#########

آراء

ما بعد عائلة الأسد.. سوريا إلى أين؟


 إن ما أوصلنا إليه نصف قرن من حكم عائلة الأسد يفوق بكثير شعار "الأسد أو نحرق البلد"، لأنه قد يكون ترجمة غير دقيقة لجواب حافظ الأسد: لن تكون هناك سوريا. هذا الجواب الذي لم يتمكن حتى أتباع الأسد الممسوسين من استيعابه، ولا من مقاربته

31 / أيار / مايو / 2020


ما بعد عائلة الأسد.. سوريا إلى أين؟

*المصدر: موقع تلفزيون سوريا | بسام يوسف

عندما كان حافظ الأسد ينتهك القانون السوري من ألفه إلى يائه، بعد أن جعل من القضاء السوري محض واجهة، حتى إن أدنى عنصر مخابرات كان يمكنه أن يجرجر أكبر مرجع حقوقي وقضائي إلى أقبية السجون بلا أي سبب ومن دون أي تبرير، لم يكن يخجل أبدا من أن يخرج على السوريين مطالباً إياهم بأن ينظروا نظرة ازدراء إلى من يخالف قانون السير!

وعندما كان يعتقل من يقوم بفعل حقيقي من أجل الجولان السوري المحتل، وكان يحمي اتفاقه مع إسرائيل وحدودها بكل بسالة، لم يخجل أبدا من أن يخرج متبجحاً ليقول بعد إعلان إسرائيل قرار ضم الجولان عام 1981: أنه قادر على جعل الجولان في منتصف سوريا.

هكذا كان حافظ الأسد، وهكذا هو- ببساطة شديدة- مجرد كاذب يتقن إخفاء الحقيقة بشعارات تناقضها. وهو ذاته الذي في مقابلة أخرى، وعند سؤاله عن سوريا من دون حكمه ومن دون حكم البعث، كان قد أجاب بما يستحق التوقف عنده:

لن تكون هناك سوريا…!

واليوم، يكثر حديث السوريين- وغيرهم- عن مستقبل سوريا من دون عائلة الأسد، فهل من الممكن أن تغيب هذه العائلة عن حكم سوريا التي حكمتها ما يزيد على نصف قرن؟ وبالرغم من هذا السؤال، وبغض النظر عن اقتراب وقت هذا الرحيل أو تباعده، فإن السؤال الملح الذي يسأله السوريون اليوم كثيراً، هو:

سوريا إلى أين؟

إذاً، هل ستتحقق نتيجة حافظ الأسد التي قالها في جوابه ذاك، بأن سوريا لن تكون؟ أم أن هناك ما سوف يقوله السوريون، وهو بالضرورة يجب أن يناقض ما خططه حافظ الأسد وما عمله، إضافة إلى أنه يجب أن يناقض أيضا ما كرسه ابنه القاصر على الأرض، أقصد: دمار سوريا، ونهايتها؟

أما الأرقام التي تتناقلها جهات عديدة معنية بالشأن السوري، فهي تبعث إحساساً عميقاً بالصدمة، وتعمق يأساً قاتلاً، ففي هذه السورية لم تعد مفردة الكارثة كافية لوصف الحال الذي أوصلتنا إليه عائلة الضباع؛ لأن ما دمره حكم هذه العائلة ليس الدولة السورية فقط، ولا بنيتها التحتية فقط، ولا اقتصادها فقط، ولا نسيجها الاجتماعي فقط، لقد دمر- عن سابق تقصد وتعمد- ما هو أفدح بكثير، لقد دمر إمكانات نهوضها، ودمر ركائز بقائها، وفخخ مستقبلها بكوارث قابلة دائماً للانفجار في أي لحظة.

لن أعيد الحديث عن التقديرات الاقتصادية التي تتحدث عن حاجة سوريا إلى 600 مليار دولار لإعادة إعمارها، ولا الحديث عن تداعيات الظلم الاجتماعي الهائل الذي مورس على السوريين والذي سيلقي بظلاله الثقيلة على سوريا في عقودها القادمة، ولا الحديث عما يقارب مليون ضحية، وعشرات المجازر الوحشية، ومئات آلاف المعذبين حتى الموت، والمختفين في سجون هذه الطغمة. وفوق كل هذا يقوم بشار الأسد برهن سوريا واقتصادها لجهات خارجية عبر اتفاقيات مجحفة وقعها ليحمي كرسيه، رغم أنها تسلب الشعب السوري حريته وثرواته… إلخ.

ولكني سأحاول مقاربة مؤشرين فقط، وهما مؤشران شديدا الأهمية، مع أنهما لا يلقيان ما يكفي من الانتباه والاهتمام، وهما المؤشران اللذان ينشغل عنهما السوريون الغارقون في مواجهة الموت اليومي الذي يحاصرهم، واللذان لا بد أن يتكشفا ما إن يصمت زعيق الموت، وما إن ينجلي غبار هذه الحرب، فيتلمس السوريون بما يشبه الفاجعة، أن وجهاً آخر لا بد من مواجهته، ولا بد من دفع استحقاقاته، وهو الوجه الأشد قسوة لهذا الخراب الذي يعصف بسوريا.

المؤشر الأول، هو: التعليم، والذي أشارت دراسة أعدها “المركز السوري لبحوث السياسات” إلى فاجعة ستواجهها سوريا لعقود قادمة، يمكن تكثيفها بالعبارة الواردة في البحث:

“لقد ضاعت 24 مليون سنة دراسية على السوريين، وهذا يعقد فرص النهوض في المستقبل”.

نعم إن الكارثة هنا، كارثة ثلاثة ملايين طفل سوري خارج المدارس منذ سنوات، هذا يعني أن جيلاً قادماً سيشكل بنية القوة العاملة الأساس في سوريا، جيل سيعاني من نقص المهارات ونقص المعرفة، وفقر بالعلوم التي أصبحت اليوم محرك الاقتصاد الأهم، هذا إذا تجاهلنا- كمن يكذب على نفسه- أن هذا الجيل لن يعاني من عدم التعليم فقط، بل سيضاف إلى معاناته ما خلفته هذه الحرب، إضافة إلى آثار ظروف التشرد والفقر على بنيته النفسية.

وما يزيد هذه الكارثة الفادحة، هو: أن من يذهبون إلى المدارس في سوريا، ليسوا أحسن حالاً بكثير أيضاً؛ ففي سوريا هناك ستة مناهج تعليمية تدرس، وهي المناهج التي تفرضها القوة الحاكمة في كل منطقة، وهي مناهج تشوه الأطفال السوريين نفسياً وعقلياً؛ لأن الأيديولوجيا والدين هما اللذان تشكل مرجعياتهما الأساس، في الوقت الذي تغيب تماماً عن هذه المناهج أي معايير علمية أو نفسية أو حقوقية التي ليس أقلها حقوق الطفل.

أما المؤشر الثاني، فهو المؤشر الذي يشكل تحدياً كبيراً للسوريين في دولتهم القادمة، وهو ملف الإعاقة الذي ذكرته منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، في تقرير نشرته في شهر آذار عام 2018، وقد جاء فيه: أن في سوريا ما يزيد على مليون ونصف المليون إعاقة دائمة.

إذاً، كيف سيتمكن بلد مدمر بكامله، بلد يخرج مكلوماً من حرب طويلة، بلد منهوب الاقتصاد، وما تبقى منه مرهون لجهات خارجية، كيف سيتمكن من النهوض بأعباء مليون ونصف معاق على أقل تقدير؟

لا أدري إن كانت منظمة اليونيسيف قد لحظت في تقريرها الأمراض النفسية التي تسببت بها الحرب، والتي تصنف من ضمن الإعاقات أيضاً، وهي التي ترصد لها الدول ميزانيات ضخمة لمعالجتها، مع أن الأعداد لا يمكن مقارنتها- كيفما كانت- بأعداد الكارثة السورية.

 إن ما أوصلنا إليه نصف قرن من حكم عائلة الأسد يفوق بكثير شعار “الأسد أو نحرق البلد”، لأنه قد يكون ترجمة غير دقيقة لجواب حافظ الأسد: لن تكون هناك سوريا. هذا الجواب الذي لم يتمكن حتى أتباع الأسد الممسوسين من استيعابه، ولا من مقاربته.

فهل- بعد هذا- سيتمكن السوريون، بعد أن يقتلعوا هذه العائلة المجرمة، من أن يقتلعوا ما خططته لسوريا ولهم، وأن يطووا صفحتها بكل ما فيها وبما يترتب عليها، وبكل ما تحمل كلمة طي من معنى؟

إنه سؤال برسم السوريين كلهم دون استثناء.