#########

الضحايا

ناجٍ من المقصلة لمحمد برّو: حين يصبح الملح حلماً


أمضيت سنوات في سجن تدمر، ولعلي جاورت محمد برو دون أن أعرفه أو أراه. كنا بين النخبة التي أحسن السجانون معاملتها، لأننا ننتمي إلى اليسار، ولكننا كنا نسمع يوميا أصوات التعذيب والسادية المحضة والفجور. لذلك، سعدت بمعرفة أحد الناجين من ذاك الهول..

03 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2020


ناجٍ من المقصلة لمحمد برّو: حين يصبح الملح حلماً

 *مع العدالة | وائل السوّاح


عندما كان أتراب محمد برو من مراهقي مدينة حلب يتمشورون في شوارع العزيزية، كان محمد يقبع في مهجع بارد مرمي في أطراف الصحراء، أرضه إسمنتية، وتحته عازل وبطانية ومساحة ثلاثين سنتمتراً. وحين كان الأتراب يحلمون بمهاتفة فتاة أو شراء كتاب أو حضور فيلم لشمس البارودي، كان محمد يحلم بيوم واحد من دون تعذيب فاجر شرير، وكان فؤاده يطير شعاعاً إذا ما علقت بنافذة زنزانته جريدة قديمة. حكم عليه القاضي بالإعدام، ولكن الحاكم بأمره في المنطقة الوسطى اكتشف أنه لم يبلغ الثامنة عشرة بعد، فطلب من القاضي إعادة محاكمته فحكم بعشر سنوات. وعاد الفتى إلى رفاقه مكسور الخاطر، فواساه صحبه بدل أن يهنئوه، ذاك لأن الإعدام كان أرحم له من حياة في الجحيم، يتمّ تعذيبه فيه سبعة أيام في الأسبوع 365 يوماً في السنة مدة ثماني سنوات، لن يكون له من رفيق فيها سوى أشباح مسلولين نحيلين ناتئة عظامهم من الجوع والوجع والخوف والوحشة، وسوى صوت مكبس معمل قرميد مجاور لزنزانته، سيذكّره في كلّ صباح بأنه ما زال في عالم الرعب والألم والموت الذي يخطف رفاقه دون أن يصيبه هو بالرحمة.

 

تعرّفت على محمد برّو في مطلع الألفية، في مقهى الروضة بدمشق، كان شابا وسيما فارع الطويل واسع الابتسامة، سرعان ما تشعر معه بالألفة والمودة. عرّفنا صديق مشترك واحدنا على الآخر، باعتبارنا زملاء سابقين، فعرفت أنه كان معتقلا، وسأعرف بسرعة أنه اعتقل بتهمة قراءة جريدة النذير، وأنه أمضى سنوات في تدمر، ولأنني أعرف ما تدمر، استغربت كيف أنه يضحك ويمرح ويرمي النكات كيفما سار وأينما حلّ.



تذكّرت ذات يوم صيفي، حين حزمنا أشياءنا في صرر وأكياس بلاستيكية، وجلسنا فوقها. رحت أتأمل الوجوه من حولي: صفراء، كالحة، أسقَمَها الترقّب والخوف. عيون بلا معالم، بلا روح، تحدّق في اللامكان، أو في الوجوه الأخرى. ويستعير الرفاق ابتسامات من الزمن الماضي فيرتدونها على وجوههم، ونغضّ الطرف لكيلا نظهر خوفنا القاتل في داخلنا.  وحين ركبنا الحافلة معصوبي الأعين، مكبلين، كل اثنين بقيد واحد، وراح بعضنا يتهامس بفحيح لا يكاد يسمع، أخذ العسكر المرافقون لنا يزجروننا بكلمات نابية وتهديدات: ” ولا يا عرصة لفرجيك أنت وإياه. بس لنوصل.” ولم يكن في سخريتهم ما يطمئن. وأخذ الطريق يمتدّ ويمتدّ حتى بدا بلا نهاية والحافلة تهتز وتتمايل فيميل بعضنا على بعض، ويلوح في ذهننا شبح تدمر – تدمر التي ما بقي في ذاكرة السوريين من تاريخها وعبقها وسحرها وأعمدتها ومدرجاتها ومقابرها سوى تلك المقذرة التي ابتناها الفرنسيون وأحسن السوريون استخدامها كمعقل يكفي ذكر اسمه لكي يرمي الرعب في قلوب أعز الرجال. وبدلا من زنوبيا وقصير والتاريخ العربي الذي قاوم الرومان، يروي السوريون قصصا عن السواليل والمهاجع والزنازين والجوع والبرد والذلّ والحرّ والخوف والقهر. أليس غريبا أن أجمل المناطق في سورية ترمز إلى سجون القهر والرعب.

أمضيت سنوات في سجن تدمر، ولعلي جاورت محمد برو دون أن أعرفه أو أراه. كنا بين النخبة التي أحسن السجانون معاملتها، لأننا ننتمي إلى اليسار، ولكننا كنا نسمع يوميا أصوات التعذيب والسادية المحضة والفجور. لذلك، سعدت بمعرفة أحد الناجين من ذاك الهول الذي ما زال قادرا على الابتسام وإشاعة جو الحبور.


ولكن محمد برو لم يكن قادرا فقط على ذلك، بل كرّس نفسه لرواية الرعب الذي عاشه، ولم يكن أبدا يهدف إلى إظهار بطولة فردية، (والحق أنه نادرا ما تحدث عن نفسه، بل كان يروي ما عاناه غيره)، بل كان يهدف، كما قال في مقدمة كتابه إلى ألا يُقتل القتيل مرتين: مرة حين ذبحته مدية السجان وأخرى حين نذبحه بمبضع النسيان. كان محمد يحكي الحكاية ويعيدها ولا يتعب من روايتها لا يتعب مستمعوه منها، لأن الإثنين كانا يبقيان الضحايا أحياء بيننا، “تحدثنا حكاياتهم دائما أنهم لم يُنصفوا، وأن العدالة لم تأخذ مجراها.”

ولكن الذي فَجَأني حين قرأت كتاب محمد برو الأخير “ناج من المقصلة: ثمانية أعوام في سجن تدمر”، كان حجم الخوف والوجع الذي أحسسته وأنا أسارع في القراءة لكي انتهي من التعذيب. وسبب المفاجأة أنني حين أعرف معظم فصول الكتاب، فقد سمعت محمدا يرويها لي ولغيري كجزء من مهمته التي ندب نفسه لها، في الجلسات الخاصة والندوات والمحاضرات التي ألقاها. ومع ذلك، كان لقراءتها مكتوبة وقع أشدّ إيلاما. وقد يكون السرّ أن محمدا كان يرويها بابتسامة المستهين، فكنا نستمع إليها كطرفة دون أن نشعر بالألم الفج في داخلها.

 

ولكن حين تقرأ الرواية نفسها مكتوبة بحبر نافر فاجر قاتل وسادي، تحسّ وقتها بالرعب نفسه الذي شعر به محمد ورفاقه، وتشعر بالكابل يلمّ بجوانبك كما ألمّ بجوانبهم، وتشعر بالشعور الماحق الذي انتابهم حين فتح عليهم الباب في الليل (وهو لا يفتح عادة) فارتموا فوق بعضهم بعضا حتى شكلوا هرما بشريا من الألم والرعب، وهم يعتقدون أنهم سيبادون كما أبيد من قبلهم يوم حاول أحدهم اغتيال حافظ الأسد.  ولكنك أيضا تشعر بنفس الفرح الذي شعروا به حين علقت بنافذة السقف ذات يوم عاصف صفحة من جريدة، فشكل السجناء هرما بشريا اعتلاه أصغرهم سنا وحجما، فنتش الجريدة، وعاد بها ظافرا. تداول الجريدة كلّ من في المهجع، وقرأوها مرة ومرة ومرة، حتى تعاورها البلى.  ولكن حتى هذه الفرحة لا تأتي بدون الكآبة، فالجريدة التي حصل عليها الشباب في منتصف العام 1982، كانت تعود إلى 20 كانون الثاني/يناير 1981، ومنها سيعرف المعتقلون أن رونالد ريغن بات رئيس أمريكا، وسيدرون كم لبثوا في ذلك الكهف.



ولا بدّ أن أحذّرك: إن كنت تبحث عن كتاب مسلّ لتزجية الوقت، فهذا الكتاب ليس لك. وإن كنت تريد كتابا عن الفروسية أو الحب أو الوطن أو التاريخ، فهذا الكتاب ليس لك أيضا. ولكن إن كنت تبحث عن الحقيقة الموجعة، عليك به، فهو موجع حتى الصدق وصادق حتى الوجع.

ستعرف في كتاب “ناج من المقصلة” كيف يحوّلون الإنسان إلى وحش، في قصة السجان “هوشابا” الذي كان ينزعج في البداية من الضرب الخفيف، ثم حوله رفاقه إلى قاتل سفاح. ولكننا سنتعرف أيضا على سجان آخر، أنِف التعذيب والسادية. إنه أحمد السباعي، الذي كان يهمس للمعتقلين بصوت منخفض “بيفرجها الله يا شباب” فعذّبه مدير السجن حت مات بين يدي جلاديه.  وفي مقابل أحمد السباعي، كان العريف فواز الذي انتقم من أحد زملاء الدراسة الذي كان يدرس معه وينام عنده، فتحسن أم زميله وفادته. حين رأى العريف فواز صديقه عماد حاكمي، كان واضحا أنه سيقتله، لأنه فشل فيما توفق صاحبه.

وستتعرف أيضا على الرجال النبلاء المثقفين الذين عمر بهم السجن، مثل الدكتور زاهد داخل، الذي قتله زميله في كلية الطب، وقد غدا زاهد سجينا وزميله طبيب السجن؛ والبطل الشركسي يشار شوقا الذي أوقف وإثنين من رفاقه الزحف الإسرائيلي سنة 1967 مدة أربع ساعات بعد أن سلّم الأسد القنيطرة للإسرائيليين.


“صورة لــ رفعت الأسد ومصطفى طلاس وحافظ الأسد” – أنترنت

وأخيرا ستبتسم وأنت تتابع العرض المسرحي الأول لهؤلاء الشباب المرعوبين، الذين كانوا يسلون أنفسهم بين جولة التعذيب وأختها، فيمثلون أو يتعلمون العربية او الإنكليزية أو التاريخ، لكي يستطيعوا الصمود، ليكونوا ساعة خروجهم مثل محمد برو: أصحاء وأسوياء وعاقلين.


 صورة لــ “فيصل غانم – جزّار سجن تدمر” – أنترنت

بلغة راقية كتب محمد برو تجربته الرهيبة. وهو لن يحكي فقط حكايات أصحابه وآلامهم، بل سيلامس بعمق معرفي خفايا الحبْس وأسرار الصمود ونوازع الموت والحب والأمل اليأس، فخصّص فصلا كاملا عن البحث عن المعنى لاعتقالهم وتعذيبهم، وفصلا عن الضحك. بيد أن أكثر ما يمكن أن يؤلم القارئ، فيما خلا الدم والقتل والتعذيب، هو لحظة دخول الملح لأول مرة إلى المهجع. فلنقرأ هذا المشهد كما وصفه محمد في كتابه:

” لكن المفاجأة الكبيرة، التي ندتْ لها صيحات مَن رأوها أولاً، هي كيسٌ ناصعُ البياض صغيرُ الحجم من الملح، ذلك الرخيص العزيز، الذي غاب عنا ثلاث سنوات، لم نحظَ بذرّةٍ منه. صمتَ الجميع وكفَّ عن الاهتمام بأيّ شيءٍ يشغله، وتسمّرَت العيون بهذا المسحوق الأبيض، ودارَ حديثٌ عاجلٌ بين لجنة التوزيع ومسؤول الطعام وأمير المهجع ورئيسه، واستقرّ الرأي أن يُوزّع بالتساوي ومن فوره على الجميع، وسرعان ما تحلّقَت المجموعات، كل مجموعةٍ من ستة أفراد، فكنا اثنين وثلاثين مجموعةً تقريباً، وكان مسؤول الطعام “وائل” قد كال بإحدى ملاعق البلاستيك محتويات الكيس الصغير، وعرفَ كم سيكون حجم ملعقة الملح التي ستحصل عليها كل مجموعة.


تحلقت المجموعات، ووَضعتْ كلُّ مجموعة كأسَها البلاستيكي الكبير، ليمرّ صديقنا “وائل” فيسكب لكل مجموعةٍ ملعقةً كبيرةً من الملح، تقارب خمساً وعشرين غراماً على وجه التقريب. وحين انتهى من التوزيع للجميع، أعطى الإذن ببدء تناول الملح، ستَملأ كلّ مجموعةٍ كأسها بالماء، ليكون لديهم ماءٌ مالحٌ، يغمسون به ما بحوزتهم من خبزٍ، ويتذوّقون طعم الملح بعد انقطاعه ثلاث سنين. وسيتبقى لديه بضع غراماتٍ، ستكون في زجاجةٍ بلاستيكية، للغرغرة حين يلتهب بلعومُ أحدهم، أو كمطهّرٍ للجروح، وما أكثرها!”