في ديسمبر عام ٢٠١٢ أخذت ملامح رحلة العذاب والموت بالتجذر في مخيم اليرموك ، حين بدأ الاقتتال الذي لم يكن مسبوقاً بهذه الحدّية بين كتائب الجيش الحر من جهة، وقوات النظام بذراعها المتمثل في ميليشيات أحمد جبريل من جهة أخرى .
22 / تشرين أول / أكتوبر / 2018
_توثيق سيرة الموت والحصار_
الجزء الأول
*معاذ حسن
مما لاشك فيه أن تدمير عاصمة الشتات الفلسطيني أمر مدروس و مخطط له سلفاً. بدليل أن نظام الأسد في اقتحامه للمدن والمحافظات السورية، كان يبدأ بقصف مخيمات اللاجئين الفلسطينين .
تم قصف مخيم الرمل للاجئين في اللاذقية بالمدفعية البحرية في تاريخ ١٩ /٣/ ٢٠١٤. ، ومخيم النيرب وحندرات في حلب بالصواريخ ١٧ تشرين الأول ٢٠١٦ .و باقي المخيمات في حمص وحماة دون أي ذريعة للنظام ، فلم تكن هناك معارك دائرة ، أو وجود مسلح في المخيمات . أما مخيم اليرموك والذي يشكل ثقلاً سياسياً في الساحات الدولية كعاصمة للشتات الفلسطيني، فكان له النصيب الأكبر من الدمار و الانتهاكات .
بدأت القصة فعلياً مع مجزرة جامع عبد القادر الحسيني في ١٦ ديسمبر من عام ٢٠١٢ . حيث قصفت طائرة “الميغ” المسجد، وراح جراء هذه الضربة عشرات الضحايا في هذا الهجوم، علماً أن المسجد كان يأوي عدداً كبيراً من النازحين الذين قدموا من مناطق أخرى منكوبة ، دون أي مبرر يذكر لقوات النظام، فلم يكن هناك حينها سوى ميليشيات القيادة العامة بقيادة “أحمد جبريل” التابعة للنظام السوري . ليعود النظام بحجة أنه حدث خطأ في تحديد الإحداثيات من قبل طاقم الطيران . لتبدأ أولى حالات النزوح من المخيم بعدها . ولكن أيضاً، كان يحدث قبل ذلك ضربات متفرقة، للهاون، من حين لآخر بنفس الحجة ذاتها (خطأ الإحداثيات).. بحكم محاذاة مخيم اليرموك للحجر الأسود الذي كان يسيطر عليه الجيش الحر آنذاك . لكن الخسائر لم تكن بحجم الترويع الذي حمل الناس على مغادرة المخيم، أو قيام أبنائه بتشكيل مجموعات للدفاع عنه كما حدث لاحقاً.
في حقيقة الأمر انقسم الناس في مخيم اليرموك بين من يحاولون تجنب الدخول في الصراع السوري على أرضية أنهم ضيوف، وأنه أول من سيتم إبادتهم في هذه الحرب، بناءً على تاريخ نظام الأسد في حربه ضده المخيمات ، وبين من يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزأ من هذا الصراع على أرضية أن نظام الأسد هو يد إسرائيل الضاربة في القضية الفلسطينية .
أما بالنسبة للنظام، فقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ، زرع النظام ميلشيات أحمد جبريل في وجه كتائب الجيش الحر، المتمركزين في الحجر الأسود، و بدأ بتوزيع السلاح و تجنيد الشباب و إعطائهم رواتب ومزايا لزجهم في الحرب الدائرة . تخلل هذه الفترة قبل الهجوم على المخيم حالات قتل فردية و مصادرات من سلاح وذخيرة و أسرى بين الطرفين ، الأمر الذي أدى إلى تصعيد الصراع بين كتائب الجيش الحر وبين ميلشيات أحمد جبريل، فقد كانت كتائب الجيش الحر تعتبر المخيم وقتها منفساً حقيقياً لشراء المواد الغذائية و مستلزمات الحياة اليومية، وطريقاً للتواصل مع العالم الخارجي في ظل الحصار، واعتبار منطقة الحجر الأسود مكاناً يحتضن الإرهابين تستبيحه طائرات ومدفعية النظام .
في ديسمبر عام ٢٠١٢ أخذت ملامح رحلة العذاب والموت بالتجذر في مخيم اليرموك ، حين بدأ الاقتتال الذي لم يكن مسبوقاً بهذه الحدّية بين كتائب الجيش الحر من جهة، وقوات النظام بذراعها المتمثل في ميليشيات أحمد جبريل من جهة أخرى .
كان القرار المتفق عليه لدى الجيش الحر في بادئ الأمر هو التخلص من القيادة العامة، ومن ثم العودة إلى المقرات في الحجر الأسود حال انتهاء المعركة التي استمرت على مدار يومين، لتنتهي بحصار مقر القيادة العامة في شارع ال ١٥ ، ليتم اقتحام المقر وقتل عناصر القيادة العامة وأسر من تم إلقاء القبض عليه حياً . في هذه اللحظة تحديداً أصبح قصف النظام للمخيم بالمدفعية و الطيران من أولويات المعركة ، لا أبالغ إن قلت أن السماء أمطرت رصاصاً و قذائف، حيث لا مفر سوى أقبية البيوت، ومستودعات المحلات التجارية .
قتل في الليلة الأولى لهذا القصف العشوائي أكثر من خمسة عشر شخصاً، قضوا بالهاون . و من ثم تم وضع القناصة في مدخل مخيم اليرموك إلى ساحة الريجة، التي تبعد تقريباً ٣٠٠ إلى ٤٠٠ متر من مدخل المخيم .
أما القصف فلم ينقطع طيلة ثلاثة أيام متواصلة .
من البديهي أن يحاول أغلبية سكان المخيم الخروج مع ارتفاع عدد الضحايا، وتوالي القصف وانعدام الحياة بشكل عام . ليقوم النظام على محطاته التلفزيونية بنشر إشاعة مفادها أن قوات الجيش والنظام تستعد لإقتحام المخيم، وتطهيره من الإرهابين . فعلى المواطنين مغادرة المخيم لوقت محدود إلى حين استعادة مخيم اليرموك من الإرهابين . خرج آلاف الناس وقتها، بمشهد يشبه بحيثياته نكبة الفلسطينين عام ١٩٤٨. كان الكثيررون يرددون في طريق الخروج إنها التغريبة الفلسطينية الثانية ، ومازلت أذكر وقتها في مدخل المخيم وقوف امرأة عجوز تحاول منع السكان من الخروج وتقول بلسان مرتجف باللهجة العامية الفلسطينية ( ولك لا تطلعوا يا ولادي ماعاد ترجعوا. ضحكوا عليكو مرة تخلوهاش ثنتين ) . وكأنه بحدسها وثقافتها البسيطة تدرك بأنه انقضى الأمر، و لعبة تفريغ المخيم و تشتيت سكانه لتدميره هو أمر مخطط له بالقضاء على آخر رمزية للقضية الفلسطينية المتمثلة بمخيم اليرموك . بل ولسخرية الأقدار، لم يستيقظ “أرئيل شارون” من غيبوبته التي دامت لأكثر من ثلاثة أعوام إلا بعد أحداث تدمير المخيم وهو القائل:
( لك يوم يا مخيم اليرموك ) .
سبق وأن ذكرنا في بداية الحديث على أن المخيمات الفلسطينية في سورية تم استهدافها في بداية أي اقتحام للمحافظات السورية ،الأمر الذي يشير بشكل فاضح إلى خدمة المشروع الإسرائيلي بالقضاء على مراكز تجمع اللاجئين الفلسطينين، وطمس معالم القضية وإلغاء الهوية . من منا لا يذكر عبارة حافظ الأسد ( فلسطين قبل الجولان ). لكن من ينسى أيضاً ممارسات حافظ الأسد خلال مجازر اللاجئين الفلسطينين في مخيم تل الزعتر و حرب المخيمات في لبنان التي كان يسعى إلى إبادتها، وراح ضحاياها الآلاف .
كذلك بشار الأسد في توكيده على أهمية ومحورية القضية الفلسطينية من جهة، وتدميره لمخيمات اللاجئين في سورية من جهة أخرى .
دفع مخيم اليرموك أبهض الفواتير في هذه الحرب ، لم يقتصر الأمر على تدمير المباني و المحلات التجارية والأسواق ، فسوق “شارع لوبية” والذي يعتبر من أهم أسواق العاصمة دمشق، في حركة التداول المالي و استقطابه للزبائن من أماكن بعيدة، أصبح على الأرض بالمعنى الدقيق للكلمة . كتلة من الحجارة و الفوضى و الجثث المبعثرة ، حيث ترصده قناصات النظام لإطلاق النار على كل ما يتحرك .
انعدمت وسائل الحياة، و فاحت رائحة الموت، ومن الطبيعي أن لا يفي النظام بوعده، بدخول معركة في المخيم، بل استخدم القصف لتدمير ملامحه، والحصار ليفتك الموت و الجوع بالسكان داخله. أما عن الجوع، فتلك مأساة سيبقى صداها في الوجدان الفلسطيني .. كانت تأتي اتصالات بأننا فقدنا أعزاء و آخرين من شباب الحي الذي كنا نقطنه بسبب الجوع ، خسرت عائلات فلسطينية كبيرة أشخاصاً بسبب التجويع، أذكر منهم (بيت الموعد و الشهابي و النعيمي و التميم) والكثيرين من الأسماء المعروفة في مخيم اليرموك .
وأذكر حادثة عن لاجئة فلسطينية فقدت أعصابها وتوازنها النفسي بسبب الظروف القاسية، فلم تعد تحتمل صراخ طفلها الجائع، فأشبعته ضرباً إلى أن فارق الحياة . و أيضا مشهداً تم تصويره بكاميرا الجوال لأحد اللاجئين في مدخل مخيم اليرموك حيث تقف دبابة عسكرية علق بحبل على سبطانتها ربطة خبز في حالة استفزازية واضحة لجوعى المخيم .
وقد قتل أحد الشخصيات المعروفة في مخيم اليرموك ..رجل يدعى أبو خليل العودة، كان يجلس بشكل دائم في المقهى المعروف بإسم “أبو حشيش” ( كنية لإحدى العائلات الفلسطينية ). خرج تحت تأثير الجوع إلى المفرزة العسكرية التابعة للنظام في أول المخيم ليطالب بالخبز ، ليتسلى به العسكر بدورهم طالبين منه أن يقلد نباح الكلب مقابل رغيف من الخبز و بعد أن نفذ ما طلب منه أردوه قتيلاً على بوابة المخيم .
لم نتحدث عن حالات الوفاة التي تسببت بها الأعشاب السامة نظراً لأن الطعام في فترة الحصار اقتصر على الأعشاب التي تنبت هناك . . ليقوم إمام مسجد الوسيم بعد ذلك بفتوى تبيح أكل لحم القطط و الكلاب بسبب الظروف القاهرة ووفيات الجوع .
أيضا لم نتحدث عن المعاناة والانتهاكات من قبل العسكر و حالات الإعدام الميداني في مخيم اليرموك.
فما بين الكتائب الفلسطينية كأكناف بيت المقدس، و بين سطوة داعش و مناطق سيطرة جبهة النصرة ، إضافة إلى اختراقات نظام الأسد الأمنية والإستخباراتية للعمل العسكري المسلح داخل مخيم اليرموك، معاناة و قصص مأساوية دفع ضريبتها اللاجئون، والوجود الفلسطيني بشكل عام .