#########

الضحايا

جرعات الموت في سجن صيدنايا: خمس سنوات من الغياب والتعذيب


تنتهي هذه الجولة الصباحية بخسائر كبيرة، ثم تبدأ جولة أبشع عند إدخالهم الطعام فيتفننون في أساليب التعذيب حيث يسكبون الطعام المخصص للمهجع ليقوم أحدهم بالدعس عليه ببسطاره ثم يطلب من السجناء تناوله خلال 15 دقيقة أو لربما يسكب مواد تنظيف على الطعام.

13 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2020


جرعات الموت في سجن صيدنايا: خمس سنوات من الغياب والتعذيب

*مع العدالة | ضحايا 


محمد من ريف حمص الشمالي حاله كحال الألوف من المعتقلين الذين ساقهم إجرام النظام لتجربة جحيم صيدنايا، السجن الأشهر من بين السجون السورية التي ما زالت تصدّر إلى الآن عشرات القتلى والقليل من الناجين، يسرد محمد حكايته مستذكراً لوعة الاعتقال منذ بدايتها فيقول :

تعرضت للاعتقال بتاريخ 23 / 9 / 2011 وكما جرت العادة فإن التهم معلبة وجاهزة، ( المشاركة بالتظاهرات المناوئة للنظام )، ويكمل: وصلت إلى الفرع ( 293 ) حيث تم استقبالي بشتى أنواع الشتائم والسباب، والتهم المشبعة بالحقد ( أهلين بالخاين ) كانت أقل تلك الشتائم وقعاً على أذني. في البدء وضعوني في منفردة لمدة خمسة أيام، لا أرى منها أحد ولا أسمع من خلالها شيء إلا عندما يقوم أحد العناصر بفتح نافذة صغيرة من الباب ليعطيني قطعة خبز صغيرة وحبة بطاطا تبقيني على قيد الحياة.

وبعد مرور الأيام الخمسة أصبحوا يخرجوني إلى التحقيق، وذلك بعد أن يكبلوا يدي ويغمضوا عيني بقطعة قماش. في فترات التحقيق تعرضت لكل أساليب التعذيب التي من الممكن أن تخطر على بال أحد، من الشبح إلى الدولاب إلى الضرب بكل الأدوات؛ لم يتركوا أسلوباً إلا واستخدموه على جسدي في سبيل الحصول على معلومات يسحبوا بها أشخاص آخرين إلى هذا الجحيم.



بقيت على هذه الحال إلى أن وصل عناصر المباحث العسكرية (الوحوش) هذا الاسم يتفق مع أسلوبهم في المعاملة فجمعونا في مجموعة من الأشخاص مقيدين إلى بعضنا بعضاص ومعصوبي الأعين، وانهالوا علينا بالضرب والتحقير ثم قاموا بحشرنا في سياراتهم واتجهنا إلى مجهولنا.

قد لا تختلف المسالخ السورية بطرائق تعذيبها لكن جملة ( الداخل مفقود والخارج مولود ) التي ترافق حكايات معتقلي سجن صيدنايا تختصر الكثير من الكلمات، ولمحمد حكايته مع هذه الجملة فيقول :

أدخلونا إلى ساحة الاستقبال في سجن صيدنايا، وحين علمنا أننا هناك أول ما تبادر إلى ذهني تلك الجملة الشهيرة (الداخل مفقود والخارج مولود) لا يمكن لمن لم يذق هذه التجربة المريرة معرفة معنى هذه الجملة، نعم الداخل مفقود والخارج ستكتب له حياة آخرى وما أقل المولودين.

في البداية استقبلتنا مفرزة السجن استقبال الخونة كما قالوها لنا عشرات المرات ذلك اليوم، كنا بحدود الـ 12 شخصاً طبعاً كنا معصوبي الأعين لكن من تعريفنا عن أنفسنا للمفرزة عرفت بأن هذا عددنا وقد كان بيننا أطفال لربما بعمر 14 أو أقل أو أكثر قليلاً، فكانت حفلة استقبالنا مميتة تليق بنا نحن الخونة كما أطلقوا علينا، فقد اشتد الصراخ وعلت صيحات الهراوت على أجسادنا حتى ما عدنا نميز من قُتل بيننا ومن بقي على قيد الحياة. وبعد انتهاء حفلة الاستقبال، قاموا بوضعنا ضمن زنزانات منفردة كل أربعة أو خمسة أشخاص ضمن زنزانة واحدة بمساحة متر إلى متر ونصف، وقد يمضي الوقت دون أن تنام مضطراً لإفساح المجال لغيرك من المعذبين.. حيث كان العناصر يدخلون الزنزانة في كل يوم لثلاث مرات وبنهالون على الموجودين بكل أنواع الضرب، لم نكن نفرق بين الليل والنهار، ففي هذا الظلام لا يمكنك معرفة من بجانبك في الزنزانة. بقينا هكذا لمدة تسعة أيام، تسعة أيام من الموت في كل ثانية ضمن مكان تعمها الروائح البشعة، مكان بلا هواء أو شمس حتى الطعام كانوا يقدمون أقله فقط شيء يبقينا أحياء لنكمل دورة التعذيب.

جولة أخرى من الموت:

بعد انقضاء الأيام التسعة أخرجونا من الزنزانة وقد كان أملي بالخروج من هذا الجحيم بشكل كامل ولم أكن أدري بأن ما جرى هو خطوة أولى على درب الموت. عندما أخرجونا قاموا بإعادة فرزنا على المهاجع فقاموا بوضع كل خمسة منا في مهجع ثم يأتون بخمسة آخرين وهكذا إلى أن بلغ عدد المعتقلين في المهجع الذي كنت فيه إلى 31 شخصاً.


في البداية لم نكن نطمئن إلى بعضنا وأكثرنا لم يحاولوا الاختلاط مع الأخرين خوفاً من عناصر مدسوسة بيننا، لكن بعد مضي سنة على حجزنا ضمن المهجع وتأكدنا من عدم وجود المدسوسين بيننا بدأت علاقاتنا بالتوطد، لكن الشيء الذي استمر على حاله هو حفلات التعذيب، فقد كانت شبه يومية، ممارسات بشعة تتجاوز حدود الإنسانية لتهبط إلى مرحلة التوحش، فيبدأ نهارنا بأبشع ما قد تتمناه في صباحك: يفتحون باب المهجع ويدخلون بهمجية الحيوانات اللاحمة، لا يسلم أحد من ضربهم ولا يتركون المكان إلا وجميع ساكنيه محطمون نفسياً وجسدياً. تنتهي هذه الجولة الصباحية بخسائر كبيرة، ثم تبدأ جولة أبشع عند إدخالهم الطعام فيتفننون في أساليب التعذيب حيث يسكبون الطعام المخصص للمهجع ليقوم أحدهم بالدعس عليه ببسطاره ثم يطلب من السجناء تناوله خلال 15 دقيقة أو لربما يسكب مواد تنظيف على الطعام ، مسحوق غسيل مثلاً ثم يحركه متباهياً أنه يضع لنا التوابل على الطعام ويجبرنا على أكله. كنا في معظم الأحيان نضطر إلى تصريفها في حمام المهجع اتقاءً لشر أكله والتسمم واتقاء شر عناصر السجن.

مع مرور الوقت بدأت أفقد أحساسي بالوقت حيث رأيت أن احتسابي لمدة وجودي هنا ضرب من العبثية، وقد أموت في أية لحظة حالي حال العشرات ممن رأيتهم يودعون الحياة بين جدران هذا الجحيم، وأسوأ ما وصلت إليه فقداني للأمل، وقفت في منطقة فقدان الأمل من كل شيء في الحياة لفترة طويلة؛ وها أنا أعود لأولد من جديد.


مواد شبيهة