#########

الضحايا

أجساد غضة خلف القضبان


“مرة وضعوه في قفص للأرانب وأغلقوا الباب عليه، وأخرى في مصعد مهجور، كما وصل بهم الأمر لإطلاق النار عليه من مسدس وهمي. كل ذلك كان يتم على مرأى من معتقلي عدرا العمالية وهم شهود على كل ما حدث”

10 / كانون الثاني / يناير / 2019


أجساد غضة خلف القضبان

 

 

نينار خليفة | نور دالاتي / المصدر: عنب بلدي 

 

 

 بجريرة آبائهم.. أطفال يذوقون مرارة الاعتقال

لم يكن محمد يتجاوز ستة أعوام من عمره حين اختبر أقسى ما تعرّض له الكبار في الحرب، تعذيبٌ جسديّ ومِحَن نفسية حادة، واحتجاز لمدة أربعة أعوام ونيّف على يد فصيلين في الغوطة الشرقية، خرج منها صبيًا محملًا بالصدمات النفسيّة.

“كان يعود إليّ منتفخ الوجه مزرقًا، بسبب عشرات الصفعات التي يتعرض لها دفعة واحدة، وكانوا يعصبون عينيه ويوقفونه على حائط ليضربوه بقارورات زجاجية على قدميه العاريتين”.

هكذا تصف والدة محمد لعنب بلدي طرق التعذيب التي تعرض لها ابنها في أثناء اعتقال العائلة كاملة لدى فصيلي “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” و”فيلق الرحمن”، لفترة تجاوزت الأربع سنوات.

وكانت أم محمد قد اعتقلت وهي حامل في الشهر الأول بتوأم مع زوجها وابنها، بتهمة “التعامل مع النظام” دون أن يتم أخذ توقيعهم على أي ضبط، أو يُسمح لهم بتوكيل محامٍ يدافع عنهم، كما لم يتم عرضهم على أي جهة قضائية، وعندما كانوا يسألون عن سبب توقيفهم كانت الإجابة غير مفهومة وغير مقنعة: “إنتو خاص لأبو سليمان طفور!”.

خسرت السيدة أحد جنينيها وحُرمت رضيعتها من الرضاعة في عمر تسعة أشهر، لكن الأقسى من ذلك أنها كانت تُجبر على رؤية ابنها وهو يتعرض للتعذيب، عن ذلك تقول لعنب بلدي “كانوا يعذبون ابني بطرق وحشية، وللإمعان في تعذيبي كانوا يضعونني في غرفة زجاجية لأراه وهو يُعذب، كما كانوا يُسمعون ابني صوتي عندما يتم تعذيبي”.

وتتابع، “مرة وضعوه في قفص للأرانب وأغلقوا الباب عليه، وأخرى في مصعد مهجور، كما وصل بهم الأمر لإطلاق النار عليه من مسدس وهمي. كل ذلك كان يتم على مرأى من معتقلي عدرا العمالية وهم شهود على كل ما حدث”.

وعلى الرغم من شناعة الحادثة، لم يبتكر الفصيلان المتهمان بها شيئًا جديدًا، بل أضافا وسائل تعذيب لتلك التي يمارسها النظام بحق الأطفال المعتقلين على خلفية تهم أمنية موجهة لآبائهم.

عمر، من الغوطة الشرقية، اعتُقل مع زوجته وطفليه في سجون النظام السوري لمدة سنة وشهرين، أُبعد فيها الطفلان عن والديهما، وعُزلا في دار للأيتام، وكانت الكبرى بعمر سنة وشهرين والأصغر رضيع لم يتجاوز أربعين يومًا.

يقول عمر، الذي طلب عدم نشر اسمه الكامل، لعنب بلدي، “أخذونا إلى فرع المنطقة التابع لشعبة المخابرات العسكرية والمعروف باسم (الفرع 227). كانت تهمتي المشاركة في العمل الثوري، أما زوجتي فقد تم احتجازها دون توجيه أي تهمة لها، وأخبروها بأنهم سيبقونها لديهم ليتم التبادل عليها”.

ويتابع، “حرموا طفلي من الرضاعة، وطوال فترة اعتقالنا لم نكن نعرف أي شيء عن طفلينا أو ما حلّ بهما وعندما كنا نسأل عنهما لم نكن نتلقى أي إجابات”.

 

 

كل الأطراف احتجزت أطفالًا

“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثقت ما لا يقل عن 4486 طفلًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد الأطراف الرئيسة الفاعلة في سوريا منذ آذار 2011 حتى 31 من كانون الأول 2018.

النظام والفصائل “المتشددة” لم تكن الوحيدة التي مارست تلك الانتهاكات بحق الأطفال، إذ لم تبرئ جهات حقوقية عدة، ومن بينها منظمة “أورنمو للعدالة وحقوق الإنسان” في تقرير لها بعنوان “أطفال خارج الذاكرة”، و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أغلب أطراف الصراع من ممارسة تلك الانتهاكات.

ووفق إحصائية للشبكة، فإن قوات النظام السوري مسؤولة عن اعتقال 3168 طفلًا، 2747 منهم ذكور و421 إناث، بينما فصائل في المعارضة المسلحة كانت مسؤولة عن احتجاز 309 أطفال، 244 من الذكور، و65 من الإناث.

أما قوات “الإدارة الذاتية” (بشكل رئيس قوات حزب الاتحاد الديمقراطي) فهي مسؤولة عن احتجاز 592 طفلًا، 289 من الذكور و303 من الإناث، بينما تحتجز “التنظيمات الإسلامية المتشددة 417 طفلًا، بينهم 393 من الذكور و24 من الإناث.

 

 

عمو هون حرقني!

وعلى اعتبار أن الأطفال هم من الفئات الأكثر ضعفًا، فإن مثل هذه الممارسات تترك لديهم آثارًا صحية ونفسية شديدة الوطأة، قد ترافق الطفل إلى مراحل متقدمة من حياته.

محمد، الذي كان معتقلًا في الغوطة الشرقية، يعاني من حالة نفسية تصفها والدته بـ “المتأزمة”، فتقول لعنب بلدي إنه “يتكلم مع الجدران”، أما ابنتها التي ولدت داخل مكان الاحتجاز، فهي ذات سلوك “عدواني”.

ويخضع الطفلان اليوم للعلاج النفسي في منظمة “أوسوم” الطبية، إلى جانب والدتهما التي لا تزال تُعالج من الأمراض النفسية والجسدية التي أصابتها جراء الاعتقال.

الطبيب محمد ساطو، المشرف الطبي لوحدة سرمدا للأمراض النفسية والعقلية في منظمة “أوسوم”، يرى أن مثل هذه الظروف التي يتعرض لها الأطفال يمكن أن تسبب “اضطراب ما بعد الصدمة”، الذي ترتبط به أعراض مثل “القلق والاكتئاب والغضب والأرق والشكاوى التي ليس لها تفسير طبي”، أما لدى المراهقين “فيسود سلوك المخاطرة، وتشيع مشكلات استخدام الكحول والمخدرات”.

ويضيف الطبيب، “الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشدة ما بعد الصدمة كثيرًا ما يشعرون بأنهم في خطر ويشعرون بتوتر شديد ويبقون دائما على حذر من الخطر”، وهو ما ينطبق على حالة ابنة عمر، التي تم إيداعها في دار أيتام إثر اعتقال والديها لدى النظام.

يصف عمر الوضع النفسي لطفلته بعد الإفراج عنه وعن زوجته، ولم شمل العائلة فيقول، “عندما خرجت طفلتي من الميتم كانت تعاني من حرق بعقب سيجارة في قدمها، وكانت تقول (عمو هون حرقني)، فكانت تخاف من الرجال، وبقيت لمدة ستة أشهر تمتنع عن الاقتراب مني أو من أي أحد من الرجال”.

ولا تزال الطفلة حتى اليوم تعاني من آثار نفسية مما تعرضت له، كالشعور بالخوف والانزواء والعزلة، وذلك رغم مرور أكثر من أربع سنوات على الحادثة، بحسب ما أكده والدها.

وعن وضع طفله الرضيع، يقول عمر إنه وبعد خروجه تعرف عليه بسبب شبهه الكبير به، ولولا ذلك لما تأكد أنه ابنه، ونظرًا لصغر سنه عند أخذه إلى الميتم وعند الإفراج عن والديه كان التعامل معه أسهل من التعامل مع أخته، والآثار النفسية عليه أخف وطأة.

 

“خارج الذاكرة”..
أطفال مغيّبون في الأفرع والمياتم

خلف قضبان حديدية دُفنت أحلام آلاف الأطفال السوريين على مدى ثمانية أعوام، دون مبررات منطقية، ودون مراعاة شروط الاحتجاز التي تحافظ على جزء من كرامة الطفل، وتراعي جسده الهش.

رغم ذلك، لم تحظَ قضية الأطفال المعتقلين في سوريا بنقاش كبير سواء على المستوى الإعلامي أو الحقوقي، وهو ما دفع منظمة “أورنمو للعدالة وحقوق الإنسان” في أيار من العام الماضي، إلى إصدار تقرير بعنوان “أطفال خارج الذاكرة” وثقت فيه احتجاز 2443 طفلًا في سوريا منذ عام 2011 حتى تاريخ نشر التقرير.

ومن بين الأطفال المحتجزين، بحسب التقرير، 106 دون سن الخامسة و193 طفلًا بين ست سنوات إلى 12 سنة و1701 طفل بين 13 سنة إلى 18 سنة، كما وثق التقرير اعتقال 443 طفلًا لم تُعرف أعمارهم على وجه الدقة.

ولفت التقرير إلى أن 152 طفلًا دون سن الثامنة عشرة لقوا حتفهم خلال فترة اعتقالهم، بينهم 138 طفلًا من الذكور، و14 من الإناث، اثنتان منهن دون سن الخامسة.

لكن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، المتخصصة بتوثيق الانتهاكات في سوريا، تمتلك إحصائية أخرى تصل تقريبًا إلى ضعف عدد الأطفال المعتقلين الذين وثقتهم “أورنمو”.

وبحسب الإحصائية التي حصلت عليها عنب بلدي، فإن ما لا يقل عن 4486 طفلًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد الأطراف الرئيسة الفاعلة في سوريا منذ آذار 2011 حتى 31 من كانون الأول 2018.

وبحسب نور الخطيب، مسؤولة قسم المعتقلين في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن الحصيلة تعبر عن “الحد الأدنى من الانتهاكات الحاصلة في الواقع”، مشيرة إلى صعوبات تعترض توثيق الأطفال المعتقلين، و”أهمها عدم قدرة عائلات الضحايا على التبليغ عن الانتهاك بشكل آمن دون خوف”.

وتضيف الخطيب لعنب بلدي أن “غالبية الضحايا المسجلين كانوا مرافقين لذويهم في أثناء الاعتقال، وأيضًا هناك حالات ليست بقليلة اعتقل فيها الأطفال بعد توجيه تهم لهم أو بدافع الانتقام من ذويهم واتخاذهم كرهائن”.

وتلقي “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” ومنظمة “أورنمو” بالمسؤولية بشكل رئيس على قوات النظام السوري التي تعتقل العدد الأكبر من الأطفال، إلى جانب فصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات “المتشددة” والقوات الكردية.

 

 

برعاية “الهلال الأحمر”.. معايير للاحتجاز لا يتم تطبيقها

الحقوقية والمديرة التنفيذية لمنظمة “أورنمو للعدالة وحقوق الإنسان”، سيما نصار، أوضحت لعنب بلدي أنه ومنذ عام 2011 أوكل النظام السوري لـ “الهلال الأحمر” مهمة رعاية الأطفال الذين يتم احتجازهم مع أهاليهم، وذلك ضمن شروط ومعايير محددة تضمنها القرار، لكن ذلك “بقي حبرًا على ورق ولم يُطبّق على الإطلاق”.

وأشارت نصار إلى أن نص القرار، الذي يمتنع النظام عن نشره، يتطابق مع الاتفاقيات الدولية ويتضمن فرض التعامل مع الأطفال المحتجزين بحسب فئاتهم العمرية، إذ ينص القرار على حسن المعاملة ومراعاة الأطفال المحتجزين ممن هم دون سن السابعة وحديثي الوالدة وكذلك النساء الحوامل إلى جانب احتجازهم بأماكن خاصة، كما يحمّل القرار “الهلال الأحمر” مسؤولية تأمين المستلزمات الصحية للمواليد من حليب وحفاضات.

ولفتت نصار إلى أن الوقائع تُشير إلى أنه لم يكن هناك أي التزام جدي بهذا القرار، إذ ارتبطت ظروف احتجاز المواليد بخلفية وأسباب اعتقال الأم ذاتها، كما أن معظم ولادات النساء الحوامل تتم في مراكز الاحتجاز المختلفة والتي تنعدم فيها الرعاية الصحية وتنخفض فيها النظافة لأدنى المستويات، ما يعرضهنّ ومواليدهنّ للخطر.

وأضافت نصار أنه وفي سجن عدرا على سبيل المثال يُخصص من حليب الأطفال كميات معينة، وفي حال لم تكفِ هذه الكميات حاجة الأطفال يُقدم لهم الحليب المخصص للكبار، دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية صحة الطفل أو وصوله إلى حالة الشبع من عدمها.

أطفال الـ “SOS”.. بحكم المختفين قسريًا

غالبًا ما يتم نقل الأطفال الذين يُعتقل ذووهم إلى “دار رعاية” تُدعى الـ “SOS” في منطقة قدسيا بريف دمشق، أما في حال ولد الطفل داخل الفرع الأمني فغالبًا ما يترك مع والدته فترة معينة بهدف الحصول على الرضاعة الطبيعية.

الحقوقية سيما نصار أشارت إلى أنه، وفي معظم الحالات، يتم إنكار وجود الأطفال عندما يتم السؤال عنهم من قبل أهالي المعتقلين، كما تُقابل محاولة استردادهم بالرفض غالبًا، مبينةً أن التعامل مع الطفل في الـ “SOS” يكون بحسب جرم والدته، وما إذا كانت “مغضوب” عليها بشكل كبير لدى النظام أم لا.

وأوضحت نصار أن إدارة الـ “SOS” تعامل أبناء المعتقلين معاملة تمييزية عن أقرانهم الموجودين في المركز بظروف أخرى، إذ إن هؤلاء الأطفال يمكن زيارتهم والتبرع لهم والتكفّل بمصاريفهم وتغطية احتياجاتهم، أما أطفال المعتقلين فهم محرومون من كل هذه الميزات، وتُبرر الإدارة ذلك بأن أطفال المعتقلين هم “مسؤولية الحكومة”.

وبيّنت نصار أن أطفال المعتقلين هم بحكم المختفين قسريًا، وأنهم في منظمتهم (أورنمو) يُدرجونهم في قاعدة بيانات المختفين قسريًا رغم معرفتهم بمكان وجودهم.

فطالما لم تعترف الـ “SOS” بوجودهم فهم في حكم الموجودين بسجن حكومي، مؤكدة أن وضع هؤلاء الأطفال ينطبق تمامًا مع تعريف الاختفاء القسري والذي يشير إلى “أشخاص تحتجزهم الحكومة وترفض الاعتراف بوجودهم وتحرمهم من حقوقهم القانونية والمدنية”.

وأكدت نصار أن حالات احتجاز الأطفال مع أهاليهم لا تزال مستمرة إلى وقتنا الحالي، وأضافت “لا نزال نسمع قصصًا مشابهة، فمنذ أشهر قليلة ولدت امرأة حامل في أثناء التحقيق معها من قبل أجهزة النظام ليتم تفريقها عن ولدها وأخذه إلى الـ SOS، وإلى الآن لم تُفلح محاولات أهل المعتقلة باسترجاع الطفل لتربيته، رغم تحويلها إلى سجن عدرا”.

 

رشا شربجي وأطفالها.. ناجون بمعجزة

رشا شربجي وأولادها الخمسة كانوا ضحايا الاعتقال في سجون النظام، وأيضًا بلا تهمة.

رشا ابنة مدينة داريا اعتُقلت وهي حامل بتوأم، مع أبنائها الثلاثة وشقيقتي زوجها، إذ تمّ اقتيادهم جميعًا في أثناء استصدارهم جوازات السفر من مركز الهجرة والجوازات في دمشق، بهدف الضغط على زوجها الذي كان مطلوبًا لدى النظام بتهمة تجارة وحيازة الأسلحة.

تصف رشا لعنب بلدي ما عانته من تعب نفسي وجسدي في أثناء اعتقالها مع أطفالها، فبعد انتهاء التحقيق معها وُضعت في زنزانة منفردة مع أطفالها الثلاثة بفرع المخابرات الجوية بمنطقة المزة.

في ظل ظروف صعبة للغاية كانت رشا تحاول رغم معاناتها أن تُلهي أطفالها عما يحيط بهم وأن تنسيهم ظلام السجن وتعامل السجانين.

أما الفترة التي تصفها رشا بالأصعب فكانت فترة الولادة وما تلاها من إبعاد أطفالها عنها.

تقول رشا “كان الوضع سيئًا للغاية، كانت ولادتي قيصرية في مشفى لم أتمكن من معرفة اسمه، وسط حراسة أمنية على باب الغرفة، وفي غياب أي مظهر للنظافة، وبعد الولادة لُفّت طفلتاي بقطنٍ فقط، قطن ودم”.

بعد عودتها إلى السجن أخبرها السجانون أنهم سيأخذون أطفالها إلى ميتم “SOS”، الأمر الذي كان له كبير الأثر على نفسيتها التي ساءت بشكل كبير، لتغيب بعدها أخبار أطفالها عنها بشكل كامل إذ لم تتمكن من رؤيتهم بعد ذلك سوى لعشر دقائق نتيجة الضغط الشديد وتصاعد الاحتجاجات من قبل النساء المعتقلات لرؤية أبنائهن.

وبعد نحو ثلاث سنوات من اعتقالها خرجت رشا إلى الحرية في صفقة تبادلٍ للأسرى، لتجتمع مجددًا مع أطفالها في لقاء وصفته بـ “الحلم والمعجزة”.

 

 

رانيا العباسي وأطفالها الستة مغيبون حتى اليوم

منذ شهر آذار في عام 2013 اعتقل النظام السوري الطبيبة وبطلة الشطرنج السابقة رانيا العباسي مع زوجها وأطفالهما الستة، والذين كانت تتراوح أعمارهم آنذاك بين ثلاث سنوات وخمس عشرة سنة، ليدوم اعتقالهم حتى لحظة كتابة التقرير.

منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوقية وإنسانية عدة، قاموا بحملات مختلفة للتعريف بقضية الطبيبة رانيا، كما ناشدوا النظام السوري لإطلاق سراحها وعائلتها، لكن النظام لم يبدِ أي استجابة بل إنه لا يزال يرفض الاعتراف بوجودهم لديه.

الأخبار التي وصلت عن رانيا لعائلتها كانت شحيحة للغاية وفق ما صرح إخوتها لوسائل الإعلام في أكثر من مناسبة، كما أنهم تعرضوا للابتزاز ودفعوا مبالغ هائلة دون أن يتمكنوا من الحصول على معلومات كافية ووافية عن وضعها وأبنائها.

أسامة العباسي، شقيق الطبيبة رانيا، وفي آخر تصريح له لراديو “روزنة”، في شهر آذار من عام 2018، أشار إلى أن آخر الأخبار التي وصلت عن اعتقال شقيقته بعد خمس سنوات تعود إلى شهر تموز من العام نفسه، وأن آخر الروايات التي وصلتهم أنها وزوجها موجودان في سجن صيدنايا، بينما الأطفال الستة محتجزون في شقة خاصة يُشرف عليها الأمن العسكري.

وبيّن أسامة أن المعلومة الوحيدة والموثقة التي يمتلكونها هي فقط أن الفترة الأولى لاعتقال عائلة رانيا كانت من قبل فرع الأمن العسكري، لوجود شهود على الحادثة.

وتؤكد عائلة العباسي أن ابنتهم لم يكن لها أي نشاط سياسي، ولم تنضم لأي حزب معارض.

 

 

اضطرابات نفسية ومشاكل صحيّة..
الاعتقال يترك أثرًا عميقًا لدى الأطفال

تترك تجربة اعتقال الأطفال وإبعادهم عن أهاليهم آثارًا كبيرةً على شخصيتهم ونفسيتهم ومستقبلهم، وتشكل العودة إلى الحياة الطبيعية بعد الإفراج عنهم استمرارًا لمعاناتهم، لما فيها من مجهول وتصورات غير واضحة عما سيأتي في المستقبل، كما أن عدم فهمهم ما يجري نتيجة تسارع الأحداث وشدتها يزيد من شعورهم بالخوف والقلق والتوتر الدائم.

على المستوى الفيزيولوجي يتسبب الاعتقال أيضًا في مشاكل صحية كثيرة، إذا يحتجز الأطفال في سن النمو في ظل ظروف غير صحية على الإطلاق، كما قد تنعكس الأعراض النفسية على سلامة الجسم.

 

العزلة والغضب والخوف.. أبرز الأعراض النفسية

اختصاصية الدعم النفسي الاجتماعي سماح سالمة، تتحدث لعنب بلدي عن الآثار النفسية لتعرض الأطفال لتجربة صادمة كالاعتقال أو الإبعاد عن الوالدين ووضعهم في المياتم، وهو ما يمكن وصفه بالحدث الصادم أو الخطير عليهم.

وتوضح سالمة أن الدراسات تشير إلى وجود علاقة واضحة بين تعرض الطفل للصدمات والأحداث الخطيرة، وتطور الوظائف الدماغية لديه، بالإضافة إلى تأثر نموه، وظهور ميل لديه للعنف والعدوان، ونوبات غضب مفاجئة.

ومن الممكن، بحسب سالمة، “أن يصبح الطفل انعزاليًا يحب الوحدة ويبتعد عن التفاعل الاجتماعي، كما قد يعاني من الخوف من أشياء محددة قد يكون لها ارتباط بالحدث الصادم، كأن يشعر بالخوف عند سماعه صوتًا مرتفعًا لأنه يذكره بالتجربة، ولأنه كان يسمع في السجن صوت صراخ وأصوات مرتفعة”.

وتتابع سالمة أنه من الآثار المهمة أيضًا ظهور قلق الانفصال لدى الطفل، إذ يتولد لديه شعور بالخوف الشديد لابتعاد والديه عنه أو الانفصال عنهما، وربما كان الطفل قبل الحادثة يتمكن من النوم منفردًا أو في غرفة منفصلة عن والديه، لكنه بعدها لم يعد يتمكن من مفارقة والديه حتى لفترات قليلة.

وتلفت سالمة إلى أنه وبشكل عام تختلف الآثار النفسية على الأطفال بحسب المرحلة العمرية التي يمرون بها، فمثلًا الآثار النفسية التي يعاني منها الطفل البالغ من العمر خمسة عشر عامًا تختلف عنها في عمر ثلاث سنوات.

 

 

أطفال لا ينمون بالشكل السليم

الطبيب أكرم خولاني، وهو اختصاصي في طب الأطفال، شاهد خلال فترة اعتقاله في “الأمن العسكري” بدمشق عام 3013، أطفالًا معتقلين، وعاين مشاكلهم الصحية عن كثب.

وعن ذلك، يقول لعنب بلدي إن الأطفال المعتقلين كانوا يتعرضون لمشاكل جسدية من نوعين، الأول مشابه لما يتعرض له الكبار من ضرب وتعذيب ما يؤدي إلى الكسور والرضوض، إضافة إلى الإسهالات نتيجة قلة النظافة في الغذاء والماء، والجو السيئ في المعتقلات ما يؤدي إلى أمراض إنتانية متنوعة.

أما الآخر فهو خاص بالأطفال، ويتعلق بشكل رئيسي بالنمو، فجسم الأطفال بحاجة إلى نوعية وكمية غذاء محددين، كما يحتاج نمو العظام إلى فيتامين “د” الذي يحتاج إلى تعرض الطفل للشمس وهو الأمر الصعب في المعتقلات المظلمة.

ويضيف خولاني، “معظم الأطفال الذين شاهدتهم في المعتقل تظهر عليهم علامات سوء التغذية من نحول وبروز العظام وتساقط الشعر”.

وعن الأثر البعيد لهذه الظروف يقول خولاني، “بعض كسورهم ورضوضهم يمكن أن تُعالج، وفي حالة أخرى قد تتحول إلى التهابات وتؤدي إلى الوفاة، أما ما يتعلق بسوء التغذية فيؤدي إلى تأخر في النمو، فإذا خرج الطفل خلال فترة قصيرة يمكن أن يعوّض ذلك، أما في حال كان الأطفال في عمر 13 أو 14 عامًا، وقضوا فترة طويلة في الاعتقال فإن وصولهم إلى مرحلة البلوغ ستقلل فرص العلاج وسيبقى شكل الجسم مشوهًا، وعلامات سوء التغذية لن تختفي”.

من ناحية أخرى، يمكن أن يعاني الأطفال من انعكاسات الحالة النفسية على الصحة، فبحسب اختصاصية الدعم النفسي الاجتماعي سماح سالمة، قد يعاني الأطفال من التبول اللاإرادي، ومشاكل في اللفظ مثل التأتأة، وفرط حركة منشأه عدم الإحساس بالأمان.

إضافة إلى ضعف التركيز والانتباه، وصعوبات في النوم تتمثل بنوم متقطع أو ساعات نوم قليلة أو كوابيس، إذ من الممكن أن يسترجع الطفل الحدث الصادم على نحو متكرر وهو ما يدخله في اضطراب يُطلق عليه اضطراب ما بعد الصدمة.

 

كيف يمكن مساعدة الطفل على تخطي صدمة الاعتقال؟

يمكن مساعدة الأطفال الخارجين من تجربة الاعتقال على تخطي الصدمات النفسية التي يتعرضون لها، عبر طرق عدة تحدثت عنها اختصاصية الدعم النفسي الاجتماعي سماح سالمة، وهي:

بيئة آمنة

يتوجب نقل الطفل إلى بيئة آمنة لا يشعر فيها بأي خطر، كما أن الحفاظ على روتين الحياة اليومي للعائلة يساعد الطفل على تخطي ما حدث، بالإضافة إلى ضرورة دمج الأطفال بالأنشطة الاجتماعية والبدنية واللعب بجميع أنواعه، وإعطاء الطفل فرصة للتعبير عن مشاعره وتقبل هذه المشاعر.

معلومات حقيقية

في حال سؤال الطفل عن معلومات حول الحادثة فيجب إعطاؤه معلومات حقيقية، ولكن بشكل يتناسب مع إدراكه ونموه.

دور الأهل

على والدي الطفل أن ينتبهوا إلى الآثار النفسية التي قد تظهر عليه، (على سبيل المثال هل يعاني من ضعف انتباه أو تركيز؟، هل لديه شرود ذهني؟)، وأن يراقبوا نومه وأكله وعلاقته مع الغرباء الرجال منهم والنساء، واستشارة اختصاصيين في حال لاحظوا أعراضًا مريبة.

التواصل

التواصل الجيد للأهل مع الطفل ضروري جدًا في هذه الحالات، ويمنحه الإنصات له الشعور بالأمان، كما يفضل الامتناع عن لوم أو نقد للطفل عندما يتكلم عن مشاعره عن هذه التجربة كأن يقولون له ” لا يجب أن تشعر على هذا النحو.. أو لا يجب أن تقول ذلك” إذ يتوجب تركه يعبر عن كل ما يشعر.

 

الاختفاء القسري في القانون السوري والقوانين الدولية

لم يرد أي نص صريح في القوانين السورية يُجرم الاختفاء القسري كما هو وارد في القوانين الدولية، واختفى أي وصف قانوني واضح لهذه الجريمة وأركانها في حال ممارستها على نطاق واسع وممنهج، كما لم يتم تخصيص الأطفال بنصوص محددة فيما يتعلق بجريمة الاختفاء القسري.

واقتصرت النصوص القانونية على تعريف الاختطاف والإخفاء المرتكب في حالات فردية من قبل أفراد أو عصابات في حالات محددة، في ظل مجموعة من القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية التي خالفت الدستور والتشريعات السورية، والتي أصدرتها الحكومة علنًا أو بشكل غير معلن، تساعد على الإفلات من العقاب.

 

“الحرية حق مقدس”.. ولكن

المحامي إبراهيم القاسم، وكاتب تقرير “أطفال خارج الذاكرة”، قال في لقاء مع عنب بلدي إنه على الرغم من عدم انضمام سوريا إلى “الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري”، يتوجب على الحكومة أن تحظر الاختفاء القسري، لأن هذا الحظر هو إحدى قواعد القانون الدولي العام، وسوريا ملزمة قانونيًا بميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها، لا سيما فيما يتعلق بحقوق الطفل.

وأضاف، “مع أن الدستور السوري، نص صراحة على كون الحرية حقًا مقدسًا، وواءمه في ذلك قانون أصول المحاكمات الجزائية في مواده 242 و252، لجهة عدم جواز حجز حرية الأفراد في غير الأماكن المخصصة لذلك وواجب المواطنين بالإعلام عن ذلك، إلا أن هذه النصوص بقيت عمليًا غير مطبقة، وهو ما ينطبق بطبيعة الحال على الأطفال، الذين يعانون أيضًا من المحاكم والقوانين الاستثنائية، واستمرار سياسة الاعتقالات والاختفاء القسري والتضييق على الحريات العامة”.

القاسم لفت إلى مجموعة من القوانين والمراسيم التي ساعدت على الإفلات من العقاب، وأسهمت بالتالي في ازدياد حالات الاختفاء القسري بحق الأطفال بشكل ممنهج وواسع النطاق، إذ قامت غالبية الأفرع الأمنية التابعة للحكومة السورية والقوى والميليشيات التابعة لها، بارتكاب هذه الجريمة بعدة أشكال، كالإخفاء عقب الاعتقال التعسفي مباشرة، أو في مرحلة لاحقة من الاحتجاز، أو لدى مراجعة ذوي الأطفال المعتقلين والمختفين للسلطات الحكومية السورية للاستفسار عن مصير أبنائهم.

 

اتفاقية الطفل.. سوريا مصادقة وغير ملتزمة

تشير مديرة قسم المعتقلين في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، إلى أن ما يجري في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام يخالف تمامًا نص اتفاقية “حقوق الطفل” التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989، والتي يعتبر النظام طرفًا مصادقًا عليها.

وتضيف الخطيب “في اتفاقية الطفل نصت المادة 37 (ب) على (ألا يحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية، ويجب أن يجرى اعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقًا للقانون ولا تجوز ممارسته إلا لملجأ أخير ولأقصر فترة زمنية مناسبة)”.

وتؤكد اتفاقية الطفل المادة 37 (ج) على ضرورة معاملة الطفل بإنسانية في حال تعرضه للاعتقال والحجز “يعامل كل طفل محروم من حريته بإنسانية واحترام للكرامة المتأصلة في الإنسان، وبطريقة تراعي احتياجات الأشخاص الذين بلغوا سنه. وبوجه خاص، يفضل كل طفل محروم من حريته عن البالغين، ما لم يعتبر أنّ مصلحة الطفل الفضلى تقتضي خلاف ذلك”.

 

 

ووفق الاتفاقية ذاتها “للطفل الحق في الدفاع عن نفسه والحصول على مساعدة قانونية”، حيث تنص المادة 37 (د) على أن “يكون لكل طفل محروم من حريته الحق في الحصول بسرعة على مساعدة قانونية وغيرها من المساعدة المناسبة، فضلًا عن الحق في الطعن في شرعية حرمانه من الحرية أمام محكمة أو سلطة مستقلة محايدة أخرى، وفي أن يجري البت بسرعة في أي إجراء من هذا القبيل”.

أما في القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولين الإضافيين، فتشير الخطيب إلى أن “الطفل من ضمن الفئات المحمية، والأطفال يحظون بشكلين من الحماية التي يكفلها القانون الدولي الإنساني، الأولى هي حماية عامة يتمتعون بها كونهم مدنيين، والحماية الثانية خاصة يتمتعون بها بصفتهم أطفالًا، وهناك أكثر من 25 مادة في اتفاقيات جنيف تشير إلى الأطفال وضرورة حمايتهم”.

 

المادة من المصدر ⇐ هنا 

.

.