#########

الضحايا

أمل الصالح: أمّ للجميع وأمل للحريّة


لا تزال المعتقلة أمل الصالح مُغيّبة تماماً منذ عام 2014

15 / آب / أغسطس / 2018


أمل الصالح: أمّ للجميع وأمل للحريّة

 

المصدر: SNP

 

في ذلك المكان الذي تغيب فيه أدنى ذرات حقوق الإنسان، المكان الذي يُفرّغ فيه مهوسو تعذيب البشر ساديتهم بعيدا عن الاعلام، هناك في سجون نظام الأسد تقبع الكثير من حرائر سوريا، خلف القضبان حيث يتفنن الجلادون بممارسة وحشيتهم المفرطة.

لكل معتقلة حياة وأسرة وحكايات، سرقت الزنازين زهرة شبابهن ولازلن يدفعن ثمن موقفهن دماً وآهات، ولا سامع لصرخاتهن الحبيسة كما هن.

أمل الصالح (39 عاما)، هي ليست مجرد معتقلة، وإن كان الاعتقال بحد ذاته كافيا لكي نقف عند قصة البطلة التي صارعت الحياة مبكراً، نحاول في هذا المساحة الإضاءة على حياة أمل، ترويها شقيقتها بتفاصيل دقيقة، ما يعكس شدة تعلّقها بأمل، ولا تزال تنتظر الأمل منذ ست سنوات، وتتابع ملف المعتقلين باهتمام شديد، لعل أحد يحمل لها البشرى كي تزهر الدنيا بعودة أمل.

أمٌ لم تلد

تنظرُ أمل، عندما كانت في العشرين من عمرها، إلى أخواتها الستّة اللواتي يصغرنها بأعوام ثم تعاود النظر إلى والدتها المستلقية على فراش الموت، هدوء يعمُّ المنزل يقتحمهُ صوت شهقات والدتها التي فارقت الحياة وهي ترمقُ صغارها بنظرات الوداع الأخيرة.

تربية أخواتها الأيتام مسؤولية حملتها أمل على عاتقها وزاد الحمل بعد أن اعتاد والدها أن يكون ظالما بعد زواجه الثاني فور وفاة الأم بثلاثة أشهر، تقول أمل: لم أستطع أن ألتزم الصمت وأرى أخواتي يُعنّفن أمام ناظري بعد أن تركتهن أمّي أمانةً في عنقي، ولن أنسى وصيتها لي حين قالت “ما حرمتون من شيء بالدنيا ولا تخليهن ينحرموا من بعدي ” رحلتْ والدتي وقد ترتّب عليّ أن أكون أمّاً دون أن ألد”.

تركتْ أمل منزلها في إدلب مصطحبةً معها أخواتها إلى دمشق عام 1998، انطلقتْ في رحلةِ حياة شاقّة مضنية بدأتها في خيمةٍ مع أطفالٍ صغار لا معيل لهم، عملتْ في الحياكة التي تعود عليها بشيء من المال تؤمّن من خلاله ما تسدُّ به رمق أخواتها.

تمضي ساعات الليل على آلةِ الحياكة تفكّر في عملٍ آخر تستطيع من خلالهِ تأمين حياة مريحة أكثر لشقيقاتها، تخرج صباحاً تجوب في شوارع دمشق باحثة عن عمل، إلى أن وجدت عملاً في احدى صالات التجميل، حالفها الحظ هذه المرة إذ أنها تهوى هذه المهنة.

استطاعت أمل بعد سنوات من الشقاء أن تؤسس حياةً كريمة، تقول أمل “رغم أنّني أمضي طيلة يومي في العمل وأعود في المساء منهكة إلّا أنّني لمْ أنجُ من نظرة المجتمع الفاسدة والأقاويل التي تسيء لي، كثيراً ما سمعتُ أهل الحيّ يتهامسون ” ليش أمل بتظل لآخر الليل برّا بيتها وما بتختلط مع حدا، معقول تكون عاملة شي فاحشة وهربانة من اهلها مع بناتها”.

كبرت أمل وكبرت الصغيرات وما زالت أمل تُجسّد جسراً عبرن من خلاله لحياة أخرى.

فقدان آخر

مع اندلاع الثورة السورية في ربيع عام 2011، بدأت معها معاناة من نوع آخر ليس أقل قسوة مما مضى. تقول أمل: “كنتُ جالسة أتابع أخبار التلفاز الساعة الثالثة فجراً، نظرتُ من النافذة فرأيتُ عدّة طائرات تحوم في سماء دمشق للمرّة الأولى ينتابني شعور الخوف، لم يكن الخوف من الموت كان خوفاً مجهول السبب وكأنّ شيئاً ما سيحدث”.

ساعة واحدة وجاءها الخبر الصاعق:

– ألو السلام عليكم كيفك أمل..

هلا مين معي؟

– أنا أبو خالد صديق أيمن أخوكي.. صمتَت لبرهة.

– إي احكي صاير شيء

– أبو خالد : أيمن استشهد.

قُطعَ الاتصال ومضت بضع دقائق لم تستوعب أمل ما سمعت، حاولت النهوض لكنها لم تعد قادرةً على الحراك، بدأت الزحف على الأرض ودموعها تخنقها وبعد محاولات خرجت تبحث عن أخيها الشهيد داخل أكياس جمعت أشلاء الشهداء ووضعت على باب أحد مساجد دمشق في أحد الأكياس وجدت نصف وجه أيمن وفي الكيس الآخر نصف شاربه الأشقر، جفّ دمعها في المقل واكتفت حنجرتها بالصمت ومشت بمراسم دفنه ثم أخذت بأطفاله وأمهم الى منزلها ليصبح الحمل أثقل وأثقل.

استشهد أيمن (24 عام)، في 22 حزيران/يونيو 2012، إثر قصف احدى طائرات النظام السوريّ على منطقة “ببيلا” في ريف دمشق الجنوبي.

وتؤكّد أمل “شقيقي لم يكن مطلوباً لقوات النظام ولم يكن له نشاطات ثوريّة، كان شابّاً في أوّل عمره يمضي يومه في عمله كسائق سيّارة أُجرة، ذهب أيمن وأخذ معه ضحكات ما تبقى من عمري وترك لي أطفاله مع أمهم وأخواتي البنات”.

“ما بدي تحترق قلوب أمهات أكتر وهنن عم يجمعوا أشلاء ولادهن ماعد بدنا دم بدي شوف وطني حر “، هذا ما قالته أمل بعد استشهاد أيمن فقد تحوّلت من أمًّ تناضل من أجل شقيقاتها الى ناشطةٍ سياسيّة تناضل من أجل حريّة سوريا، عملتْ على تنظيم المظاهرات التي تهتف ضد الظلم والاستبداد، تنقل الجرحى وتمدّهم في الدواء والغذاء.

“كنت أتجاوز حواجز النظام وسيّارتي مليئة بالأدوية وأربط حول خاصرتي مبالغ كبيرة من المال، أصبح الثوار يلقبونني بأم محمد خوفا عليّ من استخدام اسمي الحقيقي”، هكذا كانت تروي أمل تفاصيل نشاطها الثوري، بحسب ما نقلته شقيقتها.

في الـ 23 من تشرين الأول/أكتوبر2012، في الساعة الثانية ظهراً، خرجت أمل وأخبرتنا أنّها لن تتأخّر، حل المساء ولم تعد، شعرنا بالقلق الشديد لأنّها لم تكن تجيب على مكالماتنا الهاتفية.

وتضيف شقيقة أمل: استمريت بمحاولات الاتصال بها من دون جدوى وفي تمام الساعة العاشرة ليلاً فُتِحَ الخط وأجابت أمل لتقول لي “صار عندي شغلة ضرورية بحمص ورح ضل 3 ايام ، ديري بالك ع اخواتك ولا تخافوا ” كانت تلك المرة الأخيرة التي نسمع بها صوتها ، لم يكن في صوتها خوف أو قلق ولكن كان متعباً مع نبرةٍ غريبة”.

بعد مرور يومين علمت الأخوات أنه تم إلقاء القبض على أمل عند أحد حواجز النظام وتمّ نقلها الى فرع المخابرات الجويّة في المزّة، بعد أن أبلغ عنها أحد “العواينة”، كان من مدعي الوطنية.

انقطعتُ أخبار أمل إلى أن تمّ تحويلها لفرع عدرا في سبتمبر 2013 وظلّت عائلتها لا تعرف شيئاً عن مكان وجودها الى ذلك الحين.

تصف شقيقتها زيارتها الأولى لأمل في عدرا قائلة : ذهبتُ لزيارة أمل بعد أن أخذت موعداً مسبقاً للزيارة، دخلت مكاناً أشبه بالجحيم لم أستطع عدّ الأبواب المقفلة المتتالية التي أدخلوني منها لم يسمحوا لي أن أعانقها أو أجلس معها، انتظرتُ خلف شبك الحديد أترقّب رؤيتها بفارغ الصبر ، أتت أمل تطرق الأرض بخطوات بطيئة مثقلة بالسلاسل، حينما اقتربتْ ورأتني صرختْ “أوووف.. يا الله” واجهشت بالبكاء.

لم يكن بكاء من ندم بل كان لصعوبة الموقف حينها فكيف لا تستطيع معانقة طفلتها التي ربّتها، كيف لشبكٍ حقيرٍ أن يمنعها من ملامسة أناملها المرتجفة.

وقد أخبرت شقيقة أمل منظمة العفو الدوليّة أثناء زيارتها الأولى، أنّ أمل تعاني من أوضاع نفسية سيئة وأعراض ما بعد الصدمة جرّاء احتجازها في السجن الفردي طيلة أشهر تواجدها في سجن المخابرات الجويّة ولكن دون جدوى.

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقريرها الموسمي، أن ما لا يقل عن 8623 امرأة لايزلن على قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري في سوريا، غالبيتهن (90 بالمئة منهن) على يد نظام الأسد.

بينما تشير تقارير إعلامية إلى ان الأرقام أعلى بكثير، تصل إلى عشرات آلاف المعتقلات في سجون الأسد.

رُحّلتْ أمل في شهر شباط /2014 من سجن عدرا الى مركز احتجاز آخر ولم يتم إحاطة عائلتها بمكان وجودها أبدا، حسب ما قالت شقيقتها لمنظمة العفو الدوليّة: “لا زلتُ أحاول الحصول على تصريح بزيارة سجن صيدنايا العسكري كونه المكان الوحيد الذي لم أقم بزيارته، ولا أعلم سبب اصرار النظام على عدم إخبارنا بمكان اعتقالها، فهذا أحد أشكال التعذيب للسجينة وعائلتها “.

تكمل شقيقتها: تواصلتُ مع المعتقلات اللواتي تم الإفراج عنهن من سجن عدرا لعلهن يعلمن المكان الذي نقلت إليه أختي، وحسب ما أخبرنني أنّه تمّ نقل أمل الى سجن صيدنايا العسكري، الى الآن لم نتيقّن من صحة كلامهنّ لكن مازال بداخلنا ثقة وأملٌ كبير أنها ستعود يوماً وستُكسر تلك القيود.

أخبرت إحدى الناجيات من السجن، المفرج عنهن، العائلة بأن أمل ليست فقط لعائلتها إنّها أملٌ للجميع، لطالما اهتمتْ بالمعتقلات في المهجع وكانت لنا كالأم الحنون، امرأة جريئة وفي نظراتها صمود العالم بأسره، لم تخنها جرأتها يوماً حتى عند مثولها أمام الضابط المحقق، بصقت في وجهه حينما طلب أن تخلع حجابها قائلة له ” طلعنا للحريّة ولسا بدي حرية”.

ولا تزال المعتقلة أمل الصالح مُغيّبة تماماً منذ عام 2014، أمضت حياتها تناضل لتربية أيتام، حاربها المجتمع وبقيت صامدة، امرأة حرة وأم عطوف لأخوتها، وثائرة شجاعة ضد الظلم، كافئها نظام الأسد بتجهيل مصيرها خلف قضبان الجحيم.

***

أعدت هذه القصة بإشراف الشبكة السورية للإعلام المطبوع (SNP)، وهي المادة الأولى من نحو عشر قصص، ستنشر تباعا. القصص كتبتهن شابات سوريات، لسن صحفيات، خضن تدريبا أوليا على الكتابة الصحفية، وذلك ضمن خطة الشبكة في تطوير الكوادر الإعلامية والاهتمام بالفئات الشابة.