#########

الضحايا

السجن ونسيج الزمن


تجري الثواني في هذه الأيام "في أقبية التحقيق" كدهرٍ متطاولٍ لا يؤمل انقضاؤه، رغم هذا ومع كلِّ الاكتظاظ البشري المريع في حجرات هذا السجن، يعيش العابرون قصصاً تدخلهم عبر السرد الهامس، في حجرات أضيق فأضيق..

27 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2020


السجن ونسيج الزمن

*المصدر: تلفزيون سوريا | محمد برو 


يذكر القديس أوغسطين في اعترافاته عن مفهوم الزمن (إذاً ما الزمن؟ إذا لم يسألني أحد، فإني لأعرف الجواب، لكن إذا رغبت في تفسيره فإني لا أعرف).

وقد أطال إينشتين في تفسيره وحديثه عن نسبية الزمن، فلكل ظرفٍ زمنه وطبيعته المختلفة عما عداه، فزمن العاشقين ليس كزمن الخليّين، وزمن المريض ليس كزمن السليم المعافى.

وبالطواف في عوالم المعتقلين الذين تشتهر بهم بلدنا سوريا، العريقة بحضاراتها المتعاقبة، فإننا سنكتشف نسيجاً مختلفاً كلَّ الاختلاف عما سواه من أزمنة.

زمن المعتقل، في السجن الأول “فرع الأمن” وبغياب أدوات قياس الزمن جميعاً، بدءاً من تجريده من هاتفه وساعة يده، وصولاً إلى غياب أقدم وأبسط مزولةٍ لقياس الوقت، وهي حركة الشمس والظلال، حيث يكون في أقبيةٍ مظلمةٍ معزولة بجدران صلبةٍ محجوبة النوافذ، فلا يصل إليه شعاع الشمس، أو صدى العابرين خارج هذا البناء المصمت، فينبئه عن تقلب الليل والنهار، تضاف إلى تلك الظلمة المكانية، ظلمةٌ ذاتية، حيث يكون المعتقل في أحلك حالاته النفسية، فتختلط المشاعر بالكوابيس والاحتمالات السيئة، وأصوات التعذيب المستمر، الذي يلقاه كلُّ من خانه حظه العاثر في تلك الساعات.

هذا الزمن يمر بطيئاً بطيئاً، بحيث لا يكفي عقرب الثواني لقياسه، فهو يحتاج لمعيارٍ جديد أصغر بكثير من الثانية، والأسوأ لو كان هذا المعتقل ساعتها في حجرة التحقيق، حيث المواجهة العيانية مع أعتى أدوات التعذيب، وأفظع المحققين، وهو معصوب العينين مقيد اليدين، وغالباً ما يكون مجرداً من ملابسه التي تشعره أنه ما يزال إنساناً، فالأمر أدهى وأمر، ولنا أن نختبر طول ثلاث ثوانٍ ونحن نضع أصابعنا تحت قدم أحدهم، وهو يقف ضاغطاً بكامل ثقله، ثم ننتقل لتجربة ذات الثواني الثلاث، ونحن نقرِّب أصابعنا من لهيب شمعةٍ صغيرة، شتّان بين هذا وذاك.

تجري الثواني في هذه الأيام “في أقبية التحقيق” كدهرٍ متطاولٍ لا يؤمل انقضاؤه، رغم هذا ومع كلِّ الاكتظاظ البشري المريع في حجرات هذا السجن، يعيش العابرون قصصاً تدخلهم عبر السرد الهامس، في حجرات أضيق فأضيق، ليسمعوا قصص من ماتوا تحت التعذيب، ضرباً بالسياط أو الكابلات النحاسية أو مقارع الحديد، أو سلقاً بالماء المغلي أو الإذابة بالأسيد.

وبالانتقال النوعيّ من هذه الأقبية المظلمة، إلى سجن الإيداع الطويل، في سجن تدمر أسوأ السجون السورية، سيكون إيقاع الزمن مختلفاً بشكلٍ كبير، فهو إيقاع الحياة اليومية التي تبدأ بشكلٍ عاصفٍ في أولها، ثم ما تلبث أن تصبح نسيجاً متسقاً في محتواه الجحيمي، وتخلو الأيام من المفاجآت المدهشة، بعد أن يصبح التعذيب سمةً رتيبةً في الحياة اليومية، وكذلك الموت المحوِّم فوق الرؤوس كلَّ حين، سواء في حلبات التعذيب التي لا تفتر همتها، أم عبر حفلات الإعدام الجماعية، التي تحصد سنابلها كلَّ أسبوع، ورغم هذا، يستطيع الإنسان أن يجترح أزمنةً مارقةً من هذا الطوفان، فيخلق فيها مغاور أو مفاوز، يعيش فيها بأقصى ما يتسع له الخيال، من إنسانيته المحجوبة، فيقرض الشعر ويتغنى ببديعه، ويجري الحوارات الطويلة والعميقة، والتي قد تستمر لأشهر متوالية، قبل أن يضرب عنها صفحاً، وينتقل لحوارات أخرى، وأن يلحِّن الأغاني التي تتحدث عن عشقه لحبيةٍ متخيلة، أو تحكي حكاية السجن لسامعٍ قد تصله يوماً ما.

ومع هذه القدرة الإنسانية التي لا يمكن قياسها، إلّا حين تتجلّى في وقتها المدهش، إلّا أن الزمن ما يزال بطيئا جداً، فلا يكاد يمضي نهارٌ منه أو ليل، إلّا ويتخطف في مخالبه بعضاً من الآمال والأحلام، وتتحول وحدات القياس التي يستخدمها المعتقل ذهنياً، من وحداتٍ زمنيةٍ، إلى وقائع وأحداث يقاس الزمن من خلالها، فقبل مجيء غازي الجهني ليس كبعده “مدير جديد لسجن تدمر تميز بقسوته المفرطة”، وزمن المجاعة حين تقلَّصت حصة طعام السجين إلى ربعها، وزمن الكوليرا، وزمن الجرب، وفي البدء يكون الزمن بالأيام ثم ما يلبث أن يتحول إلى أشهر فسنوات، وتنتقل حدَّة المعاناة وتزداد وطأته لدى المعتقل، من ضغط السنوات والأيام القادمة، والمفتوحة على المجهول القاتم، فينضم إليها ضغط الأيام التي مضت، ومضى معها الشطر الأكبر من طاقة احتماله، وطاقته الجسدية والنفسية، التي أصابها الوهن والاعتلال والتهتك، ويصبح بين قطبي الرَّحى، أوجاع زمنٍ مضى، وأوجاع زمنٍ مفتوحٍ على الأبد الأسوأ، وهو بعد في ذات المعاناة.

بالطبع تتنوع المعاناة وأنماط التكَّيف، والاحتيال على هذه الأزمنة المتمددة البليدة، ويطغى السأم والإحساس العارم باللاجدوى، ويتسرب الشكُّ إلى كلِّ قيمةٍ كانت سبباً معززاً لبقائه، وتصبح الساعات والأيام نمطاً متكرراً، رغم الاختلافات البسيطة التي تعتريها، أشبه بعجلات قطارٍ، لا يتوقف عن سحق أعصاب المعتقل، وذاته التي لا تكف عن المقاومة.

لكنَّه والشيء المدهش العصيُّ على التفسير، هو تلك القدرة العاتية التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال تقديرها، أو التنبؤ بها، تلك القدرة على البقاء والتماسك رغم غياب الشرط الإنساني في أبسط حدود، والتي فاجأت أصحابها أولاً وأدهشت الناظر إليها تالياً، فما أن يخرج هذا المعتقل من سجنه، حتى ينخرط في إيقاع الحياة التي غاب عنها زمناً طويلاً، ويزاحم أقرانه في منعرجاتها، فيدهشهم بهذه المتانة التي لم تنكسر، وكأن بؤساً أو حَزَناً لم يمرَّ به قط.

وسيرون منه شغفاً كبيراً بالحياة، وقدرةً على التمتع بأبسط نسائمها.

هذا حال الشطر الأكبر ممن عرفت من المعتقلين وهم كثير، تجاوزوا الأزمنة الصعبة، باستثناء قلةٍ قليلةٍ ممن خرج مكسوراً، ومعه حمولات من القهر والأسى، يصعب العيش معها، هؤلاء هم الطبيعيون، وهم أبطال الصبر الذين أخطأتهم الشهرة، تحية لهم وسلام.