"بعد بضعة أشهر جاء أحد أقاربنا حاملاً معه صورة عثر عليها بين الصور المسربة، للمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، بدا فيها أخي الأصغر بوجه شاحب وقد وُضعت لصاقة تحمل رقماً على جبينه، بدت آثار التعذيب واضحة على عينه اليسرى"
02 / شباط / فبراير / 2019
*المصدر: زمان الوصل
كثيرةٌ هي القصص المؤلمة التي شهدتها السنوات الماضية من الثورة السورية، قصصٌ مرعبة ترتبط أحداثها ومسبباتها بالدرجة الأولى بالممارسات القمعية التي قابل بها النظام السوري وأجهزته الأمنية شعبه الثائر، حيث قتل واعتقل وشرد الملايين منهم، دون أن تأخذه رحمة بامرأة أو شيخ أو طفل، متجاوزاً بذلك جميع المحرمات الإنسانية.
ومن بين تلك المآسي ما حدث مع “أم يوسف”، أرملة في الثمانين من عمرها، من مدينة “الرحيبة” في منطقة “القلمون” الشرقي بريف “دمشق”، وهي أمٌ لعشرة أبناء اعتقل النظام ثلاثة منهم دفعةً واحدة، وذلك بعد مراقبتهم لعدّة أشهر عن طريق مُخبرٍ -لا يزال مجهولاً حتى اليوم بالنسبة لأبناء الحي- لانخراطهم المبكر في الحراك الثوري الذي شهدته المدينة، حسب ما أفاد به أحد أقربائها.
يبدأ “ماجد الزين” قريب “أم يوسف” حديثه لـ”زمان الوصل” بسرد حادثة الاعتقال التي وقعت أحداثها بتاريخ 9 آذار/ مارس 2013، فيقول “في ذلك اليوم قطع النظام شبكات الاتصال عن مدينة (الرحيبة)، كما طوّق الحي، حيث يقع منزل (أم يوسف) بأكمله وقام بنشر جنوده أمام كل المنازل والمنافذ المتواجدة فيه، من أجل الإيقاع بأبنائها بعد أن تواجدوا جميعهم للمرة الأولى في بيتهم الريفي البسيط”.
ويضيف “فوجئ أفراد العائلة بحملة الدهم التي طالت منزلهم مع طلوع الفجر، فقام عناصر النظام باقتحام المنزل، وخلعوا الباب، ثمّ راحوا يسبون ويشتمون أصحابه حاملين معهم أسلحتهم التي وجِهت نحو أبناء (أم يوسف)، ورغم تدخل الأخيرة لحماية أبنائها، إلا أن عناصر النظام تعمدوا ضربهم بشكلٍ مبرح أمام أعينها، لتجد نفسها عاجزة عن فعل أي شيء لهم”.
ووفقاً لما أشار إليه “الزين” فإن عناصر النظام لم يكتفوا باعتقال أبناء “أم يوسف” وإنما قاموا كذلك بنهب محتويات المنزل بما فيها أجهزة الخلوي وبعض النقود، بالإضافة إلى دراجة نارية لم يكن أصحاب البيت مجتمعين قد أنهوا دفع أقساطها بعد.
باءت محاولات “أم يوسف” ومن تبقى من أبنائها خارج المعتقل، بالبحث في مصير أبنائها المعتقلين بالفشل، ويوضح ابنها الأكبر -فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية- في تصريح لـ”زمان الوصل” بالقول “جمعنا مبلغاً من المال وقمنا بتوكيل شخص يعمل في دوائر النظام للبحث عن أسماء إخوتي في السجلات المدنية والمحاكم العسكرية والفروع الأمنية، إلى أن تلقينا في العام 2014 أخباراً مفادها وفاة اثنين منهما في المعتقل، فأقمنا لهما مراسم العزاء دون أن نتمكن من رؤيتهما أو استلام جثمانيهما”.
ويضيف “بعد بضعة أشهر جاء أحد أقاربنا حاملاً معه صورة عثر عليها بين الصور المسربة، للمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، بدا فيها أخي الأصغر بوجه شاحب وقد وُضعت لصاقة تحمل رقماً على جبينه، بدت آثار التعذيب واضحة على عينه اليسرى”.
كانت “أم يوسف” تتطلع دائماً إلى لقاء أبنائها الثلاثة الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام السوري، إذ إنها رفضت تصديق كل ما أشيع عن وفاتهم تحت التعذيب في أقبية أفرع الأمن التابعة لقوات النظام، أو حتى ما جاء في الصور المسربة التي أظهرت جثمان أحدٍ منهم، وبقيت تردد دون كلل أو ملل أسماءهم أمام الجيران والأقارب، فتارةً تسأل الزائرين عنهم، وتارة أخرى تروي على مسامعهم مشاهد تجمعها بأبنائها مما تستحضره ذاكرتها المثقلة بالهموم والمواجع.
قبل أيام قليلة، توفيت “أم يوسف” دون أن تسنح لها الفرصة برؤية أحدٍ من أبنائها المعتقلين في سجون النظام منذ ما يقارب 6 سنوات، ووفق أقاربها فإن حالتها الصحية أخذت تسوء بدءاً من تاريخ اعتقال أبنائها، فعانت من أمراض كثيرة بينها: ارتفاع ضغط الدم وآلام الشقيقة اللذان تمكنا منها وغلبا شوقها لرؤية أبنائها وألزماها الفراش طول الوقت إلى أن رحلت عن هذه الحياة.
.
.