تأتي تلك المجازر في ظل صمت دولي وعربي مخزيين بالمقارنة مع تحركهم في دول أخرى، كما حصل في مجزرة البوسنة والهرسك، حيث أدانت "المحكمة الجنائية الدولية من أجل يوغوسلافيا السابقة" "ملاديتش" قائد الأركان في جيش صرب البوسنة من 1992 إلى1996 بـ 10 من أصل 11 تهمة بارتكاب جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية.
14 / تشرين أول / أكتوبر / 2018
*محمد زياد الراشد
مرت على محافظة ديرالزور كل أنواع العذابات والقهر منذ بداية الثورة بسبب موقفها المعارض للأسد وتوقها لنيل حريّتها وكرامتها، ما جعل النظام يصب جام غضبه على شعبها بأبشع المجازر، كان أبرزها مجزرة الجورة والقصور والتي تعتبر ثالث أكبر مجزرة من حيث العدد يرتكبها النظام السوري بحق المدنيين العزل، وعشرات المجازر التي ارتكبها طيرانه وكذلك طيران حليفه الروسي على المعابر المائية التي كان يستخدمها المدنيون كوسيلة عبور بعد أن قصفت معظم جسور المحافظة.
ومنذ مطلع عام 2016 لجأ المدنيون لاستخدام العبّارات النهرية للوصول للطرف الآخر بسبب استخدام التحالف الدولي وروسيا سياسة الأرض المحروقة وعمدهم الى قطع شرايين وأوصال المدن والقرى فيما بينها، من خلال تدمير الجسور الواصلة بين ضفتي نهر الفرات.
قامت كل من الأطراف المتنازعة على محافظة ديرالزور بمحاولة فصل مناطق شرق النهر المسماة “جزيرة” عن مناطقها الغربية “شامية” بقصد سهولة السيطرة عليها وتقاسم النفوذ فيها.
معابر أم مقابر:
شنّ الطيران الحربي التابع للنظام وحلفائه الروس غارات جوية على معبر “البوليل” الواصل لبلدة الصبحة بتاريخ 17/9/2017، ما أَدى غرق 23 عبارة واستشهاد أكثر من 35 مدنياً بالإضافة إلى جرح العشرات، ولم يتم التعرف على أغلب الجثث نتيجة تفحمها، وتتالت بعدها خروج هذه المعابر عن الخدمة باستهداف نفس الطيران معبر مدينة “العشارة” وبلدة “درنج” والذي يُعتبر المنفذ الأخير الرابط بين جهتي النهر مرّات عديدة ليوقع عشرات الضحايا معظمهم من الطفال والنساء، كانت إحداها بتاريخ 4/10/2017.
“خالد الأحمد” وهو ناجٍ من سكان مدينة العشارة يقول: “قامت الطائرات بشنّ تسع غارات جوية متتالية على المعبر، أسفرت عن تدمير عبّارة محمّلة بالركاب وغرقها واستشهاد كل من فيها، وحاول بعض من الأهالي المتواجدين في المنطقة إسعاف المصابين، لكن تم استهدافهم أيضاً بغارتين أودت بحياتهم جميعاً، فيما سقطت عدة صواريخ في النهر وبمحيط المعبر المائي وبلغ عدد القتلى 55 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال، وتجاوز عدد الجرحى 50 شخصاً.
وبعد عدة أيام وبتاريخ 11/10/2017 ارتكب الطيران الروسي مجزرة أخرى لتجمع سيارات وعبارات مدنية بالقرب من معبر مدينة “القورية” وقرية “الطيانة”، والتي راح ضحيتها أكثر من أربعين شهيداً مدنياً وإصابة العشرات أغلبهم مات متأثراً بجراحه في وقتٍ لاحق بسبب الحروق البليغة؛ تلتها بتاريخ 19/10/2017 غارة على معبر “البوكمال – الباغوز” النهري، مستهدفةً تجمعاً للمدنيين ممن ينتظرون وصول العبّارات المائية لتقلّهم إلى الضفة المقابلة ما أدى إلى ارتقاء تسعة مدنيين وسقوط العشرات من الجرحى، وبتاريخ 28 تشرين الأول/أكتوبر 2017 كان معبر بلدة “الرمادي” على موعد مع قصف أغرق عبارة واستشهاد 11 مدنياً بينهم ثلاث نساء وثلاثة أطفال.
وقال “أبو محمود” أنه لم يتم نقل المصابين إلى أي نقطة طبية بسبب كثافة الغارات الجوية، ولم تقدم الإسعافات لهم في موقع القصف أيضاً، وكان الخوف مسيطراً على الجميع ولم يستطع أحد الاقتراب من الموقع خشية تجدد القصف، حيث قاموا بجمع الجثث بعد مغادرة الطيران سماء المنطقة ودفنها في المكان ذاته. على إثرها شهدت المنطقة حالة نزوح كبيرة باتجاه بلدات “السوسة والكشكية وهجين” هرباً من الموت.
التدمير الممنهج:
إن التحالف الدولي والنظام وحلفاءه الروس عمدوا إلى قطع أوصال المدن لمنع امدادات تنظيم “داعش” وتقييد حركته ومحاصرته وقطع طرق الإمداد عنه من ذخيرة وسلاح ومؤن. إلا أنها انعكست سلباً على المدنيين العالقين في المناطق الساخنة والتي تُستهدف بشكل مستمر، ما جعل حركة نزوح المدنيين صعبة في ظل استهداف أغلب المشافي وانعدام الأدوية والغذاء، ما جعل المدنيين يخاطرون بحياتهم، وربما قد يصب ذلك في مصلحة تنظيم “داعش” لاستخدام المدنيين كدروع بشرية ليحتمي بهم أثناء انتقاله من ضفةٍ الى أخرى، بالإضافة الى إدانته للتحالف الدولي بقتل المئات من الأبرياء.
عندما تُضرب القوانين بعرض الحائط:
بحسب “القانون الإنساني الدولي” تُعتبر “الجسور والمطارات والطرق والمعابر” هي أعيان مدنية، لكنها تصبح أهدافاً عسكرية عُرضة للهجمات إذا تم استخدامها في أغراض عسكرية أو إذا تم وضع أغراض عسكرية فيها أو فوقها. وعلى ذلك فإن مبدأ “النسبة والتناسب” منطبق هنا، إذ على الأطراف في النزاع حساب الأضرار قصيرة وطويلة الأجل اللاحقة بالمدنيين مقابل الميزة العسكرية المتحققة. وعلى الأطراف البحث في كافة السبل الممكنة لتقليص الضرر اللاحق بالمدنيين، وعليهم ألا ينفذوا الهجمات إذا كان من المتوقع أن يكون ضررها اللاحق بالمدنيين يزيد عن الميزة العسكرية الأكيدة التي ستتحقق منها.
لذلك يجب على الطرف المهاجم مراعاة مسألة “التمييز” بالإضافة إلى “النسبة والتناسب” حيث يجب أن يكون هناك رصد وتحقق من الهدف إن كان مدنياً او عسكرياً، وتقدير نسبة ضرر المدنيين على العسكر، فإن كان الضرر أكبر على المدنيين دون تحقيق الهدف المرجو من العملية والذي يجب أن يكون ذو أهمية كبيرة، فهذا يتنافى مع مبادئ “القانون الإنساني الدولي”.
الصمت المُخزي والسر المخفي:
تأتي تلك المجازر في ظل صمت دولي وعربي مخزيين بالمقارنة مع تحركهم في دول أخرى، كما حصل في مجزرة البوسنة والهرسك، حيث أدانت “المحكمة الجنائية الدولية من أجل يوغوسلافيا السابقة” “ملاديتش” قائد الأركان في جيش صرب البوسنة من 1992 إلى1996 بـ 10 من أصل 11 تهمة بارتكاب جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، حيث وجهت له تهمة قتل سبعة آلاف رجل بوسني من المسلمين بعد سقوط مدينة سربرينيتشا. وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة.
فيما يثير الشك والتساؤل عن سبب غضّ المجتمع الدولي الطرف عن مجازر الأسد التي أودت بحياة مآت الآلاف من المدنيين الأبرياء، فيما تمت محاسبة مجرم آخر قتل سبعة آلاف شخص. هل هو بسبب موقع سوريا الجغرافي على الحدود الإسرائيلية هو الضريبة التي يدفعها سكانها؟ أم أن سوريا أصبحت ساحة صراع دولي وتصفية حسابات؟ أم أن جميع الفصائل العسكرية والسياسية في سوريا أصبحت بيادق على طاولة الشطرنج الخاصة بأمريكا وروسيا؟.
على ذلك يجب تمكين السوريين العاملين في منظمات حقوق الإنسان بالقوانين الدولية والتوثيق الصحيح للانتهاكات وتوجيههم إلى الجهات المعنية، لمحاكمة ومحاسبة المجرمين، وإدانتهم وتعويض المتضررين وجبر الضرر.
ويُذكر أن سكان مدينة ديرالزور كانوا ينذرون لشهدائهم شموع الخضر ويضعونها على شواطئ نهر الفرات لتطفو، ويشاهدونها وهي تغرق في النهر لعلّها تلبي نذورهم. كذلك فعل أبناء الفرات عندما ألقوا أنفسهم في ذلك النهر، ليكونوا شموعاً و نذوراً لمن خلفهم، وجسور أمل لمستقبل يملؤه الحرية والكرامة.
.
.