#########

الضحايا

حصار المدنيين جريمة حرب


بدأ حصار المدن طويل الأمد يطفو على السطح مع طول مدة الصراع في سوريةـ  حيث تم تسجيل أكثر من 30 مدينة وقرية محاصرة من قبل قوات النظام السوري حتى عام 2017، وحوالي خمسة ملايين محاصر، معظمهم من مناطق واقعة ضمن "سورية المفيدة".

12 / تشرين أول / أكتوبر / 2018


حصار المدنيين جريمة حرب

 

 

*سائد الشخلها

 

قام النظام السوري خلال سنوات الثورة بكم كبير من الانتهاكات بحق المواطنين، بدأها باعتقال الأطفال مروراً بقمع المظاهرات، واعتقال المتظاهرين السلميين، وقصف المدن والبلدات التي حررتها المعارضة المسلحة، وصولاً لحصار تلك المناطق وتجويع أهلها وتهجريهم قسراً منها.

ويعد ملف الحصار من الملفات التي رافقت الثورة منذ اندلاعها، لاتخاذ هذا الاجراء من قبل النظام كحل مباشر لفصل المناطق الثائرة عن باقي المناطق، كي لا تنتشر شرارة الثورة لباقي المدن السورية وجعلها عبرة، معتمداً على تاريخه في قمع المدن الثائرة، والذي يتوج بحصاره لمدينة حماة عام 1982 وتدميره لأحياء كاملة فيها على رؤوس قاطنيها، ووأد ثورة قامت عليه في مهدها، وقيامه بمجزرة ماتزال إلى الآن وصمة عار بجبين هذا النظام المجرم.

 

وفي الثورة السورية كانت درعا شعلة الثورة، وكذلك كانت أول من يشرب من كأس الحصار، حيث قامت قوات النظام في شهر نيسان 2011 باقتحام المدينة بالدبابات، وفرضت عليها حصاراً خانقاً استمر لشهر من الزمن، أفضى لنقص شديد في المواد الغذائية والطبية ولانعدام تام لحليب الأطفال، قامت على إثره مظاهرات عارمة في شتى مناطق البلاد تطالب بفك الحصار عن درعا، توج هذا الحراك بصدور أول بيان في الثورة السورية من مجموعة كبيرة من الفنانيين والمثقفين مطالبين خلاله بفك الحصار عن المدينة وإدخال حليب الأطفال، وسمي البيان بـ” بيان الحليب”، لكن النظام جابه هذا البيان بحملة إعلامية شرسة على مصدري البيان واتهمهم بالخيانة؛ تلاها في أيار من نفس العام حصار مدينة بانياس، ثم معضمية الشام، فدوما وحماة وأحياء من مدينة حمص.

 

عقاب جماعي

أواسط عام 2012 شهدت تحولاً واضحاً في سياسة النظام اتجاه المناطق المحاصرة، خاصة بعد عجزه السيطرة عليها عسكرياً بعد انتشار كتائب للجيش الحر فيها، حيث قام بإغلاق جميع منافذها ومنع دخول المواد الأساسية من طحين وغذاء بقصد تجويع المدنيين داخلها، وجعلهم ينقلبون على تلك الكتائب، ليخسرهم أهم مميزاتهم ألا وهي القاعدة الشعبية، لكنه فشل في ذلك ليتحول بعدها الحصار لعقاب للجميع على مواقفهم، وهو ما وضحه بشار الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب حزيران 2012 بتأكيده على “أن الأمن الوطني خط أحمر ،ولا مبرر للإرهاب تحت أي ذريعة أو عنوان ولا تساهل ولا مهادنة معه ولا مع من يدعمه، ومهما كان الثمن غالياً فلا بد من الاستعداد لدفعه”.. في إشارة واضحة منه للمدن المحاصرة، ثم توالت بعدها كلمة “البيئة الحاضنة للإرهاب” في جميع خطاباته باعتراف صريح منه بتعمد حصار المدنيين لأنهم لا يؤيدون حكمه.

 

بدأ حصار المدن طويل الأمد يطفو على السطح مع طول مدة الصراع في سوريةـ  حيث تم تسجيل أكثر من 30 مدينة وقرية محاصرة من قبل قوات النظام السوري حتى عام 2017، وحوالي خمسة ملايين محاصر، معظمهم من مناطق واقعة ضمن “سورية المفيدة”، التي أعلن النظام عنها، حيث نالت كل من مدن دمشق وحمص النصيب الأكبر من الحصار، الذي قام به النظام؛ ففي دمشق وحدها سجلت 8 نقاط محاصرة جزئياً وكلياً، منها دوما والحجر الأسود ومضايا والزبداني وببيلا وغيرها كثير.

 

وحول حصار مضايا قال الناشط إبراهيم عباس: “فعلياً لم يكن هناك أي مواد طبية أو غذائية في المدينة، والمواد الغذائية التي وجدت في مستودعات المحلات انتهت خلال أول شهر من الحصار، وأول حالة وفاة من الجوع سجلت في شهر كانون الثاني عام 2015، مما دفع الأمم المتحدة لإدخال أول قافلة مساعدات وكانت عبارة عن سبع شاحنات خصصت لأكثر من 40 ألف محاصر معظمهم من النساء والأطفال، والذين كان لهم النصيب الأكبر  من المعناة والجوع والبرد، والألغام التي زرعها حزب الله في محيط المدينة؛ وما زاد الطين بلة، ظهور  مرض غير موجود في سوريا، وهو مرض “الكواشركور” و هو مرض نقص البروتين الحيواني، كان ضحاياه من الأطفال فقط، وفي حال أردنا شراء المواد من حواجز حزب الله فإننا ندفع ثروات صغيرة ثمناً للمواد الأساسية أو الضرورية، رأيت آباء يشترون علبة الحليب لأطفالهم بمبلغ 300 دولار أمريكي”.

يبقى حصار الغوطة الشرقية هو الأقسى والأشد دموية، إذ خلال خمس سنوات من الحصار لم يدخل إليها سوى ثماني دفعات من المساعدات، لقرابة نصف مليون محاصر كما صرح مركز توثيق الانتهاكات في سورية. وكانت آخر شاحنة مساعدات قد دخلت إليها قبل سنة كاملة من اتفاقيات الترحيل، التي أدت بنهاية المطاف من تفريغ كامل الغوطة من أهلها.

 

وتجلت قذارة النظام في استغلال الحصار وتوجيهه، بما يناسب مصلحته في حصار تنظيم الدولة لحيي الجورة والقصور في ديرالزور القابعين تحت سيطرته من خلال منع المدنيين من الخروج إلا بعد دفع مبالغ قد تصل إلى مليون ليرة سورية للشخص الواحد. وقد جند النظام الشباب للدفاع عنه، وأخيراً قام بمنع دخول المساعدات الإنسانية للمدينة، مع أنه كان يدخل السلاح والجنود عن طريق طائرات الشحن وبشكل أسبوعي، ما صنع أزمة إنسانية كادت تودي بحياة مئة ألف مواطن كحد أدنى.

 

استنكار وقلق

جرمت محكمة الجنايات الدولية حصار المدنيين في المادة السابعة من ميثاق روما الأساسيّ، واعتبرته جريمة إبادة والتي تشكّل جريمةً ضدّ الإنسانية، وتكوّن من أربعة أركانٍ هي إجبار الضحايا على العيش في ظروفٍ ستؤدّي حتماً إلى هلاك جزءٍ من مجموع السكان، وأن يشكّل السلوك عملية قتلٍ جماعيٍّ لأفراد مجموعةٍ من السكان المدنيين، وأن يُرتكب السلوك كجزءٍ من هجومٍ واسع النطاق أو منهجيٍّ موجّهٍ ضدّ سكانٍ مدنيين، وأخيراً أن يعلم مرتكب الجريمة أن السلوك جزءٌ من هجومٍ واسع النطاق أو منهجيٍّ موجّهٍ ضدّ سكانٍ مدنيين، ولهذا أصبح هذا الملف الأكثر أهمية بين ملفات الإنتهاكات للنظام السوري، لاحتوائه على أكثر من بعد سياسي وعسكري وحقوقي وحتى إعلامي، ما أدى لصدور بيانات وتقارير أممية وحقوقية كثيرة توصف الوضع وتفنده وتضع حلولاً مؤقتة لتخفيف هذه الانتهاكات، أو الحد من آثارها، ولكن هذه التقارير كان ينقصها الأعداد الحقيقية، والتوصيف الدقيق، لعدم قدرتها الدخول لهذه المناطق بسبب عدم سماح النظام السوري والميليشيات الإيرانية أو التابعة لحزب الله اللبناني الدخول لتلك المناطق ومعاينة الأضرار، وعدم قدرة الأمم المتحدة إجبار النظام السوري على إدخالهم بقرار أممي بسبب الفيتو الروسي.

وأصدر مجلس الأمن القرار رقم 2139 في شباط 2014 الخاص بإيصال المساعدات الإنسانية إلى سوريا بعد موافقة كامل أعضائه الخمسة عشر، ونحو شهرين من المداولات داخل أروقة الأمم المتحدة حول مشروع القرار الذي تقدمت به الأردن ولوكسمبرغ وأستراليا، ولكنه رغم تحميله النظام المسؤولية كاملة لم يؤدِ لأي تغييرات تذكر على الصعيد الإنساني.

 

ونوهت منظمة اليونسيف في تقريرها الخاص بآذار 2014 الذي أصدر تحت عنوان: “تحت الحصار. الأثر المدمر على الأطفال خلال ثلاثة أعوام من النزاع في سورية”، يعيش عدد من الأطفال في المناطق المتنازع عليها في أنحاء متفرقة من البلاد، مثل الرقة وديرالزور والحسكة، حيث يصعب النزاع وغيره من العوامل توصيل المساعدات الإنسانية، أو يجعله مستحيلاً. ففي شرق حلب مثلاً 500 ألف نازح عالقين بين منازلهم التي تعرضت للقصف.

وقدمت منظمة الصحة العالمية إلى النظام السوري عام 2015 عدة طلبات لإدخال مواد إغاثية إلى المناطق المحاصرة لكنه لم يستجب، حيث قالت ممثلة المنظمة في سوريا اليزابيث هوف: ” قدمت منظمة الصحة العالمية 102 طلب، فتمت الموافقة على 30 منها، فيما لم يصلنا رد حول الـ ـ72 الباقية.

وصف مجلس الأمن عام 2016 سياسية التجويع التي ينتهجها النظام السوري بـ “التكتيك الوحشي”، وبحسب إحصائية نشرتها الأمم المتحدة فإن 4،6 مليون سوري محاصرون داخل مناطق يصعب الوصول إليها من قبل قوافل الأمم المتحدة وهيئاته.

وصرح “بان كي مون” الأمين العام للأمم المتحدة في مطلع 2016 “لنكن واضحين، استخدام المجاعة كسلاح حرب هو جريمة حرب.

 

أما منظمة العفو الدولية “الأمنستي” قالت إن استراتيجية النظام المتمثلة في المنع المنظم لدخول واردات الطعام الأساسية والأدوية إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة، مع حملات القصف لهذه المناطق، يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في تقرير نشرته عام 2017.

وكان مجلس حقوق الإنسان قد كلف لجنة التحقيق المستقلة والدولية حول سوريا في آذار 2018 للتحقيق في أحداث الغوطة الشرقية، إذ جاء في التقرير أن “بعض الأعمال التي قامت بها القوات الموالية للحكومة خلال الحصار، خصوصاً حرمان السكان المدنيين من الغذاء بشكل متعمد، ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.

 

طاولات الحوار

الأمم المتحدة شددت باتفاقيات جنيف الأربع، وبروتوكول جنيف الأول المكمل لها، وكذلك القانون الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، على ألا تستخدم الملفات الإنسانية في الصراعات السياسية والعسكرية، ولكن النظام السوري منذ انطلاق بوادر الحل السياسي في سورية عام 2012 والمتمثل بجنيف1 ، والذي امتد خلال ثماني مؤتمرات متتالية لمدة خمس سنوات، لم يخل أي مؤتمر من الكلام عن المناطق المحاصرة، حيث كان وفد النظام يطرح ملف المناطق المحاصرة كملف سياسي، وتشدد قواته القصف على تلك المناطق قبل أي مؤتمر منها لكي يجر  المعارضة لتقديم تنازلات سياسية مقابل إدخال المساعدات الغذائية والطبية لتلك المناطق أو تخفيف القصف عنها، وكل هذا يحصل تحت عين المجتمع الدولي وشلله الكامل، خاصة وإن تلك المؤتمرات كانت تعقد تحت رعاية الأمم المتحدة، وبتنسيق “ستيفان ديمستورا” نفسه، ما برره بعض من المراقبين بأفول دور الأمم المتحدة كمنظمة ضامنة للسلام، وتحولها لسمسار حروب، وعزاه آخرون لخبث في السياسة الدولية اتجاه الملف الإنساني في سورية.

بعد سبع سنوات من الكفاح ضد الطاغية وعشرات المناطق المحاصرة ومئات آلاف المحاصرين من أطفال ونساء وشيوخ وجرحى، وعشرات البيانات والقرارات الأممية ومثيلاتها من الدراسات، ومئات حملات المناصرة المحلية والعالمية، والوقفات أمام مقرات الأمم المتحدة والسفارات الروسية في عواصم البلدان الأوروبية،ولم يبق شيء لم يفعله (العالم) ولا السوريون لفك الحصار عن المدنيين إلا وعملوه، قررت السياسة الدولية التضحية بكل ذلك للوصول بالملف السوري لمرحلة يصبح فيها الترحيل هو الحل الأمثل. يصبح وقتها الحل الأمثل لنا كحقوقيين سوريين وثائرين هي بتوثيق جميع هذه الجرائم لمحاسبة مرتكبيها في المستقبل، والعمل على عدم ضياع أي حق من حقوق الشعب السوري.

 

 

اقرأ المزيد للكاتب