تعلّمت أشياء لا تمت للصبر بصلة؛ فبرأيي جاهل من يحصر السجن بالصبر، فهو يحمل في طياته آلاف القيم والفوائد، لا يمكن شرحها إلا لمن عايشها .. فضلاً عن أنه يدركها تماماً، يسرح الخيال في الداخل بنواقص الأساسيات؛ فهناك تُشكل هوة كبيرة في ذات الإنسان، إما أن تصقله أو تفصمه
29 / كانون أول / ديسمبر / 2018
*حوار : منى محمد
يقع سجن صيدنايا على بعد 30 كم شمال دمشق، ويتبع لوزارة الدفاع السورية وتديره الشرطة العسكرية. مر هذا السجن الذي ذاع صيته بالتعذيب والقتل والحرق للمعتقلين السوريين وغيرهم، بالكثير من المراحل، جميعها شهدت أساليب تعذيب وقتل، ربما لم تمر في بال بشر غير هؤلاء الوحوش، كما يصفهم كثير ممن كُتب لهم النجاه منه.
أصدرت عدة منظمات دولية تقارير، خاصة بالسجن، تصف مايحدث فيه، وتروي الكثير من الشهادات المروّعة، حتى أصبح اسم السجن (المسلخ البشري) كما طرحت منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير عن السجن.
ثم جاء تقرير جديد أصدرته الصحيفة الأمريكية الشهيرة “واشنطن بوست”، حيث أوردت في تقريرها شهادات أكثر من 27 معتقلاً نجوا من السجن القاتل، وانتشروا في كثير من المدن والبلاد، وأورد التقرير صوراً للسجن أُخذت بالقمر الصناعي، لتفضح وجود جثث في الفناء الخلفي للسجن.
محمد الشاب البالغ 28 عاماً ابن ريف دمشق والخارج حديثاً من سجن صيدنايا، وأحد شهود الواشنطن بوست، تحدّث إلى _مع العدالة _ عما لم يروه تقرير الصحيفة الشهيرة:
ما سبب اعتقالك محمد؟
بدأت الأحداث في سوريا في عام 2011 وكانت شرارة لطالما أرّقت عقول السوريين …انتفض الشعب ضد المنظومة الأسدية شباب وشيب وأطفال ونساء …. تصدّت تلك المنظومة القمعية للشعب الأعزل بالرصاص الحي، معتقدة أنها ستقمع هذا الشعب الثائر، وبالعكس تمام ما حصل، أن الشعب فجّر قوته ضد هذه القوى الأمنية.
باختصار كنت واحداً من هذا الشعب، شاركت بما ذكرت آنفاً …
طُلبت لجهات أمنية؛ لُوحقت؛ وفي سنة 2012 اعتقلت بكمين، وتم اقتيادي إلى الأفرع الأمنية، وبدأت حلقات مسلسل التحقيق تلك تمر.. بالتعذيب الجسدي وأخرى بتعذيب نفسي، وأخرى بتحطيم قيم ومبادئ لطالما تعبنا ونحن نحميها بجفوننا ونغذيها على رحيق دمنا.
استخدموا أساليب قديمة وحديثة في التحقيق، بالضرب العشوائي -بالكهرباء -بكسر الأعضاء -بتهشيم الجلد -بالشبح … وهكذا دواليك.
ومن بعدها تتالت تنقلاتي بين فرع وثان …بين سجن وآخر، ما فتئت وأنا أسعى للخروج من ذاك الجحيم؛ ولكن كان العزاء الجميل أنني أنا من اختار الطريق الذي أوصلني إلى هنا ..لم أكن مجبر أو مغرر به .
خلال هذه الفترات كانت إضبارتي تتمرجح بين المحاكم والقضاة؛ فمن المحكمة المدنية إلى القضاء العسكري ومن ثم إلى الإرهاب وختامها كان بالميدانية.
مرت أيام سوداء كالحة.. جوع لرؤية جزء من ذويّ استمرت فترة اعتقالي لست سنوات بهذه الجولة بين الأفرع والسجون لينتهي بي المطاف كما أخبرتك في سجن صيدنايا.
مالذي غفل عنه تقرير الواشنطن بوست؟
لا يُمكن أن نؤطر النقص في تقرير واشنطن بوست ..لأنهم وجهوا العدسة حول أمر ما …
لكن هناك الآلاف من القضايا ممكن أن تكون تقارير في ظل هذا الوضع، لكنهم اختاروا الحديث عن الجثث وحكم الإعدام كأحد الانتهاكات التي تحدث في ذلك المكان.
ما أكثر الأشياء التي رسخت في ذاكرتك من سجن صيدنايا، لم تستطع الحديث عنها في تقرير الواشنطن بوست؟
رسخ في بالي كل شي ..أساساً لايمكن أن ينسى شيء مما عشناه، من التعذيب الجسدي والنفسي وما يتركه من آثار مستقبلية، عطش لنوم ساعة كاملة دون كابوس أو نعيق سجان، أو نباح آخر، لطالما حلمنا فقط وفقط بالخبز …كدنا أن ننسى شكل الرغيف.
أتعبني في صيدنايا وأنا أوزّع الطعام، تقسيم حبة الزيتون على ثلاثة أشخاص، أو تقسيم بيضة مع قشرها على خمسة أشخاص!
نعم هذه هي الأيام، تتمنى الموت، ولديك ولهٌ شديد للعيش يوم واحد بين أحضان ذويك وأنت شَبِع من الخبز فقط.
نعم هي أيام تأجل دخول التواليت يوم كامل هروباً من صقيع الماء المتجمد على فوهة الصنبور، تحلم بالعودة لأقسى الأفرع فقط لتشبع خبزاً …
تبكي دماً عندما يقتلوا أخاك الذي لم تلده أمك أمامك، ويبقوه يوم كامل عندكم ليحطموا ماذا ؟؟؟
كنت أحلم بذاك الرغيف …وأنا الآن على متن طائرة ..لا أدري القدر كيف يسير.
من هم الأشخاص الذين تركوا ذكرى في قلبك؟ أو ربما أشخاص بلا أسماء، كيف تتذكرهم الآن !؟
الأشخاص الذين أثروا فيني قلائل ..(أتحفظ عن ذكر أسمائهم).
أخوتي مازالوا في داخل المحميات الأسدية …إن أحضروا لهم طعاماً، أكلوا، وإن لم يحضروا، ماتوا جوعاً؛ ترى هناك قهر الرجال، وترى جلادة وقوة، لو رآها الزير أو عنترة لبكى، بل لانحنى تقديراً لشهامتهم.
كل من في صيدنايا يُعرض على قاضي الميدانية مرة واحدة .. يحاول كل من في الداخل شرح حياته للناس …ملتمساً رأفة منهم أو إن خرج أحد ليبحث ويخبر أهله عن وضعه، صحبة ذاك المكان غالية، فهناك تكون العلاقات (ربما) نقية كالندى، غير مشوبة بسخافات الحياة، فقد بنيت علاقات في داخل معتقلي، لا يُمكن أن ألتقي بهم لو عشت 100 سنة.
مالذي تعلمته أو ربما كنت تفكر به في جحيم الموت هناك؟
تعملت أشياء لا تمت للصبر بصلة؛ فبرأيي جاهل من يحصر السجن بالصبر، فهو يحمل في طياته آلاف القيم والفوائد، لا يمكن شرحها إلا لمن عايشها .. فضلاً عن أنه يدركها تماماً، يسرح الخيال في الداخل بنواقص الأساسيات؛ فهناك تُشكل هوة كبيرة في ذات الإنسان، إما أن تصقله أو تفصمه.
يحدث للسجين شيء لا يمكن لمخلوق أن يحصل عليه وهو الصفاء الذهني، فيصبح يربط رائحة السجان من غير أن يراه بأشياء وأشياء .. يربط وقع خطوات السجانة بأمور يصبح خبير فيها؛ كل هذا من الفراغ.
هل ما نفعله من فضح جرائم النظام وخاصة في صيدنايا تجده مجدياً كأحد الناجين من الاعتقال، وماذا تقترح؟
أقول كــ “محمد فقط …الندوات والاجتماعات تفيد، لكن ليس بالقدر المطلوب، فلا أستثني جهة، (كلهم كاذبون بحملهم للقضية)، القضية لا يمكن أن تُقرن بحيواتنا؛ كل من يعمل بأمر “القضية”، تراه يرفع الرايات عندما تتعارض القضية مع حياته الخاصة أو الشخصية.
أنصح آخراً، أن نكون صادقين مع أنفسنا (مو مثاليات هالكلام)، هو واقعي وضروري، ومنه ممكن نفيد القضية أو معتقل أو عائلة معتقل.
الكلام يطول ويطول …هذا كافٍ؛ (لأن الصوت إن لم يلقَ أذناً ضاع في صمت الأفق).
***
بعض مادونه محمد من ذكريات السجن
#سجن_صيدنايا
17/11/2017
#يُؤثرون وهم #يموتون
دخل المهجع التاسع الجديد بعد نقله لأمر ما …
فتح السجان الباب وركله بقدمه للداخل ..
فوت على الزريبة يا …….
الظلام دامس لا يرى شيء ..
وإذا بصدى صوت من الداخل يشق ظلمة وبرودة المهجع …أبو …….شو جابك لهون ؟؟!!!
أكانت فرحة أم أسى .؟؟!!
لا يدري …
كل مايدريه أنه ارتعش …
من أنت ؟؟!!
#خليل …..جاركم …ما اتذكرتني ؟؟!!
أخذهما العناق الطويل ….
كل شيء بكى في الغرفة ..
بعد لحظات من السلام والاطمئنان …
آثر على نفسه #خليل أن يشاطر هذا القادم الجديد بنصف نصف رغيف ..
فأعطاه ربع رغيف وأكل ربع رغيف …
تلك حياة ابن الأصل.
15/9/2017
#سجن_صيدنايا
يوم الجمعة هو أروع الأيام ،ولكن ليس في المسلخ البشري …
فيوم الجمعة هو يوم النظافة كما يدعي أشباه الرجال في ذاك المكان.. عادة يوزعون الطعام بوقت معين، لكنهم تأخروا في ذلك اليوم ، وماهي إلا لحظات.. جاء الفرج، سبعة أرغفة من الخبز ومايقارب 60 حبة زيتون ل 22 شخص، دخل الطعام …كم من عادل يحتاج هذا الكم لتوزيعه ..؟؟!
كم من منصف يحتاج ؟؟!
ما إن أغلق السجان الباب …حتى صاح في الكريدور : جهّز حالك ع الحمام يا ……
يعني فقط اخلع ملابس وابقَ ربي كما خلقتني …
تبدأ الأدعية والتوسلات لله أن يُمضي هذا على خير ..
يصطف أولئك الشبان المقهورون خلف بعض بما يُعرف بالقطار (الكل راكع كركوع الصلاة والرأس بين قدمين الي أمامه)، ويُفتح الباب ويخرج الشباب في مسير لا يتجاوز طوله 60 متر ..ولكأنه لا ينتهي ولا يريد أن ينتهي .. المشي على رؤوس الأصابع …من باب المهجع إلى باب الحمام تصطف أولئك الوحوش الحاقدة وبيديها أشياء تشق الصخر (من عصي خشبية وهروانات وأكبال وقشط وعصي كهرباء).
لا يكاد أحد ينجو من بطشهم …تسمع لهاثهم كلهاث الكلاب …هم يتعبون …فكيف بمن تنزل عليه تلك السياط ..
يصل الموكب إلى الحمام المزعوم … المساحة متر بمتر فقط …كل حمام أربعة أشخاص …(معكم أربع ثواني ويا ويله الي ما بكون تحمم) …يخرجون ..يصطفون كالقطار ..الأرض بتزحلق والمشي على رؤوس الأصابع والضرب على الظهر من كل حدب وصوب ويا ويلك إذا بتزحط …
زحط ووقع الشب الهزيل ..فبضربة شبه مميتة أمر بها الجلاد شاب آخر بحمله لأنه ماعاد يقوى على الوقوف ..فحمله ..ومشى ..ركوع وحمل شخص وضرب على الظهر …ما إن وصل الركب إلى المهجع وأُغلق الباب ..تفقد بعضهم بعضا ..المشقوق رأسه ..والمكسورة إيده …والي مكسور قفصه الصدري ..بالإضافة لهذا الشاب الذي حمل الآخر بقي شهر كامل لا يقف على رجليه وكاد يصاب بالشلل لولا لطف الله وخبرة البعض في المهجع ..
وانقضى ذلك اليوم بشهداء أربعة ..وكم مصاب.
في مثل هذا اليوم من عام 2017
استيقظ معتقلو #صيدنايا يتحولون بالله ..ويحتسبون _هذا اليوم ومافيه من قذارة وحقد من السجانين عليهم_ عند ربهم …
نعم هذا هو يوم #عيد_الجيش_العربي_السوري
وكيف لا وهو سجن عسكري بل مسلخ عسكري للمدنين والسياسين ومعتقلي الرأي…..
نعم …استيقظوا …وإذا بكمية الإفطار مضاعفة ومعها شاي ساخن رائحته تكوي القلوب قبل الأنوف.
دخل السجان ليدخل الإفطار وكان بيض مسلوق وخبز وشاي ..”هو يوم تاريخي”، فأمر( الشاويش) بوضع الخبز داخل الشاي قليلاً ….ومن ثم أمره بدخول التواليت وتنجيس قدميه ثم تدعيس الخبز والبيض …حتى أتلفه ..ثم صب الشاي المغلي على المساجين وأحرقهم به..
ثم دخلت قطعات على هيئة بشر وتصرفات وحشية …وفعلتْ مافعلتْه…إلى الله المشكتى…
وعند الضهيرة أتى الطعام مضاعف ويالها من فرحة فمنذ زمن لم يروا كمية كهذه ولم تشتم أنوفهم رائحة كهذه (رزبشعيرية وفاصوليا حب بمرقة حمراء ومعها فروج مسلوق داخلها) …نعم هو عيد الجيش …دخل السجان وأحرق المساجين بالمرقة المغلية وسكب باقي الطعام بالتواليت وأمر الجميع بالدخول وتناول الطعام من داخله….
ومن ثم بدأت حفلة عيد الجيش ….
قطيع مؤلف من 12 شبيه بالرجل ….يستل كبله وقشاطه المدعم بالأسلاك المعدنية الرفيعة …ويدخلوا غرفة غرفة ليعايدوا على أولئك العزل ضِعاف البُنى …خاوي الأجواف… و ياله من عيد ويوم تاريخي .
عذراً فقط أفرد #الجيش_العربي_السوري يُعيِّدون بهذه الطريقة …
اللهم كن مع أخوتي …لا ملجأ لهم إلا إليك.
تقرير عن سجن صيدنايا ⇐ هنا