طلب الاستئذان للدخول إلى الحمّام نهاراً كان بصعوبة التحقيق، حيث يجب علينا التحمّل حتى السابعة ليلاً بعد الانتهاء من تعذيب المعتقلين، وكي لا نتعرف على أحد منهم أثناء مرورنا بينهم.
27 / أيلول / سبتمبر / 2018
الجزء الأول
*ياسمينا البنشي
حوالي الساعة العاشرة ليلاً يوم الخامس من يوليو 2013 قرع باب منزلي في مدينة اللاذقية الذي كنت أقطنه وحيدةً بعد اعتقال شقيقي الأصغر. بعدها، داهم عناصر الأمن المنزل بشكل عشوائي، ومن ثم (دون أن يأخذوا حاسوبي)، تمّ اقتيادي بسيارة بيضاء إلى فرع الأمن العسكري في منطقة المشروع الثاني من المدينة؛ نعم لم أكن وقتها معصوبة العينين، وكنت أرى تماماً إلى أين وجهتنا.
نزلت مع ثلاثة من العناصر عدة درجات، إلى أن دخلتُ مبنى يشبه القبو، تفوح منه رائحة العفن والدماء؛ كانت الواجهة أشبه بساحة صغيرة تناثر على أطرافها العديد من المعتقلين، بعضهم كان معلقاً من يديه، وبعضم كان يركع على ركبتيه ووجهه باتجاه الحائط، قد ارتدى سترته برأسه كي لا يرى شيئاً. أثناء مرورنا، بدأ العناصر بضرب وركل المعتقلين في طريقنا إلى مكتب التحقيق، وكأنها حفلة استقبال لي مبطنة بالتهديد والوعيد.
بعد ساعات من التحقيق المضني، استطعت أن أقنع المحقق بأن لا علاقة لي بشيء، وأني لم أسمع قط بما نسب إليّ، وهنا أصبح بإمكاني العودة إلى منزلي، لكن الوقت تأخر كثيراً. طُلب مني البقاء في غرفة يوجد فيها ثلاث معتقلات نساء الى حين خروجي صباحاً؛ إحداهنّ كانت مستيقظة، حاولت أن أتبادل الحديث معها، وعن سبب وجودها في هذا الفرع. في تلك الأثناء تبادر إلى ذهني هاتفي المحمول، ومفتاح بيتي الذي مازال بحوزتهم. سألت تلك الشابة الصغيرة وأنا جاهلة بتلك الأمور (ما الذي يمكنهم فعله بجوالي ومفاتيح بيتي؟ هل يمكنهم أن يدخلوا بيتي الآن وأنا لست موجودة به؟) ردّت الشابة بنظرة لؤم (وهل لديك ما تخافين منه!!!). هنا بدا الارتباك واضحاً على ملامح وجهي، وأجبتها بصوت منخفض: لا .. لا ليس لديّ أيّ شيء.
ما هو إلا وقتٌ قصير لتضرب الشابة على الباب، وتطلب الاستئذان بالدخول إلى المرحاض. لم أكن أعلم أين يقع ذلك المرحاض، لكنني لم أتخيله بعيداً جداً، ليستغرق كل هذا الوقت الذي غابته الشابة.
بعد أقل من ساعة، استدعاني مدير مكتب العميد واسمه “فداء”، كنت أظن من أجل أن أتسلم أغراضي الخاصة وأعود إلى المنزل، لكني حين قابلته، طلب مني أن أذهب معه وعناصره إلى بيتي، هنا تأكدت أنّ الشابة قد وشت له بشيء ما.
بعد التفتيش قاموا بمصادرة “كاميرتي وحاسوبي الشخصي وبطاقات الذاكرة” التي كانت توثّق أغلب نشاطاتي، من فيديوهات وصور للمظاهرات، وتقارير إعلامية وتوثيق انتهاكات لجرائم النظام؛ إضافةً لعثورهم على محادثاتي الخاصة المحفوظة على برنامج السكايب مع الناشطين داخل وخارج سوريا. ثم بدأ تحقيق جديد في قضايا الإرهاب. كان المحقّق الجبلي النحيل (نشوان سلهب) يتفنن في صياغتها.
أثناء كل جلسة تحقيق، كنت أتعرض للشتم والقدح بأبشع الألفاظ والصفات، وكان التهديد بالاغتصاب هو بادئ كل استجواب. كنت أخاف تلك الكلمة أكثر من الاعتقال والتعذيب، بسبب حالات الانتهاك والاغتصاب التي سمعت عنها، ووثقت بعضها خلال فترة الثورة السورية.
بعد قرابة عشرة أيام من توقيفي داخل فرع الأمن العسكري بالمدينة، تمّ اصطحابي إلى منزلي مرة أخرى للتفتيش، لكن هذه المرة كانت من قبل المحقق، لم يكن هذه المرة التفتيش عنيفاً ولم يكن عدد العناصر كبيراً كالمرة السابقة. أخذني المحقق جانباً إلى غرفة الضيوف في منزلي، وهمس لي: (يبدو أن أوضاعك المادية جيدة جداً، فحال بيتك يقول ذلك). لم أكن أفهم في وقتها ما يعنيه بهذه العبارة.
كنت أستيقظ يومياً في هذا الفرع حوالي الساعة السابعة صباحاً على أصوات تعذيب المعتقلين، خاصة من يبدؤون به بالصاعق الكهربائي. كانت غرفتنا مواجهة تماماً للفسحة الكبيرة داخل المبنى، والتي يتناثر فيها الشبان الذين يذوقون فنون التعذيب أثناء التحقيق معهم. كنا نحن النساء في غرفة وكأنها كانت مكتباً قديماً لأحد الضباط أو العناصر، لا يوجد فيها سوى بضع بطانيات عسكرية، ملأها القمل، من أجل النوم عليها. كان باب غرفتنا خشبياً حيث استطعنا من خلال مسمار حديدي وجدناه في الحمام أن نحفر خرماً في الباب لنرى ما يحدث للمعتقلين.
طلب الاستئذان للدخول إلى الحمّام نهاراً كان بصعوبة التحقيق، حيث يجب علينا التحمّل حتى السابعة ليلاً بعد الانتهاء من تعذيب المعتقلين، وكي لا نتعرف على أحد منهم أثناء مرورنا بينهم.
ما كان يخفينا أكثر، هو خروج الجرذان من حفر الحمامات ليلاً، بعد إدخال الجميع إلى مهاجعهم وخروج المحققين. كانت تخرج بسبب رائحة النتانة والدماء، وكان يجب على إحدانا المناوبة، أن تسهر وراء الباب كي لا يتسلل إلينا من أسفله أي جرذ؛ يا لتعاسة هذه الجرذان، في ذاك الفرع الدموي، الذي كنا فيه ليل نهار نتضور جوعاً. كنت أبكي جرّاء معدتي الخاوية، فالطعام قليل، وإن وجد، فهو غالباً لا يؤكل، فالحشرات والصراصير تعيش بيننا.
كان الطابق الذي كنا نتواجد فيه مؤلفاً من مهجعين كبيرين للرجال، وغرفة احتجاز للنساء، وأربع منفردات وثلاثة مكاتب للتحقيق، وغرفة رئيس التحقيق (الشيعي من قرية الفوعة)، إضافة إلى ساحة التعذيب التي تتمركز في الوسط.
لم اُستدعَ بعدها إلى التحقيق أكثر من خمسين يوماً، (علماً أنّ الكثير من المعتقلات أخذن إلى أفرع دمشق أو تم إخلاء سبيلهن)، وأنا أستقبل و أودع كل يوم معتقلات يدخلن الفرع بتهم متعددة، منها ما له علاقة بأحداث الثورة السورية، ومنها تهم جرائم عامة.
طُلب مني إنهاء اعترافاتي والاستعداد للذهاب إلى دمشق؛ قام المحقق في ذلك اليوم بسرد عدة تهم، ولم أردّ على شيء منها. كنت أفكر في داخلي أنني سأخبر القاضي بأن كل ما تمّ ذكره كان تحت التهديد. قمت بالتوقيع على ثلاث عشرة ورقة وأنا معصوبة العينين، فقد كنت أعدّ بعقلي، وبعد أن انتهيت، قال لي المحقق بسخرية: (لماذا لم توفري على نفسك كل هذا التعب والمذلة وتدفعي النقود؟ ألم أحدثك جانباً أثناء تفتيش منزلك كي أسهل عليكِ الأمر؟ كان يكفي أن تدفعي 400 ألف ليرة لتخرجي من هذه المعمعة). هنا أصابني الذهول، وأدركت لما بقيت المدة الكاملة للتحقيق في الفرع وهي 60 يوماً. فقلت للمحقق أني لم أكن أفهم وقتها مقصده، وأنني مستعدة الآن للطلب من أقاربي تزويدي بالمبلغ ودفعه. فأجابني أني تأخرت وتحولت أوراقي إلى أحد الأفرع الأمنية في مدينة دمشق.
وهنا.. أدركت أني سأخوض رحلة عذاب جديدة لا أعلم ماذا ستخبئ لي.