#########

الضحايا

طوني خليفة” أكمل مهمة الاعتداء على الطفل السوري


استغلت الصحافية موقع سلطتها لا وبل اعتبرت نفسها الاقوى في ظل انعدام ديناميكية القوى المتوازنة وانجرفت بتيار “السكوب الاعلامي”

16 / تموز / يوليو / 2020


طوني خليفة” أكمل مهمة الاعتداء على الطفل السوري

*المصدر: موقع درج 

حذف الفيديو ليس صحوة بل نتيجة مواجهة بين الرأي العام والإعلام الذي يحاول تبرئة نفسه حين يشتد به الحرَج. فهناك حاجة ملحة لأن يعيد الإعلام النظر بمهمته الاجتماعية.

حين صبّت العيون على الفيديو المسرب للاعتداء الجنسي على طفل سوري مؤخراً، سارع اعلام لبناني في التهام قسمته وبدلاً من أن يلعب دور مهنياً في مقاربة جريمة من هذا النوع، سعى وراء الاثارة طريقًا لتعزيز الشهرة.
الجزء الاول من حلقة الإعلامي المعروف “طوني خليفة” جرى الترويج له بعنوان: “أول اطلالة للطفل السوري المغتصّب ووالدته”… ولم تكن الحلقة أقل ابتذالاً وفظاعة من العنوان.

نقف في هذه المقالة عند بعض الأخطاء الفادحة التي انتهكت الطفل ووالدته  من خلال مقابلة أعدتها الصحافية زهراء فردون.

ناهيك عن كون أسلوب عنونة الموضوع وطرحه استعار للاعلامي الشهرة على حساب طفل تعرض للاعتداء الجسدي، أتى العنوان ليزيد من الانتهاك النفسي الذي تبدى عن الفعل الرئيس، فحول الطفل في حلقة العرض الأولى على انستغرام الى مادة تثير فضولية الناس لمتابعة الصفحة. ففي طبيعة الاحوال لا يطرق في بال المستمع بأن “أول اطلالة” ستكون لطفل قاسى أشد أنواع الانتهاك الجنسي، فقد اعتدنا على سماع أول اطلالة لفنان/ة أو لسياسي عاد من المنفى أو عدّاء عاد من صحراء تشيلي في سباق المئة وخمسين كيلو متر مثلًا.

من المؤسف أن نضطر في هذا المقال أن نعيد كتابة ما قيل لكن ذلك يصب في مسعانا الى حثّ الاعلام على استدراك الخطأ.

أولاً، قامت الصحافية المذكورة بسؤال والدة الطفل “ليه ما حاولتي تعرفي ليه صار هيك مع ابنك،” في الحقيقة إن سؤال لماذا في هذه الحالة يُقلل من ألم الضحية لا بل يضعها في إطار المذنب والاستجواب. فالاغتصاب وما يصطلح أن نسميه بالاعتداء الجنسي، لا يحتاج لتعليل أو لسبب لتبرير فعلة المغتصِب، وإن لم تكن هذه نية الصحافية  فالتوجه الى الوالدة بهذا الطرح غير محق، فالأم أيضًا هي ضحية ثانية “للاعتداء الجنسي” في مجتمع يفتقر لأدنى مرتكزات التربية الجنسية، فيعيش الشخص مضطرًا في دائرة الخوف والعار خشيةً الوصمة. 

ثانيًا، أردفت زهراء بثقة أنّ ” لا أب ينسى أولاده” وشددت على اعتقادها بتكرار العبارة في حين أكدت الوالدة بأنه تم هجرانها لسنوات، عادت وقالت الصحافية الجملة ذاتها حين قال الطفل بخنقة أن والده لم يسأل يومًا عنه وأنه لا يريد رؤيته وان أتى “رح اعمل شي ما بيعجبوا.” بطبيعة الحال، لا يمكن أن نتوافق مع الاعتقاد السائد بأن كل الأهالي مثاليين، وأنّ الأب لا يخطئ مهما فعل، وان أخطأ فهو لا يقصد الأذية. وإذا كان الأهالي يملكون خاصية الانجاب فلا يعني بالضرورة أنهم يملكون خاصية التربية السليمة. كما وأن وظيفة الصحافي لا تتضمن الدخول في حياة الناس الشخصية وتجميل صورة أحدهم. فالصحافية  لا تعرف أن هجران أحد الأبوين لأبنائه يعرض الطفل للشعور بالنبذ وفقدان الثقة والتهميش. فلا يجدر أن تتولى الصحافية صفة المدافعة عن الأب وان كانت  تعتقد بأنها محقة في رأيها، ففي المقابل هناك طفل يعاني صدمة نفسيّة مزدوجة، وهذا التبرير للأب يجعل الطفل يشعر بأنه لا يستحق العناية والاهتمام لذلك تُرك وحيدًا.

ثالثًا، استغلت الصحافية موقع سلطتها لا وبل اعتبرت نفسها الاقوى في ظل انعدام ديناميكية القوى المتوازنة وانجرفت بتيار “السكوب الاعلامي.” وذلك حين قالت “حيرتيني بدي لاقيلك زوجك وفتشلك عليه،” وبدت الصحافية وكأنها تريد البحث عن مغامرة جديدة تستكمل فيها كشف “المستور” وتملأ فيها الهواء بحلقات متتالية عن الموضوع، لتجد مادة جديدة تستهوي الناس وتدفع عنهم الملل. فـ”الفضيحة” تحرك الجزء الغرائزي لدى الناس وتجعلهم يلهثون لمعرفة ما سيلي. هذا غير أن الصحافي ليس المنقذ ولا يمكن أن يدعي بأن على يديه سيجد الآخرون الخلاص. وعليه، فمن الأجدر بأن يتخذ الصحافي من لياقة الأداء والتعامل عبرة في التخاطب مع ضيفه بغض النظر عن مستواه التعليمي، والمعيشي وغيرها من العوامل الثقافية. فقد خلا أسلوب الصحافية من التعاطف وظهرت وكأنها محققة حينًا ومُصلحة حينًا آخر وواعظة في حين ثالث.

رابعًا، تكررت على مسامعنا على لسان الصحافية كلمة “المغتصَب” والمغتصِب” حين سألت الأم عن ماذا تريد أن تقول لزوجها فيما يخص ابنها المغتصَب. من جهة الخصوصية، على الصحافية أن تساعد الأم المتألمة في محنتها على الحفاظ على خصوصيتها، هذا من مبدأ أخلاقية العمل. فالاعلام ليس منبر ترجي ولا صلح مزيف. من جهة، أتفهم استخدام لفظ المغتصب للتأكيد على عنفية الفعل وشناعته، ولكن يتعذر هذا الاستخدام في سياق احترام شعور الشخص الذي تعرض  للاعتداء الجنسي لسببين: إن استخدام الكلمة يلغي انسانية الشخص وهويته فمن هو قبل ارتكاب الفعل بحقه؟؟ هذه الاختزالية تقوم على اشعار الشخص المعتدى عليه بأنه لاشيء سوى ضحية، وليس المهم أن نعرف ما يحب، ومن يكون وما هي نقاط تميزه. من جهة ثانية، ان تكرار الكلمة على مسمعه يثير لديه الشعور بأنه سيظل “المغتصَب” ولا محالة للعلاج.

خامسًا، لا تكمن المعالجة السليمة للموضوع بمقابلة الطفل المعتدى عليه ووالدته بل كان يمكن أن يعالج الموضوع بطريقة شمولية تركز على حالات الاعتداء الجنسي بشكل عام وتقف عند دور المجتمع في ردع هذه الأفعال المرضيّة. فالمقابلة غير العلاجية لا تجدي نفعًا في حين لم يمر على انكشاف الجريمة أكثر من أسبوعين. بما معناه أن المقابلة من قبل شخص غير مختص لا تحمل أي نوع من التفريغ الايجابي لا بل قد يتأتى عنها تعقيدات كبيرة، مثلًا عدم سرد الطفل للحادثة مجددًا للمعالج أو عدم الافصاح عن المشاعر بطريقة تفصيلية مرة أخرى، لتتحول المقابلة الى عامل سلبي من خلال انتهاك الخصوصية واجبار الشخص على استحضار مشاعر هو غير قادر على استيعابها في الوقت الغير المناسب. فكيف ذلك ان كانت المقابلة مصورة ومعلنة للجميع أي أن هذا الطفل الذي يعيش في الأصل مشاعر متضاربة يوضع في مكان يزيد من حدية توتره فقد يخرج عنه ما لا يمكن فهمه أو توقعه. هذا غير أنّ التقرير قد استهل بمقاطع من الفيديو المنشور والذي يوثق الاعتداء. كان يجدر الامتناع عن عرض هذا الفيديو الذي انتشر مؤخرًا بكثافة وما بالكم في أن أقارب الطفل وأصدقاءه قد شاهدوه أيضًا، فتغطية بعض المشاهد والاقتطاع من الفيديو لا يخدم مصلحة الطفل الانسانيّة بل يرسخ  الاعتداء الجنسي الذي سيتحول الطفل بسبب الصدمة المتأتى عنه الى العلاج لكي يداوي آثار ما حصل.

كانت المقابلة قد حُذفت على اليوتيوب بعد ساعات من نشرها، لكن هذه الصحوة المفاجئة لا تزال ناقصة فالعودة عن الأثر الذي سببته  للأم وطفلها لا مجال لها. وقد لا تكون صحوة بالمعنى الضمني فالمصيبة قد وقعت والأزمة قد اشتدت. ولو كان الاعلام يلجأ للاعتراف بخطأه لما انسحب دون توضيح. وقد لا يكون التوضيح ضروريًا ففي هذه الحالة بالتحديد، وعلى قدر الأخطاء التي ارتكبها إعلامي واحد يصير التوضيح مبتذلًا.

تطرح علينا هذه الحلقة مجموعة تساؤلات أخلاقيّة عن المسؤولية الاجتماعية للاعلام وقدرة الاعلام على تحمل هكذا مسؤولية. فالتجارب الإعلامية التي شهدناها في لبنان تراوغ في اعتبار أن الإعلامي يمتلك حصانة استمدها من سنين خاضها في المهنة، و شهرة بنيت على اثارة، ونجاح في استقطاب المعلنين فتغدو المحاسبة مستحيلة.

هذه المرة كان الاختلاف في آلية العرض، فقد تم الانطلاق من خلال منصة التواصل الاجتماعي “انستغرام” عبر استخدام تقنية اللايف لأول مرة حسب ما عبر خليفة، وقد يكون ذلك اما للبحث عن مشاهدين جُدد أو لرغبة من الإعلامي في اختراق الشاشات الصغيرة والكبيرة أو تماشيًا مع عدد الموظفين الذين انخفضت ساعات عملهم بالتزامن مع تخفيضات في رواتبهم أو لسبب لا ندري به. كل ذلك يمكن أن يؤَوَل أو يعاد النظر به لكن ما لا يمكن التراجع عنه هو أن الاعلام اللبناني يعاني من هشاشة في الطرح والمعالجة. واذا كان الاعلام يتمتع بالقوة لتشكيل رأي عام هذا لا يعني أنّه قادر على تغليب رأيه وصن أذنه عن الرأي الآخر والتخلي عن أخلاقيات المهنة. فالرأي العام لم يعد مرتبطًا بالشاشة الكبيرة في ظل وجود منابر بديلة أسقطت عن الإعلام التقليدي احتكاره للقوة، ومما لا لبس فيه بأن الإعلام اليوم قد عمد على توسيع إطار عمله لينشط على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفته بحجم تأثيرها، وذلك بعد أن فرض استخدام هذه الوسائط الاجتماعية من قبل الناس على الخط الإعلامي ومحاولته الحثيثة على التكيف. هذه الشروحات كلها تصب في منحى واحد: حذف الفيديو ليس صحوة بل نتيجة مواجهة بين الرأي العام والإعلام الذي يحاول تبرئة نفسه حين يشتد به الحرَج.

هناك حاجة ملحة لأن يعيد الإعلام النظر بمهمته الاجتماعية. فاعادة النظر هذه لا تقتصر فقط على المضمون وطريقة المعالجة والتقديم، وانما تتعداها لتصل الى شخصية الاعلامي وأسلوبه، وذلك كي لا يتحول الاعلام الى أداة تعكس معتقدات الاعلامي “الخاطئة،” ونظرته الذاتية، وفجواته الثقافية، وقد تكرر إقدام إعلاميين وإعلاميات على تفريع مكنوناتهم الشخصية الى العامة بشكل غير منضبط فتتحول ردات الفعل الى الواجهة ويتوه الموضوع. وفي ذلك السعي لاعادة النظر تجنيب لتغذية صورة الاعلامي “النموذج”  الذي قد يتماهى به بعض الأشخاص “السطحيين،” ليتحول سلوكه المعمم الى ظاهرة.


المادة من المصدر