يؤكّد لنا بعض الناجين من المجزرة، ومن بينهم الطبيب "أحمد.ح"، أن عدد من لقوا حتفهم تجاوز الـ 40 شخصاً من أبناء المدينة، 5 منهم كانوا من قادة فصائل الجيش الحر والبقية من المدنيين
17 / كانون أول / ديسمبر / 2018
*أحمد طلب الناصر
ما إن أنجزت “حملة الحرس الجمهوري” مجزرتها الدامية بحق المدنيين في حيي الجورة والقصور الواقعين تحت سيطرة النظام، والتي راح ضحيتها ما يقارب من (500) مدني، حتى راحت تعدّ العدّة لاقتحام الأحياء المحررة داخل مدينة دير الزور مهما كلفها الثمن.
وصلت أنباء المجزرة وتفاصيلها الدامية إلى أبناء الأحياء المحرّرة، ما دفعهم لتنظيم اجتماع طارئ يتمّ من خلاله ترتيب أمور الأحياء، مدنياً وعسكرياً وإغاثياً، وللوقوف على إدارتها وحمايتها وتوفير احتياجات أهلها المعيشية؛ ولضبط الوضع الأمني وقطع الطريق أمام محاولات النظام في خلق حالات انفلات أمنية مستقبلاً، إذ بدّدت تلك المجزرة ووحشيتها آخر أمل في استجابة النظام لمطالب الثوار في الانسحاب من المدينة وإطلاق سراح المعتقلين داخل فروعه الأمنية، وقف الملاحقات بحق أبنائها، وإيقاف القصف اليومي المتواصل على الأحياء المحررة وسكانها.
وبتاريخ 26 أيلول/ سبتمبر 2012، أي بعد يوم واحد من المجزرة المذكورة، اتفق أعضاء المجلس المحلي، المولود حديثاً في المدينة والذي ضمّ جامعيين وأكاديميين تم اختيارهم من قبل الأهالي، اتفقوا مع كبار قادة فصائل الجيش الحرّ وممثلو الفعاليات الطبّية والإعلامية والإغاثية والسياسية، على عقد اجتماعهم الطارئ في مبنى قيد السجل المدني (النفوس)، الذي كان مقراً للهيئة القضائية المشرفة على متابعة الجرائم والمخالفات والقضايا الشرعية والأحوال الشخصية والمدنية، داخل المنطقة المحررة؛ وكانت تدار من قبل محامين وحقوقيين من أبناء المحافظة، أوكلت إليهم جميع القضايا المنوطة بالجانب القانوني، كما توجد داخل المبنى مكاتب أخرى تتبع للفعاليات الأهلية والمدنية الأخرى.
تسرّب خبر الاجتماع وتفاصيله وتوقيت انعقاده، من خلال أحد العملاء الذين زرعهم النظام داخل فصيل للجيش الحر، واسمه “حازم الشعلان”، ليصل إلى مخابرات النظام المتمركزة في الطرف الغربي من المدينة.
ارتعدت فرائص ضبّاط أمن وجيش النظام، وعلى رأسهم اللواء “جامع جامع” رئيس فرع الأمن العسكري آنذاك، والعميد “عصام زهر الدين” قائد الحملة العسكرية التي ارتكبت المجزرة الأخيرة وأذاقت الأمرّين لأهالي المدينة طيلة تواجدها، قبل مقتل زهر الدين وبعده.
عندها، أعطت العصابة أوامرها بقصف دائرة السجل المدني بمجرد انعقاد الاجتماع، الذي لو تمّ كما كان مرسوماً له، لشكّل سابقة في تاريخ المدينة على وجه الخصوص والثورة السورية عموماً؛ وقد أدرك النظام جيداً خطورة انعقاده والنتائج التي تتمخض عنه، إذ كان من شأنه أن يشكّل بديلاً للنظام المنهار ومؤسساته، التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ بل ويتميّز عنها سلوكياً وأخلاقياً، ويحظى بثقة المواطنين وتقبُّلهم لمؤسساته، ما يؤهّل هذه التجربة للانتشار داخل بقية المدن السورية المحررة. وبمجرد إفراز ذلك البديل المدني المؤسساتي، وإثبات جدارته، سيكتسب الصفة الشرعية أمام منظمات ومؤسسات المجتمع الدولي، الأممية والأهلية، بعد أن فقد الأسد ونظامه الشرعية منذ الشهور الأولى لاندلاع الثورة في سوريا.
في عصر ذلك اليوم، السادس والعشرين من سبتمبر، بدأ المشاركون بالتوافد تباعاً إلى مبنى النفوس، والتجمّع داخل القاعة الخلفية، الغربية، البعيدة عن المدخل الرئيس المطلّ على الشارع العام، والمواجهة للأبنية السكنية، وتعتبر الأكثر أماناً وسريّة من بقية قاعات الدائرة؛ كما وأن الدائرة كانت تعجّ بالمراجعين المدنيين كونها تضمّ الهيئة القضائية والشرعية ومكتباً تابعاً للمجلس المحلّي، والذي كان مقرّه ملاصقاً لمبنى النفوس؛ وكانتا الجهتان المسؤولتان عن تنظيم وتسيير أمور المواطنين.
اجتمع معظم المدعوين داخل القاعة، إلا أن الاجتماع تأخر قليلاً عن الانعقاد في الوقت المحدد له نتيجة تأخّر البعض، بسبب اشتداد وتيرة القصف في ذلك اليوم؛ وما هي إلا لحظات قليلة حتى سُمع صوت هدير طائرة (ميغ 23) بالتزامن مع دويّ انفجار هائل استهدف قاعة الاجتماع، تبيّن لاحقاً بحسب تسريبات من مراكز القرار أنّ الذي كان يقود الطائرة هو العميد “بسام حيدر” قائد المطار العسكري في دير الزور.
تطاير الركام في جميع الجهات، وغطّت سحابة رمادية كثيفة أرجاء المكان لأكثر من خمس دقائق، منعت الرؤية عن أنظار الأهالي، الذين هبّوا إلى المبنى مسرعين بمجرد تلاشي الصوت، وكل أملهم أن يكون صادراً عن انفجار قذيفة (هاون) أو مدفعية (الجبل) التي تعايشوا مع حالات سقوطها اليومي؛ إلا أن الدويّ المرتفع وحجم الاهتزاز الناتج عنه كانا أضخم بكثير هذه المرة..
وشيئاً فشيئاً، راحت الغيمة تتكشّف لتعرض مشاهد وصور الأشلاء المتناثرة والممزوجة بحجارة القاعة المهشّمة، أما الدماء فقد تحولت لبقعٍ سوداء داكنة تحيط بالجثث وبأجساد المصابين، وجلّهم فاقد للوعي نتيجة ضغط الانفجار.
معظم من كان داخل المبنى لقي حتفه، أمّا المصابين فقد تراوحت إصاباتهم بين بترٍ لعضو أو أكثر، ومنهم من لقي حتفه بعد ساعات أو أيام من حصول المجزرة متأثرين بجراحهم.
يؤكّد لنا بعض الناجين من المجزرة، ومن بينهم الطبيب “أحمد.ح”، أن عدد من لقوا حتفهم تجاوز الـ 40 شخصاً من أبناء المدينة، 5 منهم كانوا من قادة فصائل الجيش الحر والبقية من المدنيين.
ولم يتم توثيق جميع أسماء المدنيين، لا سيما المراجعين، بسبب احتراق الجثث وتشوّه معالم الوجوه. وقد تمكنت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” من توثيق 15 مواطنًا فقط، بينهم طفل، وذلك بعد التواصل مع أهاليهم أو ذويهم، أو من خلال ناشطين داخل مدينة دير الزور، بسبب صعوبة التحرك داخل المدينة وقطع الاتصالات، وحصلت “مع العدالة” على أسماء 3 مواطنين مدنيين آخرين بعد التواصل مع الطبيب الناجي “أحمد. ح”، والضحايا هم :
- خليل البورداني
- نبيل العبد
- الطفل ماجد وليد العبدالله / 12 عام /
- فراس خليفة
- زبير خلف علاوي
- سامر خلف علاوي
- ثائر خلف العلاوي
- عبد العزيز راغب الشيخ، إعلامي
- نبيل الأشرم
- معمر الشامي (موقوف مدني)
- محمد الغفرة
- ثائر الطياوي- محامي
- مرعي الحسن-محامي
- رامي الكدرو- توفي بعد نقله للعلاج في تركيا.
- إبراهيم اليونس
- صفوان النجرس
- ياسر العلاوي
- مازن صبحي درويش، توفي بتاريخ 29/9/ 2012 متأثراُ بالجراح التي أصيب بها في المجزرة.
وعلمت “مع العدالة”، من مصادر حصرية وخاصة، بأن من بين الضحايا كان يوجد 15 عنصراً تابعاً لجيش النظام السوري، كان قد تم أسرهم في أوقات سابقة أثناء الاشتباكات وجرى إيداعهم داخل غرفة ملاصقة لقاعة الاجتماع، ريثما يتم عرضهم على المجلس القضائي؛ ولم يتم التعرّف على أسمائهم بسبب فقدان بطاقاتهم الشخصية التي صودرت منهم بعد الأسر ولم يتم العثور عليها لاحقاً؛ كما ولم يصرّح النظام بأسماء أولئك العناصر الذين لقوا حتفهم على يديه.
وتحدّث أحد تلك المصادر الخاصة لـ “مع العدالة” عن حادثة محزنة تتعلّق بالطفل “ماجد وليد العبدالله”، حيث قال: “أُوقِف الطفل قبل يومين من المجزرة نتيجة “شجار، وقد تم إخلاء سبيله في ذلك اليوم المشؤوم”بعد إسقاط الحق الشخصي عنه، لكنه رغب بتقديم الشكر لأفراد المجلس القضائي فقام بإعداد إبريق من الشاي وراح يوزّع عليهم الأكواب بسعادة غامرة.. إلا أن الطائرة قطفت منه تلك السعادة لحظتها”.
ويتابع المصدر حديثه ليكشف لنا تفصيلاً جديداً لم يأت عليه أحدٌ قبل اليوم، إذ أكّد بأن الصاروخ الذي أطلقته طائرة “الميغ” كان موجّهاً بدقة صوب قاعة الاجتماع، حيث دخل من الحائط الخلفي لكنه ارتطم قبل ذلك بالمبنى المجاور، لذا، لم يكن الصاروخ هو السبب الوحيد في سقوط كل ذلك العدد من الضحايا، إذ قال: “بعد انقضاء الانفجار وسحب الجثث والمصابين، فوجئنا بحفرة كبيرة أسفل القاعة وغرفة احتجاز الضحايا الأسرى، فتأكدنا لاحقاً بأن القاعة كانت مزروعة بعبوة ناسفة تم تفجيرها بالتزامن مع إطلاق الصاروخ، لا سيما وأن بعض الشهود أكدوا على سماع صوت انفجارين مختلفين يفصل بينهما لحظات سريعة”.
ونستنتج هنا بأن النظام كان قد وجّه أوامره للعميل الذي جئنا على اسمه في البداية، لزرع تلك العبوة، تأكيداً منه على قتل جميع من كان في المبنى، ومن بينهم عناصره الأسرى.
وما هي إلا فترة وجيزة حتى فوجئ ثوار المدينة بهروب ذلك العميل إلى حي الجورة الخاضع للنظام، ليترأس ميليشيا ما يسمى بـ “الجيش الوطني”.
شكّل يوم المجزرة انعطافاً كارثياً على تاريخ المدينة، إذ كان استمراراً للمجزرة الأخيرة التي حصلت في الجورة والقصور كما أسلفنا، ودفعت قوات النظام، وقوامها من الحرس الجمهوري والميليشيات الإيرانية، للاستيلاء على أحياء أخرى من المدينة المحررة والتمركز داخلها، بسبب فقدان خيرة قادة الفصائل الثورية والكوادر المدنية، ما أدّى إلى انهيار معنويات العديد من الثوار والأهالي؛ وتبع ذلك إطباق الحصار على قلب المدينة المحرّر، ففصل ريف المحافظة كاملاً عنها، وعانى المدنيون من الجوع والفقر والمرض لشهور طويلة.
إلا أن أخطر النتائج التي تمخّض عنها يوم المجزرة، كان بداية صعود التشكيلات الإسلامية المتشدّدة، والمتمثلة بجبهة النصرة، نتيجة الفراغ الذي شكّله مقتل قادة الفصائل الثورية من الجيش الحرّ؛ وأول ما قامت به جبهة النصرة كان إنهاء المجلس المدني والقضائي، واعتقال أغلب أعضائه وتصفية البعض، وكذلك الأمر مع أفراد الجيش الحر. فسيطرت على كامل المحافظة، ريفاً ومدينة، لتسلمها بعد ذلك على طبق من ذهب لإخوة المنهج، تنظيم (داعش)، في نيسان/ أبريل 2015، وليقوم الأخير بدوره في تسليم المحافظة إلى النظام السوري في نهاية 2017.
المزيد للكاتب ⇐ هنا