#########

الضحايا

هدى الجباعي .. المرأة التي قهرت الظلم بالعلم


ظل الجميع محاصراً حتى المساء، حيث وصلت الفزعات من باقي القرى، واستطاعت العائلة الهروب من الشباك الخلفي للمنزل بعد خلعه، بمساعدة من شباب قريتي الرشيدة وبوسان الذين هبوا لنجدة إخوتهم

23 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018


هدى الجباعي .. المرأة التي قهرت الظلم بالعلم

 

 

مازن الجبلي 

 

كان الرصاص المتفجر يخرق الجدران الملونة بالمحبة في منزل السيدة “هدى يوسف الجباعي” صباح الخامس والعشرين من تموز، معلناً عن بداية معركة من نوع خاص، خطط لها تنظيم “داعش” ومشغليه كثيراً ليذل بها جبل العرب عن طريق أسر أكبر عدد من النساء والأطفال، وقتل الرجال كما كان يحصل بباقي مناطق سوريا.

منعت العاملة في التربية، والطالبة التي حصلت على الشهادة الثانوية العامة بعد بلوغها سن 44، منعت زوجها من الخروج إلى سطح المنزل ببندقيته التشيكية التي تسلمها بحكم وظيفته، لقناعتها أنه سوف يموت هدراً، وكان عقلها الباطني يخبرها أنهم قادمون لأسرهم فقط، ولهذا جمعت أطفالها وجارتها التي هربت إليهم للنجاة بحياتها في غرفة صغيرة. بدأ الرصاص يئز في كل الأماكن، وأحال الزجاج والجدران والأثاث إلى فتات. أغلق وحيدها الباب من الداخل بالحديد، وساد القلق والترقب لساعات طويلة، حتى كادت تلك الأوقات أن تشل حركة الجارة التي انخفض ضغطها وأدى إلى فقدانها الوعي، حيث قامت “هدى” بالتسلل نحو المطبخ تحت الرصاص، وجلبت عدة المتة والطعام وزحفت نحو الغرفة لتصنع لأولادها وضيفتها جواً من الأمان وتعيد قليلاً من السكينة إلى القلوب على الرغم من فورة الدم التي كانت تعتصر قلب زوجها الذي فقد كل أشكال التواصل مع أهله بسبب موقع البيت البعيد عن وسط قرية “الشبكي” في ريف السويداء الشرقي.

ظل الجميع محاصراً حتى المساء، حيث وصلت الفزعات من باقي القرى، واستطاعت العائلة الهروب من الشباك الخلفي للمنزل بعد خلعه، بمساعدة من شباب قريتي الرشيدة وبوسان الذين هبوا لنجدة إخوتهم، حيث وضعوا العائلة في سيارة خاصة سارت بهم تحت الرصاص نحو مدينة “شهبا”، وبقي رب الأسرة “عماد الجباعي” هناك كي يأخذ بثأر من قتل بدم بارد من أهله.

كانت الفاجعة التي ألمت بهدى كبيرة جداً، وعلمت بموت والدها وعمها وعدد كبير من أبناء عمومتها بعد ساعات، ولكنها أدركت أن الحزن لا طائل منه، ويجب أن تكون أقوى من كل هذا الموت، خاصة بعد أن باتت مسؤولة عن عائلتها بسبب غياب الزوج الذي بقي في القرية للحراسة.

بات حصولها على الثانوية العامة من أكبر مسراتها في الحياة، خاصة بعد تجربة زوجية باءت بالفشل الذريع، وأدت في بداياتها إلى حرمانها من الدراسة، وتعذيبها بشكل لا يوصف، وانتهت بمنعها من رؤية طفليها الصغيرين، فكان زواجها الثاني من ابن عمها عاملاً لكي تعيد ثقتها بنفسها، وتنتصر لأمومتها بأولادها الجدد، وتحقق ذاتها بحصولها على الثانوية العامة في الفرع الأدبي رغم أنها لم تدرس إلا عشرة أيام فقط، وكانت اللغات الأجنبية عقاباً قاسياً تجاوزته بحنكة وعزم كبيرين.

بعد أحداث الأربعاء الأسود (كما بات أهالي جبل العرب يطلقون عليه) بأربعة أيام، كان موعد تقديم امتحانات التكميلي للشهادة الثانوية، ورغم السواد والحداد، ذهبت إلى الامتحان بتشجيع من زوجها، وها هي اليوم تخطط لكي تدخل كلية الآداب من باب تحقيق الحلم، وصناعة الذات.

هدى التي شهدت مآس كثيرة في حياتها القصيرة، تترقب بتفاؤل كبيرين أن تنال ابنتها الكبيرة مجد الشهادة الثانوية، وتدخل كلية الفنون، وأن يحقق ابنها المبدع أمجد أحلامه بدخول كلية الميكانيك، ويبرز طاقاته الكامنة في الاختراع، ويحقق ما لم تستطع تحقيقه.

 

المادة من المصدر 

هنا