#########

الضحايا

برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة


لم أخرج من هول الموقف، إلا حين أتت صرخات أمي تخرق جدار الألم، تسألهم عن مصيري وتستجديهم إبقائي... فيقع صراخها في قلبي فقط.

20 / آب / أغسطس / 2018


برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة

 

*فادي مطر – مع العدالة

 

مدينة دون مآذن وآلهة، أن تتكلم على أحد الأماكن الخارجة عن سلطة الرحمة الإلهية والإنسانية، لهو أمرٌ  يدعو للاستغراب؛ أن تكون في مكان  ويأتي ذلك بالإكراه،  وتعجز عن  تحريك أي ساكن، بما يخص أمرك المحتوم والإنقياد لمقصلة التعذيب الفكري والجسدي، ونحن نتربع من السنين على القرن الواحد والعشرين، هو لشيء مخزٍ،  لكل ما يدعو لحفظ كرامة الإنسان وحقوقه بالعيش على أبسطها، منها البقاء على قيد الحياة.

 

 ــ هل هناك مدينة خارجة عن سلطان القوانين السماوية والدنيوية على وجه المعمورة!؟

نعم يوجد هناك في سورية مدن خارجة عن تلك القوانين، يتواجد فيها المئات من الأفرع الأمنية والتي تنطوي تحت سلطة التوحش الإنساني، مدفوعة هذه الوحشية لسبب الأخذ بالسلطة المطلقة، والمعروفة من قبل ممارسيها بعدم العودة لأي مساءلة إن كانت قانونية أو وجدانية،  والسير فيها إلى آخر وسائلها، وإنهاء حياة كائن بشري لمجرد اختلافه الفكري عما يراه الجلاد، بغير المناسب له ولتفكيره التبعي، لمن وظفوه في هذا المكان اللا إنساني.. ويقوم بعمله بكامل إجرامه دون أدنى تفكير بكل ماتحتويه ضحيته من مشاعر يكنها لأشخاص يعز عليهم فقده، من أبنائه أو أسرته ..إلخ؛  لهيَ أعظم شفقة عليه في هذا الأمر ممن قضو تحت سياطه ولقائه بمصير شبه محتوم الموت تحت التعذيب، أو الحياة تحت الجوع  لأعوام، والتحول من الحالة البشرية للحالة الحيوانية..

 

في سورية، تكثر وسائل وأسباب الموت، وهذه المدن التي أنا بصددها الآن، ماهي إلا أحد ألوانه كسائر المدن الثائرة التي تجرعت الموت إن كان بقصف البراميل المتفجرة والصورايخ التي استخدمها النظام السوري أو كانت سكاكين داعش أو ماشابههما من إرهاب وترهيب. فالأمر غير مختلف بالنسبة للموت طالما هنالك إنسان سوري طالبَ في يوم من الأيام بأخذ حق الحرية.. تعدّ أرقام المعتقلين الذين انقادو الى هذه المدن التي لاتتعدى مساحتها مجتمعة ملعب لكرة القدم، وتحمل في أعماقها تعداد سكاني أكبر مما باستطاعتها استيعابه، ليصل الأمر أن يقضي المعتقل جُل وقته يقف على ساق واحدة، وليس هذا الأمر لقوته البدنية، بل على عكس ذلك، فهو به من الوهن ما يضيق عليه حمل نفسه، لكن الأمر يجبره عليه ازدحام المكان بعالمه، هذا الذي يكتظ بالأرقام (الإنسان داخل المعتقل هو عبارة عن رقم يبقى كذلك، حتى يغدو رقماً في سجل الوفيات، أو رقماً في سجل الولادت الجديدة، فالخارج من جحيم المعتقل تعد ولادة وإن كان ذلك نادر الحصول ).

 

 أن يكون الإنسان هنا، فهو على مواعيد لحظية بشتى أنواع القهر المستدام، أبسطها الجوع والعطش.. يتوسطها التعذيب الجسدي، وأصعبها التفكير بما هو خارج عن إرادته، والذي هو التفكير بمصيره المجهول.  تنساق جحافل المعتقلين كالماشية لمسالخ التعذيب البشري، تنزع أسماؤهم  لمجرد الدخول لهذا النفق المظلم، الذي لا يعرفون مدة الإقامة فيه، وليتبعه فيما بعد نزع أظافرهم، أو لربما جلودهم ويدرج سلم التعذيب البياني حسب التقرير الأمني للضحية؛ كل ذلك قد عايشته مع رفاقي الذين جمعتنا قضية محقة لكل شعوب الأرض، والتي هي الحرية والعيش بحياة كريمة ترتقي للحياة البشرية في هذا القرن، بما يحمل من تتطور صناعي وتكنولوجي، لينتهي بنا الأمر بأن نجتمع بسلسلة حديدية تلتف حول أحلامنا قبل أجسادنا، تدخلنا عالم الظلام الذي ينتهي على أبواب هذا العالم الجديد؛ كل ما يبعث النور في أعماقنا وحواسنا، حتى نور الرحمة الإلهية، يعجز عن اقتحام هذه الأماكن، لقبحها..  ولهذا أسميتها مدناً دون مآذن وآلهة، في هذه السلسلة التوثيقية عن مراحل اعتقالي، سأقص ما لامسته من ظلم الإنسان للإنسان، مستذكراً  أسماء بعض ممن امتهنوا الموت والغرائز الحيوانية في الافتراس، لربما تطالهم يد العدالة والقانون في يوم من الأيام.. ولنهدم تلك المدن التي تروّض الإنسان تحت جناح الإجرام، ويعم مكانها السلامُ والحريّة.

 

***

سأعودُ بكم إلى ما قبل هذه الحلقة المدماة من سلسلة السوري في بلاد الموت، واضعاً أمامكم بعض إشارات المرور، لطريق المعتقل التي أودت بي، وأنا لست سوى عصفورٍ غنَّى مع سرب الشعب بأنغام الحرية، كغالبية السوريين المغلوب على أمرهم، والتي تقوم نظم الحياة تحت ظل البعث السوري متكاتفة مع القدر، بوضع الخط البياني للمواطن (إمَّا الرضوخ والاستسلام لواقع الجوع والتهميش، أو العمالة والعمل تحت جناح، بل أجنحة المخابرات، والانخراط في الجيش، وإما الهجرة للعمل خارج الوطن).

ولهذه الأسباب، مضيتُ وراء خطوات الأكثرية بالهجرة، وكان  موضعي  منها  في القطر اللبناني، أتتبع عملي، متحملاً  تركةَ الكرهِ الذي أودعه النظام السوري في قلوب الشعب اللبناني تجاه السوريين؛ ولا يلام هذا الشعب، مقارنةً  بما  خلفه  هذا الجيش  (العقائدي)   من  دمار  أبدي  داخل أنفس  اللبنانيين؛ محاولاً  توضيح الأمر  لمن ألتقي به:  “بأن  الشعب السوري   ليس بأفضل  حال منهم، ولهم  ماهم عليه  من ظلم  يتقاسمه كتقاسم حدود البلدين”.

 

مرّت خمس سنوات، أتساءك مثل كل السوريين الذين  اضطروا للهجرة: لِمَ نحن هنا ولسنا في وطننا؟ أليست سورية أغنى بمواردها من لبنان؟ هذا البلد الصغير الذي لا يملك إلا أموال مهاجريه وسياحة موسمية؟ ربما هامش الحرية الذي يحظى به المرء هنا هو السبب.. في هذا المنفى الطوعي تحت إلحاح الحاجة للقمة العيش، يتساوى السوريون! فلا العلم ولا الشهادات تنفعك، لا نسبك ولا وضعك الاجتماعي، هنا ترى المهندس يعمل في غسيل السيارات، إلى جانب المزارع أو عامل البناء، لا فرق بينهم سوى القوة البدنية وتحمل مشقات العمل، ولهذا، ينبض في يقيني أنه لن يبقى هذا الحال على ما هو عليه في آتي السنين، وازداد هذا اليقين يقيناً بعدما أضرم البوعزيزي بنفسه النار، نار ثورات الجياع (الجوع إلى الحرية والكرامة والعدالة وليس جوع الطعام). كان هذا الأمر الصادم في 17 كانون الأول عام 2010، حينها قلت لرفاقي: إن الأمر سيصل إلينا سريعاً، وسيمتدُّ، ولن يبقى حكراً على تونس. وبالفعل، ما هي إلا فترة وجيزة حتى انتفضت مصر وتبعتها ليبيا، وأنا أرقب موج الربيع متى يصل شواطئنا الحزينة… وها هو الخامس عشر من آذار من العام ألفين وأحد عشر، يزهر أول براعمه في ربيع سورية، ومن درعا أزهرت كل المناطق السورية وكانت مدينتي إحداها.. وكيف لا تكون سبّاقة في الأمر، وهي التي قدمت مئات المعتقلين فيما مضى، حينما كان الأسد الأب يحكم قبضته الأمنية على رقبة هذا البلد المكلوم، وكسائر مدن سورية، وتزيدهم في الأمر قبضة الفقر التي تطبق على خناقها، والمدروسة من قبل هذا النظام، أخذت المظاهرات تتابع في السلمية، المحرجة لدعاية النظام المجرم بأنه “حامي الأقليات”، فهذه المدينة التي تنتمي بحكم المولد للمذهب الإسماعيلي، الأقلوي، انحازت وانتمت بالكامل كعهدها دوماً لسورية الأكثرية الثائرة، سورية المظاهرات السلمية التي هتفت بصوت واحد: الشعب يريد الحرية!  فعرَّت قبح النظام من آخر ورقة توت يستر بها قبحه، كالطفل إذا اشرأبَّ من الظلام إلى الولادة، أخذت حناجرنا تنشد ألوان الحرية بأهازيجنا القروية العفوية؛ حلم رافق الكبار والصغار، يولد الآن حقيقة في  شوارع المدينة، لا شيء سوى الهتاف لسورية، دافعين بالورود في وجوه عناصر الأمن، لربما يفهموا ما نحن بصدده، وأن هذا الوطن للجميع، ولسنا مخربين كما يروج راس النظام.

 

في بادئ الأمر، لم يستخدم العنف ضد المتظاهرين، وكان الأمر أشبه بعرس وطني، رافعين أعلامنا ولافتات تطالب بالإصلاح للبنية الحاكمة، مطالبين بأبسط أهداف الحياة: الحرية… والتي طالما تغنى بها حزب البعث لعقود. لكن ربما…تلك الحرية غير التي نقصدها! لم يبقَ الأمر على هذه الحال مدة طويلة،وبدأ النظام يشعر بالحرج، لما وصل إليه، وأخذ بترويج أكاذيبه عن الإرهابيين والمخربين والمندسين، ليأخذ لنفسه شرعية الاعتقال وإخماد شعلة الثورة السلمية، وكما عَمِلَ في جميع المدن الثائرة، مما أدى بطليعة الحراك المدني للتواري عن أنظاره، وأخذت أسماء المعتقلين بالازدياد يوماً بعد يوم، حتى وصل ذاك اليوم لأنضم لرفاقي، وأغدو رقماً أحمل عبئه في قائمة المخربين كما أسمونا، كان ذلك في 27 من آب عام2013، وكان يوماً كغيره قبل أن يداهم منزلي مجموعة من (الشبيحة)، أي الدفاع الوطني كما يسمون أنفسهم، لم يتوارد إلى عقلي في يوم من الأيام أن أكون كما أنا  الآن: دخلوا   بهمجيتهم  المدروسة مسبقاً،  مشرعين أسلحتهم  بوجه  كل  الموجودين  في  تلك  اللحظة … اقتادوني إلى الخارج، كانت  سياراتهم  تنتظرهم، وكنت بسكرة حلم،  لا أعرف ما يحدث سوى أنني أراقب العلم السوري يتراقص فوق آلياتهم، وكأنه يعلن نصراً لا أعرفه (أليس هذا العلم الذي يجب عليَّ أن أفتخر به!!؟؟).. لم أخرج من هول الموقف، إلا حين أتت صرخات أمي تخرق جدار الألم، تسألهم عن مصيري وتستجديهم إبقائي… فيقع صراخها في قلبي فقط.

.

.

الجزء الثاني