#########

الضحايا

برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة


سأتكلم عن طموحات وآمال المعتقلين، ما بين "حفلة" تعذيب وأخرى.

05 / حزيران / يونيو / 2018


برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة

 

فادي مطر – مع العدالة

 

هنا سوريا..

من أُسس الحياة الطبيعية للإنسان، ولادة واحدة، تستمر حتى يأتي موت واحد لينهي تلك الحياة، لكن، الحفرة هنا مختلفة، هنا يتعدد شكل الموت، وتتعدد الولادات:

الخارج من تحت سقف بيته إثر قذيفة هوت عليه …ولادة

العائد إلى منزله بعد انتهاء عمله ونجاته من محاولة خطف …ولادة

الهارب من الموت سالكاً طرق النجاة إلى أوروبا (لكن على طريق البحر وليس طريق الحرير)، وأن يصل إلى تخوم تلك القارة …أيضاً تُعدُّ ولادة..

الخارج من معتقلات الرعب لدى النظام السوري، هذه ولادة وحياة جديدة، لا تضاهيها ولادة أخرى… وكوني ولدت ولادتي “الأولى” منذ 32 عاماً، كُتِبَ لي من قبل الموت حياة جديدة، بعد عفو أصدره عني، لا أعلم مدة انتهائه.

هذه الولادة أتت بعد خروجي من معتقلات الموت السورية..

سأقص لكم بعض ما الفته برفقة الموت، ذاك التاجر الماهر، الذي ينتقي زبائنه بدقة وعناية؛ لن أخبركم عن التعذيب أو عن أساليبه، من طرق لم تختبرها البشرية، ولا عن وحوش بأشكال بشرية امتهنت تنفيذ أوامر الموت، حتى غدت من المهارة الوحشية بأعلى مستوياتها، دافعة بالموت أن يرتجيهم لإتمام عملهم دون تلك المهارة المستخدمة! (طبعاً عزيزي القارئ، المعتقل يتمنى الموت لأنه أقصر الطرق للخلاص من العذاب فلا تستغرب الأمر!!).

 

قلت لكم لن أقص عليكم تلك الأمور، فلربما أصبحت مألوفة للبعض، لكني سأتكلم عن طموحات وآمال المعتقلين، ما بين “حفلة” تعذيب وأخرى.

هناك، يبدع العقل البشري في التخيل. يتقلّص الحلم إلى حدود قطعة بقلاوة أو فطيرة جبنة، ويكون البطل الوحيد في فيلم المائدة والعشاء الأخير، يقتصر جلَّ تفكيره بألذِّ الأطعمة التي تناولها في حياته، وهنا… يستعيدها كشريط سينمائي، يلتقط منه أشهى صورة تمرّ تحت جفنيه، ليمضغها بخياله، ويزدرد ما بقي من لعابه المنكَّه بملح الدم العالق في فمه، بسبب آخر لكمة تعرَّض لها قبل أن يختال بأحلامه الشهية، يسند رأسه لجدار زنزانته الذي يحن عليه في ذاك المكان، وكأن للجدار مشاعر ودفء، يضاهي دفء أحضان الأمهات، يربت على الأجساد المنهكة ليغمض عينيه هارباً من دوامة الموت، سارحاً بفكره إلى أبعد صحراء لم يزرها كائن حي، ويعود هذا البطل السينمائي إلى أحلامه، يقف عند أبسط  تفصيل عايشه فيما مضى.. يرجع به العمر لأيام طفولته، لامرأة أنجبته للحياة، وكان يرى فيها عالمه وملاذه الوحيد، لإخوته، وما أصابهم من حزن مصابه، والخوف عليهم من أن يجتاحهم نفس المصير؛ لأول عشق نفذ إلى قلبه.. ولأول قبلة مسروقة من شفاه حبيبته.. لرفاقه وصخب الحياة، وجنونها.. لأيام الدراسة وأساتذته، ويبتسم ساخراً من تلك العقوبات التي طالته منهم أمام ما يقاسيه هنا، وما إن يغفو على ما راى في سرِّه، ويسلم عينيه للنوم، حتى يقضَّ الجوع كل كيانه، فهذا الزائر البغيض لا ترويه الأحلام، ولا يشبع من أطباق الذاكرة الشهية. يجمع جسده عائداً به إلى مرحلته الجنينية، ربما هكذا، حركة لا إرادية، يعود بها العقل الباطن لتلك المرحلة التي كان يتغذى بها الجسمُ عبر الحبل السرّي بدون عناء! لكن هنا، لا حبال غير تلك التي تلف معصميه خلال وجبة التعذيب.. كل هذه الأوهام، تتلاشى مع تقدم الأيام، حتى يصل اليوم الذي يخلع فيه الإنسان كل ماضيه، ملحقاً به إلى جانب اسمه الذي استبدلوه برقم، حالما دخل لهذا الكهف المرعب، ليبدأ صراع البقاء كقانون الغاب، ينسى هنا الإنسان كل ما تعلمه من آداب الحياة، وينتهج فكره مضغ أي شيء، ليسكت ذاك الجوع الناغل في أعماقه، الذي تحول من زائر لمحتل مقيم.

 

 أمران جلَّ تفكيره بهما: ألا يسمع اسمه الرقمي، لمعرفته المسبقة بما ينتظره..

وأمر طعامه فقط، وما إن تأتي تلك الوجبة التي بحالتها الطبيعية لا تكفي لإطعام ثلاثة أشخاص، وهنا تقدم لخمسين شخص..  فضرب من المستحيل أن تنال لقمتين في الوجبة الأساسية، التي غالباً ما كانت هي الوجبة الوحيدة في اليوم!  يصل الأمر ليصيح وحش الجوع متملك بكل مفاصل حياة من يقبع في هذا المكان، متفوقاً على آلام التعذيب اللحظية: فهذا تعذيب مقيم على مدار الوقت.

تصبح جميع أحاديث الساعة عبارة عن ذكريات وآمال للحظة الخروج من المعتقل، ينسى الفرد كل من عايشهم في حياته، أهل وأحبة، أبناء وأصدقاء، لا أحد ممن هنا تأتيه تلك الذكريات، كل ما هنالك تحدٍّ للوقت وغيظ الرفاق بسرد قصص المأكولات التي عايشت فترة من أيام مجد هذا المتكلم الآن، مع ذهول من يستمع: (هل كنت تكتفي بسندويشتين من “الفلافل؟” أنا الآن أستطيع أن أتناول ضعف كميتك)، هكذا يأتيه الرد من رفاقه.

 

في زمنٍ تضج به المدن بسلاسل مطاعم “الماكدونالدز” وغيرها حول العالم، كانت هذه الأحاديث التي يتداولها المعتقلون، الحلم بوجبة كاملة فقط، سندويشة “فلافل”! لربما من المستحيل استيعاب العقل لهذه التفاصيل، لكن الأمر حقيقة حدثت وتحدث حتى اليوم، وإن كانت هذه الحقيقة مالحة كطعم الدم الذي خلفته تلك اللكمة الأخيرة التي ينالها المعتقل قبل وفاته، ومن أكمل الموت عليه تحت التعذيب..

اعلم عزيزي القارئ، أنه مات من قبلها عدة مرات تحت الجوع، وكل أحلامه: قطعة بقلاوة أو منقوشة جبنة أو، ما شابههما..

 

هنا سوريا.

***

سأعودُ بكم إلى ما قبل هذه الحلقة المدماة من سلسلة السوري في بلاد الموت، واضعاً أمامكم بعض إشارات المرور، لطريق المعتقل التي أودت بي، وأنا لست سوى عصفورٍ غنَّى مع سرب الشعب بأنغام الحرية، كغالبية السوريين المغلوب على أمرهم، والتي تقوم نظم الحياة تحت ظل البعث السوري متكاتفة مع القدر، بوضع الخط البياني للمواطن (إمَّا الرضوخ والاستسلام لواقع الجوع والتهميش، أو العمالة والعمل تحت جناح، بل أجنحة المخابرات، والانخراط في الجيش، وإما الهجرة للعمل خارج الوطن).

 

ولهذه الأسباب، مضيتُ وراء خطوات الأكثرية بالهجرة، وكان  موضعي  منها  في القطر اللبناني، أتتبع عملي، متحملاً  تركةَ الكرهِ الذي أودعه النظام السوري في قلوب الشعب اللبناني تجاه السوريين؛ ولا يلام هذا الشعب، مقارنةً  بما  خلفه  هذا الجيش  (العقائدي)   من  دمار  أبدي  داخل أنفس  اللبنانيين؛ محاولاً  توضيح الأمر  لمن ألتقي به:  “بأن  الشعب السوري   ليس بأفضل  حال منهم، ولهم  ماهم عليه  من ظلم  يتقاسمه كتقاسم حدود البلدين”.

 

مرّت خمس سنوات، أتساءك مثل كل السوريين الذين  اضطروا للهجرة: لِمَ نحن هنا ولسنا في وطننا؟ أليست سورية أغنى بمواردها من لبنان؟ هذا البلد الصغير الذي لا يملك إلا أموال مهاجريه وسياحة موسمية؟ ربما هامش الحرية الذي يحظى به المرء هنا هو السبب.. في هذا المنفى الطوعي تحت إلحاح الحاجة للقمة العيش، يتساوى السوريون! فلا العلم ولا الشهادات تنفعك، لا نسبك ولا وضعك الاجتماعي، هنا ترى المهندس يعمل في غسيل السيارات، إلى جانب المزارع أو عامل البناء، لا فرق بينهم سوى القوة البدنية وتحمل مشقات العمل، ولهذا، ينبض في يقيني أنه لن يبقى هذا الحال على ما هو عليه في آتي السنين، وازداد هذا اليقين يقيناً بعدما أضرم البوعزيزي بنفسه النار، نار ثورات الجياع (الجوع إلى الحرية والكرامة والعدالة وليس جوع الطعام). كان هذا الأمر الصادم في 17 كانون الأول عام 2010، حينها قلت لرفاقي: إن الأمر سيصل إلينا سريعاً، وسيمتدُّ، ولن يبقى حكراً على تونس. وبالفعل، ما هي إلا فترة وجيزة حتى انتفضت مصر وتبعتها ليبيا، وأنا أرقب موج الربيع متى يصل شواطئنا الحزينة… وها هو الخامس عشر من آذار من العام ألفين وأحد عشر، يزهر أول براعمه في ربيع سورية، ومن درعا أزهرت كل المناطق السورية وكانت مدينتي إحداها.. وكيف لا تكون سبّاقة في الأمر، وهي التي قدمت مئات المعتقلين فيما مضى، حينما كان الأسد الأب يحكم قبضته الأمنية على رقبة هذا البلد المكلوم، وكسائر مدن سورية، وتزيدهم في الأمر قبضة الفقر التي تطبق على خناقها، والمدروسة من قبل هذا النظام، أخذت المظاهرات تتابع في السلمية، المحرجة لدعاية النظام المجرم بأنه “حامي الأقليات”، فهذه المدينة التي تنتمي بحكم المولد للمذهب الإسماعيلي، الأقلوي، انحازت وانتمت بالكامل كعهدها دوماً لسورية الأكثرية الثائرة، سورية المظاهرات السلمية التي هتفت بصوت واحد: الشعب يريد الحرية!  فعرَّت قبح النظام من آخر ورقة توت يستر بها قبحه، كالطفل إذا اشرأبَّ من الظلام إلى الولادة، أخذت حناجرنا تنشد ألوان الحرية بأهازيجنا القروية العفوية؛ حلم رافق الكبار والصغار، يولد الآن حقيقة في  شوارع المدينة، لا شيء سوى الهتاف لسورية، دافعين بالورود في وجوه عناصر الأمن، لربما يفهموا ما نحن بصدده، وأن هذا الوطن للجميع، ولسنا مخربين كما يروج راس النظام.

 

في بادئ الأمر، لم يستخدم العنف ضد المتظاهرين، وكان الأمر أشبه بعرس وطني، رافعين أعلامنا ولافتات تطالب بالإصلاح للبنية الحاكمة، مطالبين بأبسط أهداف الحياة: الحرية… والتي طالما تغنى بها حزب البعث لعقود. لكن ربما…تلك الحرية غير التي نقصدها! لم يبقَ الأمر على هذه الحال مدة طويلة،وبدأ النظام يشعر بالحرج، لما وصل إليه، وأخذ بترويج أكاذيبه عن الإرهابيين والمخربين والمندسين، ليأخذ لنفسه شرعية الاعتقال وإخماد شعلة الثورة السلمية، وكما عَمِلَ في جميع المدن الثائرة، مما أدى بطليعة الحراك المدني للتواري عن أنظاره، وأخذت أسماء المعتقلين بالازدياد يوماً بعد يوم، حتى وصل ذاك اليوم لأنضم لرفاقي، وأغدو رقماً أحمل عبئه في قائمة المخربين كما أسمونا، كان ذلك في 27 من آب عام2013، وكان يوماً كغيره قبل أن يداهم منزلي مجموعة من (الشبيحة)، أي الدفاع الوطني كما يسمون أنفسهم، لم يتوارد إلى عقلي في يوم من الأيام أن أكون كما أنا  الآن: دخلوا   بهمجيتهم  المدروسة مسبقاً،  مشرعين أسلحتهم  بوجه  كل  الموجودين  في  تلك  اللحظة … اقتادوني إلى الخارج، كانت  سياراتهم  تنتظرهم، وكنت بسكرة حلم،  لا أعرف ما يحدث سوى أنني أراقب العلم السوري يتراقص فوق آلياتهم، وكأنه يعلن نصراً لا أعرفه (أليس هذا العلم الذي يجب عليَّ أن أفتخر به!!؟؟).. لم أخرج من هول الموقف، إلا حين أتت صرخات أمي تخرق جدار الألم، تسألهم عن مصيري وتستجديهم إبقائي… فيقع صراخها في قلبي فقط.

.

.