لقد قتلوا أخي مصطفى في دمشق... هذا ما قاله، وأنا أقفُ مندهشة لهول المشهد والخبر!
31 / أيار / مايو / 2019
1/2
-
آشين العلي – مع العدالة
لم أكن أصدّق ما كانت ترويه لي “أم وليد” وهي تغصّ وتتلعثم حيناً، وتارةً أخرى تبكي، ساندةً رأسها إلى الجدار وهي تشهق، كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة!
ــ لقد قتلوا زوجي بطريقةٍ بشعة أمامي، بعد رحلة عذابٍ دامت أكثر من شهر ونصف، كان يتنقل عبرها بين الأفرع الأمنية في دمشق، حيث تم تسليمه من قبل عصابة تابعة لميليشيا حزب الله لعناصر النظام السوري.
تروي أم وليد قصتها بعد خروجها من المعتقل بطريقة عجيبة تكاد تكون أقرب إلى الخيال؛ حتى أنا ونساء الحي أخذنا نصغي إليها دون أن نصدر أيّ همس، كأننا الجدران ذاتها التي تحيط بها في الغرفة!
-
من “اليعربية” إلى لبنان:
تقول “أم وليد” وهي مُدرّسة مرحلة ابتدائية، وأم لثلاثة أطفال أكبرهم في سنّ العاشرة، لقد كنا نعيش حياة بسيطة في “تل كوجر _اليعربية”. زوجي كان يعمل في حقول “الرميلان” النفطية بوظيفة حارس، كمناوبة أسبوعية مع شخص آخر، يتبادلان الوظيفة كي يعود أحدهما إلى منزله لمدة سبعة أيام؛ أي أنه كان يبقى أسبوعاً في المنزل، وآخر في الحقل. وأنا، كنتُ أهتمُ بتربية أولادنا وبشؤونهم الدراسية، فضلاً عن حصص التدريس في مدرسة الناحية، والأعمال المنزلية واليدوية، وزراعة بعض من الخضروات أمام المنزل.
في عام 2011 حينما اندلعت الثورة السورية، كان الحراك داخل محافظة الحسكة في بداياته، أي أنه كان خجولاً بعض الشيء، مقارنةً بدرعا وحمص ودير الزور، وأرياف دمشق. ولقد كنا نستبشرُ خيراً في هذه الانتفاضة، حيث إننا كسائر الشعوب العربية، أصبحنا عبارة عن أرقام تشير إلينا مراكز الإحصاء العالمية، على أنّ هنالك شعباً يعيش في جغرافيا ما اسمها سورية!
في الشهر التاسع من عام 2011 وعلى وجه التحديد خلال الأيام الأخيرة من هذا الشهر، جاء زوجي “خالد” صباحاً إلى المنزل بهيئة يرثى لها؛ لقد كان وجهه مليئاً بالدماء، ولم تبقَ في فمه أسنان باستثناء الأضراس!
هرعتُ إليه صارخةً أسألُ عن حاله، فلم يبدِ لي أية إجابة! سوى أنه أخذ يشتم “حافظ الأسد” وابنه “بشار” والعالم، وأيضاً، أخذ يركلُ كل شيءٍ أمامه من أثاث البيت، لتصل حالة فورانه وغضبه إلى تحطيم الزجاج و”التلفاز” الذي ينقل خطابات الطاغية بشار وأكاذيب الإعلام السوري.
- لقد قتلوا أخي مصطفى في دمشق… هذا ما قاله، وأنا أقفُ مندهشة لهول المشهد والخبر!
بعد أن خمدت النيران في صدره، وإضافةً إلى مواساتي إياه، استفسرتُ عن سبب حاله، فقال إنه تشاجر مع جارنا وأبنائه المؤيدين للنظام السوري؛ _الشبيحة. وبعدها، نطقَ الجملة التي أوصلته إلى قبرٍ مجهول عقب ذلك:
- “سوف أنتقمُ من الشخص الذي كان سبباً في قتله…”
تضيف “أم وليد” وهي تبكي،” لم أستطع ردعه، أو حتى استعطافه بأبنائه الصغار؛ لقد كان عنيداً، علاوة على ذلك، في داخلي كنت أسرُّ لنفسي” نعم، إن من حقه الانتقام وتحقيق العدالة في بلدٍ لا تحكمه سوى قوانين الذئاب، عليه أن يستأصل هذا الوغد الذي تسببَ بمقتلِ أخيه.”
بعد أيام من خبر مقتل أخيه، ودّعنا “خالد”، وقد جمّع صبره كالبعير. بعينين تطفحان بالدمع توجّه إلى دمشق ومن ثم إلى لبنان، حيث يقطن ابن عمّه “ياسر” الذي يعمل هناك كعامل “مياومة” أي بنقل مواد البناء بأجرة يومية، شأنه شأن باقي السوريين الذين يبحثون عن قوتِ يومهم.
ظللتُ على تواصل معه لمدة عشرة أيام تقريباً حتى أصبح “رقم هاتفه” خارج الخدمة، فحاولتُ عبثاً أن أعرفَ خبراً عنه، لكن لا جدوى؛ بقيتُ وأولادي على هذه الحال لمدة شهر تقريباً، بين قلقٍ وانتظار… حتى أنني تواصلتُ مع عمال سوريين حصلتُ على أرقامهم من الأقارب في لبنان، يعملون مع ياسر ابن عمه، الذي كان بدوره أيضاً مختفياً مع زوجي، لكنهم قالوا لي بعد رجاء طويل إليهم” زوجكِ تم تسليمه إلى سورية من قبل ياسر وأصدقائه…”
- لا أعرف، لقد أصبحتُ أركلُ كل شيء أمامي عندما يسأل أطفالي عن أبيهم؛ كما كان يركل “خالد” أثاث المنزل حينما سمعَ بمقتلِ أخيه!
بعد أن تنهدتْ أم وليد ونهضت كي تجلس إلى جواري، قالت لي: “أريد أن أقول لكِ سرّاً، لكن عقب خروج النساء؛ وهنا كانت تقصد الجارات اللواتي كنّ حاضرات لمواساتها.
تقول أم وليد: أعرف أنني لم أحظَ في حياتي برجل آخر غير زوجي، لكنني في دمشق، داخل المعتقل، اغتصبني أربعة (رجال!)؛ كانوا ذئاباً، وعلاوة على أنهم حيوانات، كانوا يصفونني بالحيوانة؟!
كانت “أم وليد” كما تقول، تسمع بحقوق المرأة، ومنظمتي الأمم المتحدة والعفو الدولية، والدفاع عن المضطهدين والمظلومين والشعوب التي تُباد من قبل دكتاتوريات العالم بذريعة أنهم جماعات مسلحة أو إرهابيون! وتضيف، بعد ذكرها لهذه المنظمات والقوانين والحقوق” سوف أربّي أولادي على عادة التبوّل الإرادي فوق كل دساتير العالم والقوانين، وخاصةً “القانون الدولي” الزائف؛ كما وصفت ذلك بحرقة وألم!”
وعن رحلتها إلى لبنان من أجل أن ترى زوجها تحدثت “أم وليد” بشكلٍ مطوّل مع البكاء والصمت بين الحين والآخر؛” بعد أن قال لي العمال في لبنان أن زوجي تم تسليمه للنظام السوري من قبل “ياسر”، وردتني بعد يومين مكالمة هاتفية من رقم مجهول؛ لقد كان زوجي، خالد، فرحتُ كثيراً وتلعثمتُ وبكيت؛ وأخذتُ أتفحّص صوته كأنني أتفحّصه في كل مَسَام جسمه!
وعلى عجل، قال لي بعد أن سألني عن الأولاد وحالهم: _ أنا في مكان لا أعرفه داخل لبنان، وحولي أشخاص يطالبون بــ ….، وانقطع الاتصال!
بعد دقائق، عاد ليتواصل معي شخصٌ لا أعرفه، على ذات الرقم، وأخذ يهدد بقتل زوجي، وطلب مني جلب مبلغ “خمسين ألف دولار”، عن طريقي، أو يوصله شخصٌ من أقاربي كي يطلقوا سراح خالد.
- خمسون ألف دولار؟! من أين؟ فأنا إن بعتُ كليتيّ وقلبي الحزين، لن أحصل على هذا المبلغ كي أفدي زوجي به! كوننا نحن السوريين أسعارنا بخسة؛ ثمن الشاب أو الطفل رصاصة لا تتعدى تكلفة صناعتها دولاراً واحداً، أو قيمة ملمّع حذاء لــ بان كي مون” القلق دائماً!
وتكمل “أم وليد” عن محاولاتها الحثيثة والسعي لتأمين المبلغ عن طريق الأقارب أو إخوة زوجها، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، لا بل إنهم أخذوا يقرّعونها ويحملونها مسؤولية سفر “خالد” من القرية!
” لقد طرقتُ جميع الأبواب، متوسلةً استدانة جزء من المبلغ، حتى لو كان برهن المنزل والأرض الزراعية التي يمتلكها أهلي، إلا أنهم خذلوني بوقاحة. بقيت على هذه الحال وأنا على تواصل مع الخاطفين وهم يهددون كل يوم بطرق سادية لقتل زوجي! وأنا أتخيل نهايته على أيدي هؤلاء المجرمين. لقد كانوا لبنانيين، وإضافةً إلى لهجتهم اللبنانية التي تخرج عبرها الكلمات العنصرية تجاه السوريين، أخذوا يمجّدون ويقسمون بالــ”حسين وفاطمة” (والإمام الخميني) أنهم سوف يقتلونه إن لم أحقق مطلبهم.
بعد أن بعتُ كل مصاغ الذهب الذي كان لدي، أعطاني “خال والدتي” مبلغ تسعة آلاف دولار؛ وهكذا بقيت خمسة أيام بين المفاوضات مع الخاطفين، والبكاء والرجاء. اقتنعوا أخيراً بمبلغ عشرين ألف دولار… مع جملة قاسية قالها أحدُ الخاطفين عبر “ميكرفون” الجوال: ” زوجكِ لا يقدّر بثمن عندك، أما لدينا فسعره لا يتجاوز ضربة سكين”.
وعن الرحلة القصيرة إلى لبنان تقول أم وليد:
ــ بعد أن وضعتُ أولادي لدى بيت جدّهم بذريعة الذهاب إلى القامشلي، لزيارة زميلة لي مريضة، ومن ثم أعود لنرسل المبلغ مع أحد الأقارب من الذين يسافرون كل فترة إلى لبنان، توجهتُ بعد الظهيرة إلى منزلنا وأخذت المبلغ الذي أعطاني إياه خال والدتي، إضافة إلى المبلغ السوري الذي بعتُ فيه الذهب، واستبدلت المبلغ السوري لدى الصائغ نفسه إلى دولار، وقفلتُ راجعةً إلى البيت، تجهزتُ، وانطلقتُ إلى المجهول.
وصلتُ دمشق عند الفجر، تقريباً الساعة الخامسة، ومن ثم إلى كراجات “السومرية” بحسب ما أرشدني سائق التاكسي؛ حجزتُ في سيارة مع ثلاثة أشخاص لا أعرفهم، فالسيارات هناك تقلّ راكبين عشوائيين، فلم يكن باستطاعتي أن أنتظر السيارة التالية التي حجزتها عائلة مكونة من شاب وزوجته وطفلين.
بعد إجراءات التفتيش المليئة بالإهانة والذل، وصلتُ بيروت، فتواصلتُ على الفور من خلال “الواتس آب” مع الأشخاص أنفسهم، بعدما اشتريتُ بطاقة رقم لبناني جديدة؛ فردّ عليّ شخصٌ بعد عناء طويل من محاولات الاتصال والرسائل، وأبلغني أن أستقل سيارة أجرة وأتوجه إلى الضاحية الجنوبية ببيروت. ففعلت ذلك؛ وخلال الطريق، عاود الاتصال بي مرة أخرى ليخبرني أن أتوجه إلى منطقة “الرابية”!
-
لقد شعرتُ أن شيئاً يُحاكُ بمكر، أو أنني في ورطة مثل زوجي خالد..
نهاية الجزء الأول