في ظل التخاذل الدولي عن الملف الإنساني الخاص بسورية، وعلى رأسه ملف المعتقلين، كان السبيل الوحيد لدى السوريين عن طريق المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، وإصدار تقارير تدين جرائم الأسد كتقارير "هيومن رايتس ووتش" و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
30 / أيلول / سبتمبر / 2018
*سائد الشخلها
اندلعت شرارة الثورة السورية عندما قام النظام السوري باعتقال أطفال درعا وتعذيبهم بأبشع الطرق، ما أسفر عن انفجار شعبي عارم، أدى لنزول الناس للشوارع مطالبين بمحاسبة الجناة وصولاً لإسقاط النظام بجميع رموزه ومحاسبته، ومن حينها لم يكفّ النظام عن صبّ جام غضبه على الشعب كله، بما فيهم الأطفال عن طريق الاعتقال والقصف والتهجير وحتى التصفية الجسدية، كما حدث للطفلة عفاف السراقب التي قتلها النظام عندما اعتقل والديها عام 2012.
وأقسى ما يمكن حدوثه، هو وجود أطفال دون سن الخامسة قد اعتقلوا مع أمهاتهم أو ولدوا في أروقة المعتقلات، ما يجعل من هؤلاء الأطفال لا يعرفون بيتاً سوى هذه الزنازين، حيث ترك النظام هؤلاء الأطفال ليعيشوا رعب المعتقلات، بأجواء غير إنسانية بالمرة لحياة الإنسان العادي، فكيف لطفل لم يتم سنواته الأولى بعد.
ولا تعد ظاهرة اعتقال الأطفال جديدة على نظام الأسد، فقد منهج هذه الظاهرة عبر سنين طويلة من الاعتقال التعسفي للمعارضين له رجالاً كانوا أو نساء، فقد شهد عدد كبير من معتقلات الرأي عبر السنين ولادة أطفال في الزنازين من أمهات اعتقلنَ بتهم سياسية، أو لأن أزواجهن كانوا سياسيين معارضين للنظام السوري.
ومنذ اندلاع الثورة السورية شهدت هذه الظاهرة ارتفاع متزايد وبشدة لكثرة أعداد المعتقلات اللواتي اعتقلهن النظام لأكثر من سبب، إما لأنهن من مناطق معارضة لحكمه، أو لعوائل معارضة، أو لكونهن ناشطات سياسيات وثوريات، حيث أكد باحثون في شبكة “يوروماد الحقوقية”، تسجيلهم 31 حالة ولادة فقط في سجن عدرا ضمن الفترة الفاصلة بين سنة 2011 و2015″، وكذلك وجود 107 معتقلات مع أبنائهن، وأشاروا إلى أن عناصر النظام يستهدفون النساء الحوامل والمثقلات بالأبناء لأنهن الأضعف، ومن بين هذه الحالات حالة “رشا شربجي” التي اعتقلت مع أطفالها للضغط على زوجها المعارض ليسلم نفسه، وكانت حامل في الشهر الثامن، حيث انجبت فتاتين توأم في السجن، لم تريا الحرية حتى سن الثلاث سنوات، من خلال عملية تبادل بين المعارضة والنظام.
وهدى أيضاً التي اعتقلت على حاجز للنظام السوري لكونها من عائلة معروفة بمعارضتها للنظام، وهي حامل بشهرها السادس، وبقيت معتقلة دون محاكمة لأربع سنوات، حيث أنجبت ولدها في السجن، ولم يرَ الحرية مع أمه إلا عندما أصبح عمره ثلاث سنوات ونيف، وهو لهذه اللحظة لا يستطيع تقبل وجود الرجال في حياته لاعتقاده أن جميع الرجال هم السجان الذي يصرخ عليه عندما يبكي ليلاً ويعذب أمه مع باقي المعتقلات.
وبالعودة للقانون السوري، نجد مادة واحدة تتكلم عن وضع الأطفال ولكنها مختصة بالنساء اللواتي يحصلن على حكم قطعي في قضاياهن، لذا لا يوجد أي مادة تختص بوضع معتقلات الرأي الحوامل، ولا بوضع الأطفال الذين يعتقلون مع ذويهم، أو حتى يختص بالأطفال الذين يولدون في السجون، لأن أغلبهم يقضون أغلب فترات اعتقالهم في الفروع ولا يعرضون على القضاء.
وبما أن النظام السوري يلجأ لاعتقال الأطفال مع ذويهم كنوع من الضرورة الأمنية، حتى لا يبقى هناك شاهد على اعتقاله لهؤلاء الأشخاص، ولا يفرج عنهم حتى لا يعترف بوجود ذويهم لديه، يصبح القانون هنا عقيم، لأنه لا يحتوي مواد لحماية هؤلاء الأطفال، ولأن النظام الأمني في سورية أعلى من النظام القضائي، ويتصرف بشكل مستقل بدون أي رقابة قضائية عليه.
وعلى عكس القانون السوري، كان القانون الدولي يعجّ بالقوانين التي تحمي الطفل ويحض على احترام الطفولة بشتى الطرق، وتعتبر اتفاقية حقوق الطفل التي أقرّت عام 1989الصكّ القانونيّ الأوّل الذي يُلزم الدول الموقعة عليها من ناحيةٍ قانونيةٍ بدمج السلسلة القانونية الكاملة لحقوق الإنسان، أي الحقوق المدنية والسياسية، إضافةً إلى الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية معاً.
وذكرت المادة 37 من اتفاقية حقوق الطفل: “لا يتعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، وألا يحرم من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية، ويجب أن يجري اعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقاً للقانون، ولا يجوز ممارسته إلا كملجأ أخير ولأقصر مدة زمنية مناسبة”. وبما أن النظام السوري قد انضمّ إلى اتفاقية حقوق الطفل منذ البداية، كما انضمّ إلى البروتوكول الاختياريّ للاتفاقية، المتعلق بإشراك الأطفال في النزاعات المسلحة، في 17 تشرين الأول من العام 2003، الملحق رقم 18، هذا يجعل منه واقعاً تحت سطوة القانون الدولي العام في حال مخالفته لأي اتفاقية وقع عليها، ويمكن إحالة مخالفاته إلى محكمة العدل الدولية للتحقيق فيها ومحاسبة الجناة.
والغريب في الأمر، هو عدم إحالة أي ملف حتى هذه اللحظة لمحكمة العدل الدولية، حيث اكتفت المنظمات الدولية الحقوقية بإصدار بيانات وتقارير توصف وضع الانتهاكات في سورية، دون أن تضع في تقاريرها آلية لحساب الجناة أو تحويلهم للمحكمة، حيث ذكرت جميع تقارير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الوضع في سورية منذ عام 2012 وحتى الآن، جميع أنواع الانتهاكات التي مارسها النظام السوري على الشعب وبشكل ممنهج، ولكن لم تضع ضمن توصياتها إحالة المجرمين للقضاء، وقد دعت في تقريرها الصادر عام 2012 مجلس الأمن إلى مطالبة الحكومة السورية بوقف جميع انتهاكات حقوق الإنسان، والتعاون مع بعثة تقصي الحقائق التي أرسلها مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومع بعثة مراقبي جامعة الدول العربية، ولم يذكر تقرير 2018 أي دعوة أو اقتراح، بل اكتفى بذكر جميع الانتهاكات ومن جميع الأطراف، وتناسى أن كمَّ الانتهاكات التي قام بها النظام تعد أضعافاً مضاعفة لما ارتكبه أي طرف آخر، بما فيهم داعش، والفصائل المتطرفة، والذي اعتبره ناشطون وصمة عار على جبين الإنسانية، خاصة وأن هذه التقارير أصبحت توضع على أساس حسابات السياسية الدولية، وليست على أساس الشفافية المهنية والحقوقية والإنسانية.
في ظل التخاذل الدولي عن الملف الإنساني الخاص بسورية، وعلى رأسه ملف المعتقلين، كان السبيل الوحيد لدى السوريين عن طريق المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، وإصدار تقارير تدين جرائم الأسد كتقارير “هيومن رايتس ووتش” و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وغيرهما كثير من المنظمات، وتوثيق هذه الانتهاكات بشكل قانوني، حتى تقدم لمحكمة العدل الدولية إذا ما سمح المناخ السياسي العالمي بذلك، وإذا ما تغيرت أوضاع التحالفات السياسية في المستقبل، وهناك عدة تقارير من منظمات محلية لم تكن فقط توصيفاً لهذا الواقع، بل تعدت ذلك بحيث شملت نقداً للتقارير الأممية، وأظهرت ضعف المنظمات الدولية في توصيف الواقع السوري، كتقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2016″، والذي حمل عنوان “سوريا، البلدُ الأسوأ في العالم في خسارة الأطفال”.. والذي يبين الفرق الواضح بين الأعداد التي ذكرت في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، وبين ما وثقوه هم على أرض الواقع، حيث أكدوا على عكس التقرير الأممي أن أكثر الانتهاكات بحق الأطفال كانت من طرف النظام السوري، خاصة وإن التقرير أهمل جانبين مهمين هما جانب الاعتقال التعسفي للأطفال وإخفائهم قسرياً، وجانب قتل الأطفال بهجمات كيماوية.
وفي نفس السياق كان هناك مجموعات كثيرة من الناشطين والإعلاميين السوريين يلفتون النظر لقضايا اعتقال الأطفال وأمهاتهم، ضمن حملات مناصرة وبلغات عدة، بحيث توصل قضيتهم لأكبر شريحة من المجتمع الأوربي خاصة، والدولي عامة، لحشد الرأي ضد جرائم الأسد في الدول المؤثرة داخل مجلس الأمن، كحملة “بدنا المعتقلين” و “المعتقلات هنَّ الجميلات”، حيث كانت الأخيرة توضح وضع المعتقلات وأطفالهن في أقبية سجون الأسد، وتروي قصصاً لأطفال ولدوا وتربوا في هذه الأقبية، ومدى التأثير السلبي على نفسيتهم جراء ما حدث لهم ولأمهاتهم؛ ولكن يبقى تأثير هذه الحملات محدوداً ومؤقتاً لعدة أسباب، منها عدم وجود قاعدة إعلامية ثورية تضم جميع الإعلاميين، ما يجعل العمل على أي حملة أسهل وذا جدوى أكثر ،وظهور عدة حملات لنفس الغرض بذات الوقت، وعدم وجود التمويل الذي يسمح باستمرار هذه الحملات لمدة طويلة تسمح بتطويرها، والأمر الآخر عدم رغبة معظم حكومات الدول الأوربية وصول هذه الحملات لشعوبها، مما يؤثر عليها شعبياً وانتخابياً، لذا يتم اهمال هذه الحملات من قبل الإعلام الوطني في تلك الدول، وكذلك منصات التواصل الاجتماعي.
وتبقى قضية الأطفال الذين اعتقلهم نظام الأسد وفروعه الأمنية ذات بعد فلسفي وقانوني وإنساني عميق جداً، لأن النظام يعتقد أنه باعتقاله لهؤلاء الأطفال يستطيع أن يعتقل مستقبل شعب كامل خرج من تحت سلطته القمعية ليطالب بحريته، وأنه سيستطيع جرّ الشعب من خلال اعتقال مستقبله للرجوع لحضيرة الأمن والعسكر، التي ضم السوريين فيها لسنين طويلة، ويبقى تحرير هؤلاء الأطفال هو من أهم مطالب الثورة لذات السبب، فتحريرهم هو تحرير مستقبل سورية من يد الجلاد.
.
.