاك، فتصدّت لوأد الفتنة التي زرعها الأخير مرة أخرى بين أبناء المكونين؛ فقَدِم “فايز سارة” بصحبة عدد من ممثلي المعارضة من دمشق متوجهاً إلى دير الزور، حيث التقى بـ “رياض درار” الذي يشغل حالياً منصب الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، ثم انطلقوا صوب مجلس العزاء في القامشلي لتقديم الواجب وتهدئة النفوس.
وجّه “درار” كلمة للجموع وضّح من خلالها أن ما يربط أبناء الكورد مع العرب هو أكبر من تلك الحادثة، وتخللت كلمته عبارة “إن ثأركم ليس معنا، نحن الديريين أو العرب عموماً، بل مع النظام” في إشارة واضحة إلى أن النظام هو من كان وراء وفاة الشيخ معشوق. وبمجرد عودته إلى دير الزور قامت المخابرات باعتقاله.
وبالعودة إلى الشخصين، وهما من أتباع الطريقة الخزنوية، وقصة اعترافهما بقتله ودفنه من خلال مقابلة مفبركة عبر تلفزيون النظام، نشير إلى نقطة ما زال يجهلها الكثير من السوريين، وهي أن التصوير قد تم عرضه على شاشات التلفزة بعد إنجاز المهمة وتهريب النظام للشخصين المذكورين إلى ألمانيا بأيام قليلة، وما زالا يقيمان فيها حتى اللحظة.
بعد قيام الثورة السورية، ومشاركة الأكراد السوريين بالتظاهرات المنددة بالنظام السوري، والمطالبة بإسقاطه؛ حاول الأخير استمالتهم من خلال منحهم بطاقات هويةٍ سوريةٍ كان قد حرمهم منها ومن حقّ المواطنة، طيلة أكثر من أربعين عاماً.
إلا أن تلك الخديعة لم تنطلِ على الأكراد، وظلّوا يشاركون جيرانهم العرب بالتظاهرات الشعبية مطالبين بإسقاط نظام الأسد على امتداد الجغرافيا السوريّة، من عامودا إلى عين عرب- كوباني إلى ركن الدين الدمشقي؛ هكذا حتى بدأت تظهر على الساحة السورية بوادر العمل المسلح ممثلاً بفصائل الجيش الحر، ثم بروز التشكيلات “الجهادية الإسلاموية” وآخرها تنظيم “داعش” الإرهابي؛ تلك التشكيلات أثبتت الأيام اختراق معظمها من قبل إيران والنظام السوري، وتجلّت بوضوح بعد بروز ظاهرة (الضفدع) في الغوطة الشرقية.
ظهور تلك التشكيلات “الجهادية” المتشددة على الساحة السورية واستهدافها المباشر لفصائل الجيش الحر، ساهم بصورة أو بأخرى، في نموّ نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd) و”قوات حماية الشعب الكردية” كَـرَدّ فعل عكسي عند فئة من (المؤدلجين) وغيرهم من أبناء المكوّن، ممّن ينتمون إلى تيارات علمانية قومية ويسارية، بغية التصدّي للجماعات “الإرهابية”.
مؤخراً، ونظراً لحالة العسكرة وتحولات المعارك من صدام بين فصائل المعارضة وقوات الأسد من جهة، وبين “قسد” و”داعش” من جهة أخرى، إلى صدام بين “الجيش الوطني” وقوات “قسد”؛ ونتيجة الدعم التركي لفريق الأول والأمريكي للثاني. وبفعل انتشار أخبار وصور عن انتهاكات داخل بعض الأماكن المسيطر عليها من قبل الطرفين، والتي لا تخلو من مبالغات في أغلب الأحايين نتيجة المواقف والميول السياسية والتحالفات المتضاربة بين الطرفين، العربي والكوردي؛ عاد خطاب الكراهية ليسيطر مجدداً على الساحة مستفزاً النزعات القومية والعرقية العنصرية.
وتجاوز الخطاب ذهنية العوام لينتشر هذه الأيام بين شريحة واسعة من المثقفين والسياسيين المحسوبين على الفريقين؛ محرّكها الرئيس لعبة السياسة وتحالفاتها المتناقضة عند عموم السوريين، فرضتها عليهم حالة الحرب والفوضى وتعنّت النظام سياسياً وعسكرياً ورفضه كافة الحلول المتاحة التي من شأنها إنهاء الحرب ورأب الصدع بين كافة الأطراف.
والحال، فإن أشدّ ما نحتاج إليه اليوم لضمان العبور إلى مستقبل يليق بجميع المكونات السورية، هو طرح مشروع وطني جامع، يقوم على مبدأ الحرية والتعددية والديموقراطية، ويشكّل البوصلة التي تحدّد مدى تقبّلنا لمفهوم “المواطنة” بصورته الصحيحة مستقبلاً؛ وكل ذلك لن يتحقّق في ظل استمرار الصراع والحروب الدائرة. لكن، وبمجرد الوصول إلى مرحلة الانتقال والاستقرار السياسي والاجتماعي، سيدرك السوريون، كورداً وعرباً، بأن النظام، قبل الجميع، قد ضحك عليهم خلال السنوات الماضية.