حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً، سرتُ معه ببطء وأخذنا نتطرق إلى أحاديث كثيرة، ترافقها أصوات القذائف وأزيز الرصاص، وصدى قليل لانفجارات بعيدة
14 / أيار / مايو / 2020
*مع العدالة | أحمد بغدادي
“من حصار حي الجورة في دير الزور2011 “
(1/4)
***
كان الموتُ يعدو بعينين واسعتين كثورٍ هائج بين الأزقة الخاوية؛ ينطحُ الفراغَ الملوّث بالأدخنة والصمت، وصدى صرخات النساء والأطفال، الذين غادروا إما إلى قبورهم شاخصين بين أذرعةِ ذويهم، أو مضوا حاملين صررَ الأيامِ الغابرة نحو المجهول!
في الساعة الثامنة صباحاً، تقريباً، وصلتُ من دمشقَ إلى دير الزور بعد رحلة تكاد أن تكون شبه مستحيلة.. وكان ذلك بتاريخ 2011-08-01، اليوم الأول من شهر رمضان. حينها، لم أدرِ كيف نجوتُ من الحواجز العسكرية والأمنية المتوزّعة على طريق السفر، ولم أعِ أنني الآن أقفُ حذو بيت جدي في “حي الجورة” حيث لا أحد، في الشوارع، والمنازل، وحتى أن القططَ والكلاب غادرت أيضاً، ولم يبقَ كائنٌ على مدّ النظر هناك!
نظرتُ إلى مصراعي الباب (بيت جدي العربي)، فرأيتُ قفلاً، وسلسلة حديدية من الخارج تربطه بإحكام، وكأن هذا المشهد صفعة أدارت قلبي نحو الماضي، حيث كنّا صغاراً نركضُ في ساحة الدار بين الأشجار والنباتات الصغيرة، ونتراشق الضحكات ونتلقّى التقريع والتوبيخ عبر خالاتنا بسبب الضوضاء العالية وقت القيلولة!
وضعتُ وجهي على الباب الحديدي الموشّى بثقوبٍ صغيرة، حيث باستطاعة المرء استكشاف باحة المنزل من خلالها، فلم أرَ سوى دالية العنب الذابلة، وشجرة التين الحزينة، والبقجة (حوض ترابي كبير داخله زرع)، وشبابيك الغرف الصامتة؛ فتخيّل إليّ وقتها أن جدي الراحل يتّكئ كعادته على وسادة وأمامه الراديو الصغير، الذي لا يفارقه بتاتاً، مثل إذاعة “مونت كارلو“؛ وهذه الأخيرة، الجهة الإخبارية الوحيدة التي يصدقها جدّي. كان يلفُّ سجائره (دخان الغازي العربي) ويبدأ بالتفِّ يميناً وشمالاً، ويشتم “إسرائيل” وحافظ الأسد. ومن إرهاصات جدي المتكررة، أنه كان يذكر من حين لآخر قائلاً ” هذه البلاد سوف تذهب نحو الدمار إن بقيت عائلة الأسد تحكمها“.. ولم يكن يستمع إلى مخاوف “حبّابتي” (جدتي) حينما تضعُ سبّابتها على شفتيها محذرةً إياه من تقرير أمني عبر واشٍ أو مخبر يتمشّى في الحي، لكنه، كان يجيبها بإيماءة من كفّه بأن يوجّه إصبعه الوسطى نحو حذائه ويضيف ” هذا لحافظ الأسد”.
*مرةً قال جدي لجيرانه خلال سهرةٍ مسائية في الصيف، وإلى الآن ما قاله محفورٌ في ذاكرتي” إذاعة مونت كارلو صادقة، رغم أنها فرنسية، والغرب يكذبون كثيراً، لكن هل تعرفون لماذا؟ .. لو أنّ خراف بيت “السنجار” قررت استعادة فلسطين يوم الأربعاء القادم بحسب “مونت كارلو”، لفعلتها، فهي لديها حزم وعزيمة أكثر من الحكّام العرب”.
تداخلت كل هذه الذكريات في رأسي، وشعرتُ بقشعريرة غريبة وأنا أضعُ وجهي على الباب الحديدي، وكأن سربَ جرادٍ أخذَ يلتهمني من أسفل قدمي حتى النخاع الشوكي!
فجأةً، وبحركة لا إرادية استللتُ سيجارة من حقيبتي الصغيرة، ونظرتُ حولي، مخافةَ أن يراني أحدٌ وأنا أدخّن في اليوم الأول من رمضان! لكن، تذكرتُ عدم وجود أي كائن، حتى القطط؛ فلم أخشَ العيب أو الحرام كما يُقال، وبدأتُ أنفث الدخان وعنقي إلى الأعلى، وكأنني أصنعُ غيمةً صغيرة فوقي تظللني من رمضاء المكان وهذا اليوم القائظ!
أخذتُ أعدّ الأبواب المغلقة في الشارع، والشبابيك، والشرفات الواطئة، وأنا أجلسُ على عتبة الدار، خارجاً، مثل متسولٍ ينتظر من يجيب على استجدائه!
“الجسر المعلق في دير الزور قبل قصفه من قبل قوات النظام السوري” – أنترنت
- من بعيد ظهر شخصٌ نحيل، بعد أن أفرغتُ نصفَ علبة السجائر، وأنا أحاولُ عبثاً أن أصنعَ غيمة، أو أعلنَ عبر تصاعد الدخان لأناسٍ في مكانٍ ما كما في الأفلام “أنني هنا.. النجدة“!
جعلَ يقترب نحوي، رويداً رويداً، وأنا أحملقُ فيه كما الملدوغ، لا أصدّق أن أحداً بقي في الحي، وخاصةً من الشباب؛ فقوات “الأسد” العسكرية (الفرقة 17) والحرس الجمهوري وأجهزته الأمنية اقتحموا الحي قبل أسبوع، وحاصروه من ثلاث جهات، ولم تبقَ سوى جهة واحدة يسيطر عليها منشقون عن الجيش ومدنيون حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم، وهي التي جئتُ عبرها، عن طريق دراجة نارية لشخص عابر أقلني بعد أن أوصلتني الحافلة إلى دير الزور.
كان ذاك الشاب يحملُ كيساً في كفّه، وظننته في لحظة أنه تابع لجهاز أمني أو مستطلع من قوات النظام.. فتواريتُ وراء حافة إسمنتية إلى جانب بيت جدي، وأخذتُ أنظرُ إليه خلسةً!
وصل الشاب إلى زاوية الشارع، ووقفَ متأمّلاً الأسطحة، وما هي أقل من دقيقة حتى ظهرتُ في وجهه، ففزعَ سائلاً، باستنكار ..” من أنت؟”
أجبتهُ بسؤاله أيضاً.. ” أنتَ من؟”
قال وهو يخفي الكيس وراء ظهره” أنا محمد، الملقب بأبو السيد من شارع الوادي..”
قلتُ له بعد أن أربتُّ على كتفه”هل تعرف بيت أبي المختار؟.. هو بيت جدّي، وبيتنا في الشارع الآخر، عند طريق معمل البلاط.”
احتضنني فجأةً، وكأنه وجدَ ضالته، وأخذ يجهش، باكياً، وهو يردّد ” أنتَ الشاعر ، الذي تسكن في الشام، أليس كذلك؟ لقد قُتل الكثير هنا، وفرَّ أغلب الناس إلى القرى، ومنهم تم اعتقالهم، ومن بينهم إخوتي وأولاد أعمامي..”
واسيته، بكلمات مقتضبة، وأردفتُ” لا عليك، لقد خسر الجميع، وسوف نخسر أكثر، ونحن الآن في المهبِّ وعلينا الوقوف جميعنا كي يتسنّى لنا اجتثاث هذا النظام القاتل.”
سألته حول كل شيء؛ – عن تمركز قوات النظام وأخبار الأهالي، ومصائر بعض الشباب الذين أعرفهم.. فأجاب بسرعة أن علينا الذهاب إلى صديق موظف في فرع لشركة المياه قريب من “فندق فرات الشام”، بعد معسكر الطلائع في بداية حي الجورة والذي يعتبر خزاناً عسكرياً لقوات النظام!
حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً، سرتُ معه ببطء وأخذنا نتطرق إلى أحاديث كثيرة، ترافقها أصوات القذائف وأزيز الرصاص، وصدى قليل لانفجارات بعيدة؛ ومن الأحاديث طريقة دخول الجيش وقوات الأمن، والتصفيات الجسدية والاعتقالات، وهروب الأهالي، ومنهم بيت جدي وأهلي وأقاربي إلى الأرياف.
جعلتُ أقلّب في ذهني الذكريات وأنا أشاهد الأحياء والمنازل التي ألفتها في الصغر، حتى تبادر إلى خاطري أن أسأله حول طريقة عبورنا حاجز معسكر الطلائع.. فضحكَ، واستنهض همّتي الخائرة بأن قال” لا عليك، فأنا أجلب لهم علب السجائر كل حين، وقد عرفتُ أغلب الجنود المناوبين، وهم يسمحون لي بالعبور دون تفتيش أو تفييش (بحث إلكتروني عن أسماء المطلوبين)، وبهذا، أنا أخدعهم، وأوصل معلومات للضبّاط المنشقين والأهالي المسلحين كي يستطيعوا أخذ الحذر، ومن ثم القيام بعمليات وكمائن لهؤلاء الخنازير.”
لم أستطع تصديقه كثيراً، فالريبة كانت تفترسني، وغير ذلك، هو شخص لم ألتقِ به إلا منذ ساعة تقريباً، ولا أعرف عنه شيئاً سوى أنه يعرف أخوالي وأعمامي وبعض الأصدقاء، وإضافةً إلى ذلك، قد سمعَ بي، وعرف أنني أقطنُ في الشام.
جلستُ على رصيفٍ واطئ، قبل معسكر الطلائع بمئتي متر تقريباً، وأشعلتُ سيجارة، دون أن أستأذنه، وأنا أرمي بنظري نحو دبابة عند أول الحاجز، ترفع “سبطانتها” تجاه منازل المدنيين، وكأنها تنذر باقتراب موعد الإفطار، كل لحظة، قبل الغروب، كي تطلقَ القذيفة الأولى، ويبدأ الموتى والأحياء بتناول إفطارهم بعد صيام أربعين عاماً من القهر والذل والاستبداد!
-سألني متعجّباً.. “هل أنتَ لا تصوم؟“
ضحكتُ وأجبته وأنا أبتلعُ غيمةً صغيرة من الدخان أخزّنها في رئتيّ المرهقتين” ولماذا أصوم.. كي أموتَ كالكلب، جائعاً بعد أن يصوّرني قناصٌ ما في أحد الأحياء؟”
لم يعلّق على كلامي، لكنّه بسطَ ذراعه أمامه مشيراً إلى الحاجز، وكأنه “هتلر” ينوي إلقاء محاضرة حول خداع اليهود والصهاينة ومؤامراتهم التاريخية؛ فاستبقتُ قوله ناهضاً، ووضعتُ كفّي على رأسه ووجّهتُ إليه سؤالاً خاطفاً “ماذا يوجد في هذا الكيس الذي تحمله؟”
تعرّقَ، وأنزل كفّي، وأجاب بعد أن قال لي أعطني سيجارة ” هذا صاروخ مصنّع محلياً، يعمل أيضاً كاللغم، وله صاعق.. و.. و..” أخذ يشرح، إلى أن أسكتّه بصوتٍ عالٍ، مؤنّباً إياه “هل أنتَ مجنون؟.. تريد أن تورطنا، أو تقتلنا على الحاجز!”
لم يكن باستطاعتي فعل شيء، فأنا أريد الذهاب إلى ذاك الصديق الذي أعرفه عند مركز المياه، ومن ناحية أخرى، الآن أنا في ورطة، وهو أيضاً، إذ لم يبلغ هذا “السيد” سوى ثمانية عشر عاماً تقريباً، أي إنه قد خرج للتو من دنيا المراهقة!
قلتُ له بغضب” ارمِ هذا الشيء، ارمه هنا بين “العاكَول” (شوك بري). فلم يرضَ، ونطقَ بكلماتٍ زادت من قلقي وارتباكي ” انظر.. سوف أمشي أمامك بعشرين متراً، وتتبعني، وحين أعبر الحاجز أقول للجنود إنك من معارفي، وبهذا، تعبر بدوركَ أنتَ، ونمضي إلى مركز ضخ المياه..”
الشارع الرئيسي فارغ، الذي يفضي إلى مركز المياه، إلى جانبه حي” الطَبْ” ذي البيوت الطينية القديمة، والمنازل المخالفة (العشوائية).. هناك، وأثناء وقوفي، فكّرتُ قليلاً، إذا ما تم كشف أمره، هل سيطلقون عليه النار، وأنا أكون التالي؟!
كان يمشي أمامي، وليس لديه الرغبة بالالتفات خلفه، وهو يغنّي، وأنا أتباطأ بالسير، متقصداً، حتى ابتعد عني مسافة لا بأس بها؛ فأخرجتُ “هاتفي الجوال” من جيب بنطالي، وأغلقته بعد أن نزعتُ بطاريته وخبّأتها تحت حجر كبير عند الرصيف، ومضيتُ خلفه إلى المجهول…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع..