كانوا يضربون ولدها الذي رافقها ويغتصبونه بعصا خشبية أمام عينيها لتصرخ وتقول "أعترف بكل ما تريدون لكن لا تؤذوا ولدي" لم يشفع لها أنها أم لشاب توفي أثناء خدمته لهذا النظام حين كانت تحدثهم عن سبب توجههم لدمشق، تركت ولدها الذي قضى تحت التعذيب داخل الفرع ونُقلت إلى السجن..
03 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
الجزء الرابع
*ياسمينا البنشي
في الخامس عشر من شهر ديسمبر عام 2013 وصلنا إلى سجن دمشق المركزي المعروف بـ ” سجن عدرا”، وكالعادة بدأ التفتيش الشخصي وتسجيل الأمانات. انتظرنا أكثر من ساعتين، حيث كنا نتوق لرؤية صديقاتنا اللواتي وصلن قبلنا.
فُتح باب الجناح الخامس (إيداع قسم الإرهاب)، وتجمعت الصبايا المعتقلات على أبواب المهاجع الستة لرؤية من تحولن مؤخراً من الأفرع. كنت أول الوافدات الجدد، وكانت همسات المعتقلات المترقبات لي “يا حرام… معقول هي معتقلة! والله شكلها ما بتتحمل تنسجن” فأرد مازحةً مذهولة من أعدادهنّ الكبيرة “وأنا أقول وين اختفت النساء من البلد؟ … تاريكن كلكن هون” وهنا شعرت بأني دخلت قلوب الكثيرات منهن.
جاء فرزي العشوائي في مهجع مسؤولة الجناح اللبنانية الشيعية علياء قانصو التي كانت طالبة في كلية الآداب بجامعة دمشق، وتهمتها الانتماء لتنظيم القاعدة، وهي من أقدم معتقلات سجن عدرا، وأوّل معتقلة من جنسية غير سورية خلال فترة الثورة، إضافة إلى أنها كانت موقوفة لصالح محكمة الميدان العسكرية، لكنها خرجت ضمن صفقة تبادل الضباط الإيرانيين في الشهر العاشر من العام 2013.
كان المهجع في سجن عدرا أكبر حجماً من مهاجع الأفرع الأمنية، إنّما عدد النساء المعتقلات في هذا العام تحديداً بدأ يزداد كثيراً، أما ظروف الاعتقال في السجن المدني فقد كانت غريبةً بالنسبة لنا مقارنةً بظرف الاعتقال في الأفرع الأمنية، فعند التاسعة صباحاً تُفتح أبواب المهاجع لبدء فترة التنفس الأولى والخروج إلى الساحة الصغيرة بعد أن يتمّ توزيع الخبز من قبل أحد المساعدين… (أبو تيمور أو أبو نغم)، ليعود بعد حوالي ساعة وينادي بصوت عال على أسماء بعض النساء المعتقلات، ويطلب منهنّ الاستعداد للنزول إلى المحكمة.
قبل تمام الساعة الثالثة، أي قبل التأمين الأول تعود المعتقلات من المحكمة، بعضهن مع زغاريد الفرح بإخلاء سبيل أو مع دموع الحزن والقهر بتوقيفٍ جائر من قبل قاضي محكمة الارهاب، وهذا يعني أن فترة الاعتقال ستطول وسيتم نقلهنّ إلى جناح الموقوفات.
في المهجع ذاته كانت هنالك معتقلة من مدينة الحسكة تدعى كفاء الأحمد، وهي موقوفة لصالح محكمة الميدان العسكرية بتهمة غريبة: (تشكيل عصابة أشرار)! لم أكن قد سمعت بهذه العبارة سوى في أحد برامج الكرتون. بقيت كفاء سجينةً دون محاكمة إلى أن تم عرضها على القضاء بعد أكثر من ثلاث سنوات من الاعتقال، وكانت المحكمة التي مثلت أمامها برئاسة القاضي العسكري “محمد كنجو، ثم خرجت هذه الشابة في إحدى المصالحات بيوم 17/1/2016.
أما المعتقلة الثانية من جنسية غير سورية والتي أقامت أيضاً في مهجعنا هي السيدة فاطمة الألوسي من العراق، وهي من سكان حي المزة في دمشق، وكانت تهمتها (النيل من هيبة الدولة) بسبب نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي لبعض الانتهاكات التي قام بها عناصر النظام السوري، ولكن فترة اعتقالها لم تطل كونها زوجة دبلوماسي عراقي سابق، وهي من أقرباء عائلة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كما تحدثت لي.
نورا وآيات طوقاني شابتان من مدينة حمص اعتقلتا في الشهر العاشر من عام 2012 بتهمة تشكيل كتيبة عسكرية، وأجبرتا على الظهور في قناة الدنيا الموالية للنظام السوري، للاعتراف بأنهما كانتا تقودان كتيبة عسكرية تقوم بأعمال إرهابية، علماً أن آيات لم تكن قد أكملت عامها السابع عشر.
كانت نورا زوجة شهيد تمت تصفيته من قبل عناصر النظام السوري (أثناء مروره على أحد حواجز مدينة حمص) وابنة شهيدة ووالدة طفلة شهيدة. استشهدتا في قصف على إحدى حواري بابا عمرو حيث كانت تقيم فيها نورا مع أهلها بعد وفاة زوجها. كانت الشقيقتان موقوفتين لصالح محكمة الميدان العسكرية لكنهما خرجتا في العام 2016 بعد مبادلة بين فصائل المعارضة والنظام لتُعتقل مرة أخرى بعد ثلاثة أشهر أثناء توجهها من حمص إلى دمشق لزيارة شقيقتها المقيمة هناك.
أولى المعتقلات اللواتي تعرفت عليهن عن قرب من خارج المجموعة التي رافقتني إلى السجن هي رويدة كنعان من وادي بردى، حيث كان اعتقالها الثالث على خلفية نشاطها السياسي والإنساني في دمشق والغوطة المحاصرة. كنا في مهجعين مختلفين، لكننا قضينا الوقت سويةً في سماع قصص باقي المعتقلات، وتوثيق الانتهاكات الحاصلة عليهن في الأفرع الأمنية. نفترق بعد التأمين الثاني المسائي عندما يأتي أحد المساعدين برفقة الملازم محمد الحسين أو الملازم سامر الرفاعي (من ريف حلب) لأخذ التفقد اليومي، أما المقدم محمد بكر (من يبرود في ريف دمشق) فقد كنّا نراه بشكل أقل لأنه كان مختصّاً في العقوبات. مدير السجن في ذلك الوقت فيصل العقلة (من دير الزور) لم نكن نصادفه إلا في المناسبات، وأحياناً في أوقات الزيارات.
ثمّةَ يوم خاص في الشهر تزور فيه المعتقلات النساءُ أقرباءَهنّ من الدرجة الأولى من المعتقلين الرجال في سجن عدرا. حيث تؤخذ طلبات تقديم الزيارة طوال الشهر، وتعطي إدارة السجنين الموافقة بقبول الزيارة أو رفضها. الزيارة ذاتها لسجن عدرا للرجال تكون شهرية أيضاً، ولكن من أجل الطبابة حيث تؤخذ دورياً صاحبات الأمراض المزمنة إلى المركز الطبي الموجود هناك لتحصلن على حبة دواء أو جرعة مسكن ألم.
يوميّاً كنت أرى في الممشى سيدةً مسنة في نهاية العقد السادس من عمرها، إنّها الحاجة التي لا تكاد ترى بعينيها “حميدة من مدينة حلب“. اعتقلت وولدها على أحد الحواجز بعد تلقيهم خبر وفاة ابنها الأصغر في إحدى المناطق العسكرية الذي كان يؤدي خدمته الإلزامية ضمنها، كان الاعتقال لصالح الأمن العسكري ثم تم تحويلهما مباشرة إلى الفرع 215 والتهمة هي حيازة الحاجّة للرصاص بعد أن رفضت تفتيش حقيبتها التي لم يكن بداخلها سوى بعض النقود والصور التي خشيت مصادرتها من قبل العناصر.
تحدثت عن آلية التحقيق معها في الفرع حين كانوا يضربون ولدها الذي رافقها ويغتصبونه بعصا خشبية أمام عينيها لتصرخ وتقول “أعترف بكل ما تريدون لكن لا تؤذوا ولدي” لم يشفع لها أنها أم لشاب توفي أثناء خدمته لهذا النظام حين كانت تحدثهم عن سبب توجههم لدمشق، تركت ولدها الذي قضى تحت التعذيب داخل الفرع ونُقلت إلى السجن ليطلق سراحها بعد أشهر من وصول وثيقة لقاضي محكمة الإرهاب تؤكد أن ولدها مات أثناء خدمته الإلزامية في ذات اليوم التي اعتقلت فيه.
من الشخصيات الغريبة التي قابلتها داخل السجن هي الشابة علا حميدي الملقبة أبو (جانتي) بسبب قصة شعرها الغريبة ولباسها الشبابي حيث أنها كانت معتقلة بتهمة مساعدة بعض الشبان بالهروب إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وتحديداً إلى درعا. تعرضت علا للتعذيب داخل فرع الأمن العسكري هناك، وفي بداية العام 2014 خرجت بعد قيام عائلتها بدفع مبلغ كبير لأحد العملاء في محكمة الإرهاب لإخلاء سبيها.
يوماً بعد يوم وأنا أُودّع معتقلة تلو الأخرى. أنتظر دوري للذهاب إلى المحكمة ليتم عرضي على القضاء، حتى جاء يوم العاشر من نوفمبر 2013، وكان اسمي مع صديقتي رويدة ضمن قائمة بأحد عشر اسماً سيمثلن أمام قضاة محكمة الإرهاب الخامسة، ارتدينا الزي الجزائي المخصص للسجن، وهو عبارة عن ثوب أزرق طويل مخصص للمعتقلات، وركبنا الحافلة ذات النوافذ المسيّجة وتوجهنا إلى محكمة الإرهاب في منطق المزة بدمشق. انتظرنا داخل غرفة صغيرة جداً في الطابق السفلي تحت الدرج، وبجوارنا غرفة كبيرة لمعتقلين مكبلين بسلاسل بأرجلهم وأيديهم، متورمة أجسادهم ومتفسّخة من التعذيب، كان السجان المسؤول عن غرف الانتظار يدخل إليهم كلّ خمسة عشرة دقيقة ليضربهم بالكابل وكأن التعذيب صار أمراً ملازماً لهم.
انتظرت ساعات وساعات إلى أن جاء دوري.
المزيد للكاتبة
⇓