جزءٌ كبير من مقاتلي العشيرة كانوا مدركين لنوايا التنظيم، فرفضوا الانصياع وتسليم آلياتهم، واتجهوا مع أسلحتهم صوب القلمون الشرقي لدرء المواجهة مع التنظيم والحيلولة دون تعرّض القرى والمدنيين لانتقام الأخير في حال بقائهم وحربهم معه
07 / شباط / فبراير / 2019
*أحمد طلب الناصر- مع العدالة
مع بداية تمدد “داعش” على الساحة السورية، صار من السهولة تتبّع سيطرة التنظيم بمجرد النظر إلى خارطة توزّع حقول وآبار النفط داخل أراضيها.
إذ شكّل النفط مصدراً رئيساً لتمويل التنظيم داخل المناطق المُنتَزعة من فصائل المعارضة و”جبهة النصرة” في الجزيرة والبادية وحوض الفرات الأوسط، من خلال عمليات البيع عبر السوق السوداء على أرض تلك المناطق وخارجها، جراء نقل براميل النفط بالصهاريج في الداخل السوري وعبر الحدود، أو ضخه عبر أنابيب إلى مناطق سيطرة قوات الأسد بصفقات شبه سرّية تشرف عليها شخصيات من كلا الطرفين؛ بالإضافة إلى التحكّم بالأنابيب القادمة من حقول “الرميلان” المسيطر عليها من قبل قوات “حماية الشعب”، والمارّة عبر أراضي سيطرة التنظيم، لتصل في نهاية المطاف إلى مصفاتي حمص وبانياس.
وبحلول شهر أبريل/ نيسان 2014 كان التنظيم قد سيطر على حقول دير الزور الغنية، من بينها حقل “العمر” و”التنك” و”العزبة”، عدا حقل “التيّم” الذي بقي بيد النظام والذي انخفض إنتاجه ليصل إلى أقل من (300 برميل) في اليوم، وبذلك أضحى التنظيم بمثابة الآمر الناهي على مقدرات النفط السوري بلا منازع، وبإنتاج يزيد على 200 ألف برميل في اليوم الواحد، أي أكثر من 60% من النفط المستخرج في عموم سوريا.
فكيف تمّ للتنظيم كل ذلك؟ ومن المستفيد الأكبر من حرب النفط في الشرق السوري؟
-
الشعيطات: أرض النفط القاتل:
قبل تمدد داعش داخل الأراضي السورية، كانت معظم الحقول النفطية بدير الزور تقع ضمن ما يسمى “بادية الشعيطات” في ريف المحافظة الشرقي، وبعد انتزاع ريف المحافظة من قوات النظام على يد فصائل الجيش الحرّ خلال عام 2012، أضحت غالبية الحقول تحت سيطرة وإدارة أبناء المنطقة من عشيرة الشعيطات، وجزء كبير منهم التحق بصفوف فصائل المعارضة.
ونتيجة قلّة الكوادر الفنيّة العاملة في حقول النفط، راح بعض الأهالي يُجرون عمليات التكرير اليدوية بواسطة “الحراقات”، لتتحوّل البادية المحيطة بالآبار إلى بقعة واسعة من حُفر وصهاريج التكرير المشتعلة لتنذر المنطقة بمخاطر بيئية وإنسانية جمّة كانت انعكاساتها المرضيّة كارثية على صحّة أبناء الريف قاطبة، ولا تزال آثار بعضها ظاهرة إلى هذا اليوم.
بعد عمليات التكرير تلك، كانت تجري عمليات النقل عبر صهاريج متفاوتة الأحجام ومن خلال سماسرة وتجار نفط ومهربين، داخل سوريا وخارجها، وبأسعار أرخص بكثير من أسعار النفط العالمي عموماً.
يوماً بعد يوم، تكدّست الأموال لدى أصحاب “الحرّاقات” وعناصر الفصائل المسيطرة على آبار النفط، وجلّهم من أبناء الشعيطات كما أسلفنا. ويذكر معظم الذين نزحوا من تلك المناطق لاحقاً كيف كانت تتم عملية إحصاء “رُزَم” الأوراق النقدية، من العملة السورية أو الدولار الأمريكي، بواسطة الوزن، دلالة على كثرتها وانتشارها.
تلك الأموال لم تلبث أن انقلبت وبالاً، ليس على أصحابها فحسب بل على غالبية رجال وشبّان العشيرة من المدنيين الذين لا تربطهم صلة بفصائل النفط والحرّاقات؛ وكان ذنبهم الوحيد يتمثّل بنَسبهم إلى العشيرة وقراها، ليبدأ فصل جديد من فصول المجازر الجماعية بحق أبناء المحافظة تضاهي مجازر نظام الأسد وتفوقها في الإجرام والوحشية، إنها مجازر التنظيم في الذبح والقتل على الهوية!
-
الاستحواذ على النفط والحرب على العشيرة:
بعد دخوله ريف دير الزور الشرقي، ولإتمام سيطرته الكاملة وبالقوة على حقول النفط، وكان بعضها لا يزال تحت تصرّف الشعيطات، سعى التنظيم لإبرام اتفاق مع العشيرة بوساطة مبايعيه من أبنائها، إذ خشي التنظيم الاصطدام معها بادئ الأمر. وقد اتّبع الأخير تلك السياسة مع معظم الفرقاء والفصائل قبل إحكام سيطرته والانقضاض عليهم لاحقاً، وشابه بذلك سلوك نظام الأسد في التعامل مع أهالي المدن والبلدات الثائرة. وقد تمّ للتنظيم إبرام الاتفاق الذي اشترط على مقاتلي الشعيطات تسليم الأسلحة الثقيلة وعدم تعرض أي منهما لشؤون الآخر.
جزءٌ كبير من مقاتلي العشيرة كانوا مدركين لنوايا التنظيم، فرفضوا الانصياع وتسليم آلياتهم، واتجهوا مع أسلحتهم صوب القلمون الشرقي لدرء المواجهة مع التنظيم والحيلولة دون تعرّض القرى والمدنيين لانتقام الأخير في حال بقائهم وحربهم معه.
إلا أن التنظيم راح يضيّق الخناق على أبناء العشيرة الموزّعين بين مدنهم الرئيسة “الكشكية” و”غرانيج” و”أبو حمام”، بغية انتزاع ما تبقّى لهم من آبار. فكان أن انطلقت الشرارة الأولى في صيف 2014 حين تقصّد التنظيم استفزاز العشيرة، فقتل ثلاثة أشخاص في “أبو حمام”، لتكتمل الخطّة المرسومة من خلال اقتحام العشيرة لأحد مراكز التنظيم، فقتلوا أحد أمرائه انتقاماً للثلاثة.
إثر ذلك أعلن داعش الحرب على الشعيطات وشنّ هجومًا شاملًا عليها بواسطة المدافع الثقيلة والرشاشات من عدة محاور، وبدأ بالقصف العشوائي والعنيف على كل مدنها.
استمرت الاشتباكات بين الفريقين لأكثر من ثلاثة أسابيع إلى أن نفدت ذخيرة المدافعين داخل مدن الشعيطات، فانسحبوا إلى خارجها ليقوم التنظيم باجتياحه الذي شكل بداية المجزرة، فراح عناصره يقتلون كل من يصادف طريقهم، ومن بينهم ما يقرب من 80 عامل نفط من أبناء العشيرة كانوا يعملون داخل حقول النفط بالأجرة لدى التنظيم نفسه.
كل ذلك دفع الأهالي إلى النزوح صوب القرى والبلدات المجاورة، ولكن التنظيم لاحقهم وقتل منهم المئات داخل مناطق نزوحهم، لا سيما بعد إصدار خليفتهم “أبو بكر البغدادي” قراراً بقتل كل شاب من أبناء الشعيطات تجاوز 14 من العمر، فجرى إعدام أفراد العشيرة وفق بطاقاتهم الشخصية بعد نصب الحواجز على امتداد ريف المحافظة وداخل المدينة، بالإضافة إلى نهب المنازل وسرقة المحال التجارية والمواشي والآليات بعد أن قُتل أهلها أو هجروها، تحت مسمى “غنائم الأعداء”.
-
مخلفات الرعب الداعشي:
لم يعرف على وجه التحديد حجم المجازر التي ارتكبها التنظيم داخل البلدات بين شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2014 حتى هذه اللحظة، ويقدر البعض بأن عدد الضحايا تجاوز الألفين.
وبعد منع التنظيم دخول أي شخص، عدا عناصره، إلى ساحات المجازر، جرت مفاوضات استمرت لأكثر من شهرين، وعلى موجبها سمح لبعض النساء بالدخول إلى إحدى المدن المنكوبة لتفقد ذويهن وبيوتهن.
ومن خلال وصفهن، تمكّن العالم من معرفة ما حصل هناك من أهوال: رائحة الموت تحوم في المكان، مئات الجثث مرمية فوق الطرقات وفي السواقي المخصصة لري المزروعات، بعض القتلى تمت تصفيتهم بالرصاص، والغالبية قتلوا ذبحًا بعد أن ربطت أيديهم خلف ظهورهم، ثم وضعت رؤوسهم فوق ظهورهم.
بعض الشبّان صُلبوا على جذوع الأشجار والأعمدة، وتم قتلهم بواسطة السواطير، يدلّ على ذلك مشهد رؤوسهم المهشمة. والبعض من الضحايا فقأ عناصر التنظيم أعينهم بالحراب قبل قطع رؤوسهم.
تقول إحداهن: تعرّفت على أحد أقربائي، كان قد حضر مؤخراً من الكويت لتفقد أهله، فأوقفه عناصر الحاجز وألقوا القبض عليه وصلبوه على إحدى الأشجار بعد أن ذبحوه بالسكاكين.
لم تستطع تلك النساء أن يبتن في تلك البلدات فغادرنها، والبعض منهن لا يزلن خارجها حتى هذا اليوم، ويرفضن العودة إليها من هول ما شاهدن من رعب.
بعد مفاوضات أخرى، سمح التنظيم بإدخال جرافة لتضع التراب فوق الجثث وهي في مكانها، للتخفيف من الرائحة ، دون السماح بحفر قبور ودفنهم فيها.
تم إحصاء عدد الضحايا فبلغ ما يقرب من 825، حيث عُثر في بلدة “الشعفة” على نحو 100 شخص، وفي مركز ناحية “هجين” قتلوا ما يقارب 150، أمّا في ناحية “العشارة” فكانوا نحو 75 ضحية، وفي حقل العمر النفطي فكانت مجزرة حقيقية، إذ تمّ إعدام نحو 500 شخص، وجميع من ذكرناهم من المدنيين.
ويؤكد البعض وجود مقابر جماعية في مناطق متفرقة لم يتم كشفها حتى اللحظة، عدا حالات الإعدام الفردية المتفرقة على امتداد المناطق سيطرة داعش، جرى تنفيذها بحقّ كل من يحمل بطاقة شخصية تنتمي لخانة “الشعيطات” ولو كان على حدود مدينة الموصل!
-
نظام الأسد: المستفيد الأكبر من نفط داعش:
بعد مجزرة الشعيطات واستحواذ داعش على أصول ومنابع النفط في الشرق السوري، غدا التنظيم من أغنى المجموعات الإرهابية في التاريخ، جراء تجارة النفط غير الشرعية.
ولكن، كيف نمت تلك التجارة وما هي وجهتها الرئيسة؟
ما يلفت الانتباه بعد تفرّد داعش بالسيطرة على منابع النفط هو عودة العمل الفني إلى داخل حقول النفط الرئيسة ونمو إنتاجها، ما يرجّح إرسال النظام بعض موظفيه وعمال صيانته إلى تلك المواقع مقابل حصّته من النفط المستخرج، وضخّه باتجاه مصفاتي النظام. وما يثبت صحة ظنّنا هو إنتاج النظام الضئيل للنفط (أقل من 10,000 برميل في اليوم) قبيل سيطرة داعش وإعادة تأهيل الحقول، أما بعد سيطرة الأخير فقد وصل إنتاج النظام إلى حوالي 90,000 برميل في اليوم الواحد خلال عام 2015!
أضف إلى ذلك أن سعر برميل النفط قبل سيطرة داعش كان يتراوح بين 40-50 دولار، أما بعد السيطرة فقد انخفض إلى أقل من 15 دولار بحجة رغبة التنظيم في سهولة وصوله للمواطنين داخل مناطق سيطرته بغرض اكتساب القاعدة الشعبية.
إلى جانب النفط، ينقل داعش الغاز الطبيعي إلى النظام أيضاً، وهذه الصفقات تعتبر دائمة، لأن داعش لا يمكنه استعمال الغاز أو بيعه إلى أي شخص آخر؛ إذ يجب امساكه في المصدر ونقله عبر خط أنابيب. والمستخدمون الوحيدون المتصلون بحقول الغاز هم محطات توليد الطاقة ومعامل التكرير والصناعات، والتي تتركز في مناطق سيطرة الأسد، وفي المقابل يوفر النظام المرافق الأساسية لداعش مثل الكهرباء، ويأخذ الأخير ضريبته بعد ذلك.
وقد تمّ حلّ لغز آلية عقد الصفقات بين الطرفين بعد اكتشاف “جورج حسواني”، العرّاب الأكبر لتلك الصفقات بين نظام الأسد و”داعش”، وذلك حسب تأكيد الاتحاد الأوروبي، ووزارة الخزانة الأمريكية التي وجهت أصابع الاتهام إلى شركة “حسواني” للهندسة والبناء بتوفير الخدمات للحقول النشطة عند التنظيم.
.
.