في فرع فلسطين لا يوجد شبابيك أبداً، هو عبارة عن صندوق مغلق وله باب واحد فقط، ويعاني المعتقلون داخله من ظروف صحية سيئة جداً، حيث رائحة العفونة منتشرة بشكل كبير، ورائحة الموت ورائحة الجروح المتعفنة
11 / أيار / مايو / 2020
*مع العدالة | ضحايا
السيدة “هنادي عتمة” من سكان درعا البلد تعمل ممرضة في مشفى الأطفال بدرعا البلد.
تقول السيدة “عتمة” حول عملها في الحقل الطبي والإغاثي خلال بداية الثورة السورية التي انطلقت شرارتها من محافظة درعا في جنوب سوريا:
في بداية الثورة في 2011 قمت بمواكبة الحراك وخرجت في أول مظاهرة، وعندما بدأ القصف واستهداف المتظاهرين بالرصاص الحي باشرنا وكنا من المؤسسين الأوائل أنا وعدد من الزملاء ( الأطباء والمسعفين والممرضين) بافتتاح أول نقطة إسعافية في جامع العمري الكبير .
أثناء مروري على أحد الحواجز التابعة للنظام، وهو حاجز المحكمة الذي يفصل بين درعا البلد ودرعا المحطة، لجلب لقاحات طبية بعد استلامها في المنطقة المحررة، حيث كنت منسقة عامة ما بين مكتب منظمة الأمم المتحدة التابع لدرعا المحطة ومابين الداخل في درعا البلد والمخيم، أوقفني الحاجز ووضع هويتي جانباً وسألني “أنت هنادي؟” أجبت “نعم”؛ عندها، تفاجأت بوجود سيارة واقفة، وضعوني فيها بطريقة غير أخلاقية،ومن ثم تم عصب عينيّ وتكبيل يدي، ووضعوا رأسي ما بين كرسيين، وأخذوني إلى فرع “حميد الطاهر” في منطقة الصحاري ضمن درعا المحطة، وبقيت هناك أربعة أيام دون تحقيق، فقط تعرضت للكثير من الإهانات.
- وتضيف السيدة “عتمة” حول المرحلة الثانية بعد الاعتقال بأيام:
نقلوني إلى مكان آخر وقت الفجر في نفس منطقة الصحاري، وغطوني ببطانية وأغلقوا عينيّ، لكن، لا أعرف تحديداً أين هي هذه المنطقة. أتذكر أنهم أنزلوني درجاً طويلاً بعد وصولنا.
في اليوم التالي علمت أنني موجودة في حمّام، وبقيت في هذه المنفردة التي هي عبارة عن حمام شهرين ونصف، تعرضت للكثير من التعذيب النفسي والجسدي، بالكلام المسيء والضرب والشبح، وبعد انتهاء التحقيق معي هناك نقلوني خلال الليل إلى فرع الأمن العسكري وبقيت هناك إيداع 21 يوماً وتم التحقيق معي مرتين ووجهت لي تهم عديدة .
ثم حولوني إلى فرع فلسطين، وعند دخولي من البوابة رأيت عبارة مكتوبة ” الداخل مفقود والخارج مولود“؛ حين قرأت هذه العبارة، توقعت أن أمري قد انتهى، وأدركت أنني أصبحت في عداد المعتقلين الذين كنت أسمع عنهم.
وقد شاهدت المعتقلين الرجال والشبان خلال خروجهم للخضوع لتصوير شعاعي في سيارة تأتي للفرع، كانوا قد تعرضوا لتعذيب شديد ترك أثاره على أشكالهم بشكل كبير ومؤسف.
وكان المعتقلون كأشباه البشر يساعدون بعضهم بعضاً كي يستطيعوا المشي، وأحد المعتقلين كان يرتدي كيس بلاستيك بدلاً من اللباس الداخلي!
كنا 62 شاباً من درعا وأنا وصبية من منطقة طفس؛ وقد كبلو أيدينا أنا والفتاة بشريط الحذاء العسكري طوال الطريق من درعا إلى سجن فلسطين فوصلنا وأيدينا متورمة.
- وعن الاستجواب في جلسات التحقيق والتعذيب لأشخاص معتقلين تضيف السيدة “عتمة”:
عندما رأيت الشاب يقع على الأرض جاء أحد الضباط وركله على فمه ليرى إن كان على قيد الحياة أو أنه ميت، لكن الشاب كان قد توفي؛ وقتها، بعد هذا المشهد توقعت أنني سأموت مثله في يوم من الأيام.
قاموا باستجوابي وسألوني عن التهمة الموجهة إلي، وعندما عرفوا تهمتي أنني أعمل في مشفى ميداني وقمت بمعالجة مصابين، وضعوني في مهجع يحتوي على أربعين معتقلة تقريباً، وتفاجأت أن هناك نساء مسنات بين الموجودات بالإضافة إلى فتيات صغيرات في السن.
- فهم حتى الأطفال والنساء هم يعتبرونهم إرهابيين يحاربون ضد الجيش وضد الدولة.
المبنى يحيطه ممرٌ طويل، وخلال مروري عبره كان هناك شبان يتعرضون للتعذيب، ورأيت أن العناصر يتناوبون على ضرب المعتقلين .
في فرع فلسطين لا يوجد شبابيك أبداً، هو عبارة عن صندوق مغلق وله باب واحد فقط، ويعاني المعتقلون داخله من ظروف صحية سيئة جداً، حيث رائحة العفونة منتشرة بشكل كبير، ورائحة الموت ورائحة الجروح المتعفنة.
مكان الخانة في الهوية هو تهمة بحد ذاته بالنسبة للنظام؛ فبعد 35 يوماً من التحقيق معي، أول تهمة هي دعم الارهاب وترويج الارهاب – مشفى ميداني تهريب أدوية ومعالجة مصابين، هذه كلها تهم جاهزة.
كانو يقولون لي ادخلي إلى هذه الغرفة مع ملاحظة أن الممر الخاص للتحقيق يحتوي كاميرات مراقبة أما الغرفة لا توجد فيها كاميرات؛ وكنت قد علمت من البنات الموجودات قبلي في الفرع هذا الأمر، فتوقعت حدوث الأسوأ لي داخل الغرفة.
بالفعل تم شبحي في الغرفة بعد أن كبلوا يديّ بسلاسل حديدية وبقيت على هذه الحال لمدة ساعتين، بدأت خلالهما بالدعاء، فعمد العنصر إلى ضربي وسكب فوقي مياه باردة.. ففقدت الوعي، إلى أن استيقظت لأجد نفسي على الأرض ثم سكبوا علي الماء مرة أخرى إلى أن صحوت.
وفي إحدى المرات سألت الضابط خلال التحقيق كيف تستطيع معاملتنا بهذه الطريقة ونحن فتيات سوريات؟
قال لي “أنت ضد الدولة وضد البلد وكنتِ من الناس الذين خرجوا مظاهرات وبسببكم مات الكثير من الجنود.”
بقيت في فرع فلسطين تقريباً أربعة أشهر ونصف وفي آخر فترة استدعاني فرع الأمن السياسي قسم الدراسات لمدة ثلاثة ساعات.
حقق معي الضابط عن موضوع تعدد الأحزاب لأنني في السابق كنت قد كتبت منشور على “الفيس بوك” عن تعدد الأحزاب، فبتصورهم أنا كنت أدعي لحزب ما وقام بتسمية حزب التحرير أمامي ولم أكن حينها أعلم عنه شيئاً .
ثم أعادوني إلى فرع فلسطين وهناك أصبت بجرثومة أدت إلى وفاة بعض النساء في المعتقل؛ فالشخص الذي كان يموت هناك يضعونه في كيس ورقم جثة وينقلونه الى المقابر الجماعية في منطقة “نجها”.
- تكمل السيدة “عتمة” قصة اعتقالها وانتقالها من سجن إلى فرع حتى إخلاء سبيلها قائلة:
نقلوني إلى كفرسوسة وبقيت هناك ثلاثة أيام، ثم تحولت إلى سجن عدرا المركزي في قسم النساء في ريف مشق. كان رئيس السجن هناك العقيد عدنان سليمان، هو من طرطوس، وكان سياسي مراوغ جداً.. ولا جديد بما أنه ضابط عند النظام، كانوا يبتزون الفتيات ويحتالون عليهن وعلى أهاليهن بكل الطرق.
مثلاً حتى أنا أرسل لي خبراً إذا أردت أن أخرج علي دفع مبلغ مالي معيّن، وهذه الأشياء كانت تحدث برعاية الأمن والنظام. وكان العقيد سليمان يبتز بعض الفتيات للعمل في الدعارة ضمن السجن مع العناصر والضباط.
داخل المعتقل كانت تدخل فتيات شبيحات يقوم بزرعهن بيننا ليعرف إن تحدثنا في السياسة أو ضد النظام.. وكان كل شيء يدوّن في تقارير ويرسل معنا إلى القضاء، حيث عرضت قضيتي على القاضي “محمد جميل حربة” وهو العدو اللدود لأهل درعا، أي إنسان من درعا يعرض على هذا القاضي يحكم عليه بالتوقيف فوراً.
من الأسئلة التي وجهها إلي “أنت من درعا البلد؟” فأجبته ” أنا من سكان درعا البلد. فبدأ يسألني لماذا كنت تعملين ضد الدولة وأسئلة من هذا القبيل، ولم يعطني مجالاً لأجيب أو أن أدافع عن نفسي .
المحامي طبعا كان يمتنع عن الدخول مع موقوف لأن ذلك غير مسموح له، فهو ممنوع أن يتكلم أو يتلفّظ بأي كلمة أمام القضاء!
فأنا طلبت التحدث، فقال لي القاضي ممنوع أن تتكلمي، فأصريت على التحدث وشرحت له الوضع بأنه كان هناك حصار وجرحى وكان يجب إسعافهم؛ فقال لي : ورد في ملفك أنك كنت تقيمين في المزة في حي الأكرمين وشاءت الأقدار أن بنت درعا التي كانت تعيش برفاهية تحاكم الآن على أرض المزة !
فقلت له لي الشرف لأن هذه بلدنا، لماذا تفعلون هذا بنا نحن سوريات، فقال لي لأنكن سوريات ومن درعا البلد ستحكمون “إيقاف”.
وبعدما خرجت من المحكمة علمت أن حكمي كان جنايات، فبقيت في عدرا عامين وثمانية أشهر، ومدة اعتقالي كلها كانت حوالي ثلاث سنوات. اعتقلت في شهر آذار 2014 وخرجت في الشهر الرابع عام 2017.
حضرت 8 جلسات عند القاضي “رضا موسى” قاضي الإرهاب الأول؛ كنا نجلس أنا والفتيات في سجن عدرا تحت الشبك ونرى السماء من خلاله ونسأل أنفسنا متى سنرى السماء واسعة لقد سئمنا من رؤيتها مربعة على شكل الشبك؟!