عاد رئيس مهجعنا ووجهه المدمَّى، يخبر عن فظاعة ما ستحكي شفتاه، كانت جملته الأُولى، أشبه بإعلان حربٍ في زمن المجاعة، "الآن بدأ السجن،" قالها وتعابيره تشي بمقدار اليأس الذي يعتصر روحه
23 / آذار / مارس / 2020
*مع العدالة | محمد برو
في نهاية العام “1985”، وفي يومٍ مكفهرٍ أسود، سرت حركةٌ عنيفةٌ في أرجاء السجن، وكان الجلًادون يتراكضون مجتمعين، ثم ما يلبثوا أن يقدموا التحية العسكرية لضابط جديد، كان من الواضح أن حدثاً سيئاً يحدث في هذه الساعة وسيكون له أسوأ الأثر على جميع السجناء في سجن تدمر.
بعد ساعاتٍ قليلةٍ، تم استدعاء جميع رؤساء المهاجع، وتم جلدهم مجتمعين في السّاحة الأولى، وبشكلٍ شديد الوحشية، وتُركوا متمددين ووجوههم ملتصقةٌ بالأرض، بينما تقدم منهم ضابطٌ جديدٌ، عرَّف عن نفسه، بأنه الرئيس الجديد للسجن، وأن ما كنا ننعم به من معاملةٍ رخوةٍ (على حدِّ تعبيره)، في زمن سلفه “فيصل غانم”، قد ولّى إلى غير رجعة، وأننا بدءً من الساعة، سنعرف على وجه الحقيقة، ما يعنيه معتقل تدمر الصحراوي، وما يعنيه الحكم مع الأشغال الشاقَّة.
عاد رئيس مهجعنا ووجهه المدمَّى، يخبر عن فظاعة ما ستحكي شفتاه، كانت جملته الأُولى، أشبه بإعلان حربٍ في زمن المجاعة، “الآن بدأ السجن،” قالها وتعابيره تشي بمقدار اليأس الذي يعتصر روحه.
بعد أن تم تجميع رؤساء المهاجع وجلدهم، على مرأى من الضابط الجديد، الذي سيملئ السجن تعذيباً مروعاً ورعباً، انبرى متحدثاً إليهم كإله يأمر عبيده، موضحا أن “ما كنتم به من بحبوحةٍ في الأمر قد مضى إلى غير رجعة، وأنَّ أيَّة مخالفة للأوامر، لن تعني بعد السَّاعة إلّا جلدا حتى الموت، وأنَّ بدعة المسؤول الصحّي الدورية قد تم الغاؤها، فلا تطلبون دواءً أو طبيباً إلّا إذا شارف المريض على الهلاك، والأفضل أن يموت بينكم، فتخرجوه للساحة مع وجبة الإفطار.”
كان أبو عمر رئيس مهجعنا رجلاً صلباً. وقد أكمل حديثه ونقله للرسالة الدموية، بينما كانت قلوبنا تغوص أسفل بطوننا، التي حملها من لقاء المجرم الذي سنعرف اسمه فيما بعد. كان غازي الجهني ضابطا برتبة عميد، من قرية “المخرم” شرق مدينة “حمص” أُوكل له أمر سجن تدمر، إثر محاولة بعض أفراد تنظيم “الطليعة المقاتلة”، الفرار من أحد أفرع الأمن في مدينة “دمشق”، وكانت أوامر القيادة تقضي بممارسة اقصى درجات الإرهاب والتعذيب.
بتنا تلك الليلة، بين الحلم واليقظة، كانت أحلامنا محض كوابيس متعاقبة، فما أن نصحو فزعين من كابوس، حتى يتعاورنا كابوسٌ أدهى، وكانت صيحات الحرّاس لا تتوقف طوال الليل، لقد كان رئيس السجن يتفقد كلَّ محرسٍ بشكلٍ فردي، ويدقق على جاهزية الأسلحة، ونظافة البنادق والرشاشات، ويقظة الحرّاس، وكنا نسمع الإجراءات العسكرية في سير دوريات التفقد الليلية على المحارس( انتبه، توقف، كلمة السر، تقدم) وكنا نسمع من كلمات السرِّ عبارات تثير الدهشة والاشمئزاز، ولا غرابة فهذا منسجمٌ مع وضاعتهم وقذارة مهمَّتهم،( فقد كانت بعض كلمات السرِّ عبارة عن شتائم وعبارات سوقية مثل( عرصا، ابن قحة، أخو شرمو!!!) وهكذا دواليك.
في صبيحة اليوم التالي، كانت الدواليب تملأ الساحات، وكان الجلادون متسلِّحين بكل أدوات التعذيب، وكانت جولات التَّعذيب هذه ضرباً جديداً، من ضروب الفتك بجلود السجناء، وقد كانت الأوامر، أن يستمر الجلد حتى تتشقق جلود الأقدام، أو تتفصَّد الظهور عن دمٍ غزير، واستمر التعذيب في السَّاحات، من الثامنة صباحاً حتى العاشرة ليلاً، لم يقطعه إلّا إجراء التفقد، منتصف النهار، كان يوماً جهنمياً فرَّ من جحيم “دانتي أليغييري”، ليحلَّ ضيفاً ثقيلاً على سجناء تدمر، عدنا من التنفس في هذا اليوم، بين جريحٍ مدمّى، وآخر قد كُّسِّرت أضلاعه، أو فُقئت عينه، وكان العرج شأن معظمنا، لكثرة ما نالنا من ضربٍ عشوائيٍّ على الأقدام والركب.
لا أحسبني أستطيع ترجمة شعورنا في ذلك اليوم، إلى كلماتٍ وافية، فقد كانت مخيلتنا تتأرجح بين حدَّين، يمكن أن ينتقل السجين بينهما، إما إلى موتٍ مريح عبر الإعدام شنقاً، أو تحت وطأة التعذيب، أو بمرضٍ عضال، أو إلى فَرَجٍ مشتهى ومستحيل، تخجل أحلامنا من المرور به، أمّا أن يكون هناك ما هو أسوأ، فهذا لم يكن ليخطر ببالنا، رغم تراكم خبراتنا وتجاربنا مع هذا النظام لسنوات طوال.
ورغم أن سلفه كان مرعبا بحدّ ذاته، وكان مجرّد ذكر اسمه يثير لدى المعتقلين هولا قاتلا، جاء غازي الجهني ليفوق سلفه. فاليوم وفي عهد “غازي الجهني” هنالك ما هو شرٌ ألف مرة من الموت، كانت حزمة التعذيب الفردية تتراوح بين خمسين ومئتي جلدة في المتوسط، وحسب مزاج الجلاد، اليوم أصبح الحدُّ الأدنى خمسمئة جلدة، وقلَّما ينجو أحدنا من تسلُّخ باطن قدمه، أو تساقط بعض أظافره، أو كسر في قفصه الصدري.
كان التعذيب الجهنمي هذا يهدف إلى خلق صورةٍ إلهيةٍ، “لحافظ الأسد” في نفوسنا، ونفوس من تصله أخبارنا، هي أقرب إلى صورة الإله الغاضب المنتقم، الذي لا يغفر أن يشرك به، وكان خضوع الجلّادين لأوامر أسيادهم، أقرب إلى خضوع العبيد لربهم الأعلى، وهذا ما حصل بالفعل، فقد استطاع “حافظ الأسد”، أن يحكم سورية بسوط الرعب والخوف، حتى بعد موته، بالرغم من هشاشة وضعف شخصية الأسد الابن، وكنا نرى أن الأسد الأب قد مهَّد الطريق لوريثه، عبر هذا القدر المفرط من القمع، فلو مشى حافياً كيلومترات، لن يصطدم بحصاةٍ واحدة.