#########

الضحايا

“حلوان السجان”قصّة نجاة معتقل سوري


“عدم التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية التابعة للنظام يجعل الكثير من المعتقلين مطلوبين لفروع أمنية عدة للأسباب ذاتها”

06 / كانون أول / ديسمبر / 2018


“حلوان السجان”قصّة نجاة معتقل سوري

 

*سلطان الجلبي _ موقع درج 

 

تحدّثت إلى رائد الحمصي المرّة الأولى أثناء محاولات النظام اقتحام سجن حمص المركزي المستعصي قبل عام تقريباً. كان يمضي عامه الرابع معتقلاً من دون أفق، يقبع ملفّه مع اثنين من إخوته في محكمة الإرهاب في دمشق من دون أن تصدر أحكام بحقهم. تحدّثنا مرّات أخرى عبر هاتفه السري حتى خروجه ومغادرته البلاد بعد سلسلة طويلة من الرشاوى والإجراءات و”الحلاوين”.

يقول رائد: “دفعنا أنا وأخوي 6 ملايين ليرة سورية ليصدر بحقنا حكم قضائي يديننا بتهمة الإرهاب ويقضي بحبسنا لمدة توازي المدة التي أمضيناها في السجن مسبقاً، لكن الأمر تطلّب  خمسة أشهر أخرى حتى تم تنفيذ الحكم وأفرج عنا”.

 

محامون مفاتيح لقضاة

مبلغ 6 ملايين ليرة أي ما يعادل 12 ألف دولار التي دفعها رائد وشقيقاه لا يُعدّ كبيراً في سوق شراء الأحكام القضائية من محكمة الإرهاب “لقد حاسبونا بسعر الجملة” يقول الرجل ضاحكاً، ثم يوضح أن السعر يرتبط بمضمون الدعوى وأيضاً “بالمفتاح” والمفتاح يعني الوسيط أو الوسطاء الذين تقدم من خلالهم الرشاوى إلى القضاة وشركائهم في الجهاز القضائي.

غالباً ما تكون “المفاتيح” محامين موالين للنظام كما يقول المحامي (ميشال شماس) عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سوريا، والذي أشار إلى وجود محامين يدافعون بكل مهنية عن موكليهم، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الغالبية التي تحوّلت إلى مجموعة سماسرة ووكلاء لقضاة فاسدين.

يؤكّد شماس أيضاً أن “عدد الدعاوى التي تمت إحالتها إلى محكمة الإرهاب منذ تأسيسها عام 2013 وحتى نهاية 2015 بلغ نحو 65 ألف دعوة، وتضم كل دعوى حوالى 3 معتقلين أو متهمين أي ما مجموعه أكثر من 150 ألف سوري. حكم على بعضهم حضورياً أو غيابياً، وأفرج عن بعضهم الآخر، بينما لا يزال عشرات الآلاف ينتظرون… بالتالي يمكننا تخيل حجم المبالغ التي تمر كل يوم عبر محكمة تصدر أكثر من 2000 حكم سنوياً”. إذاً كان رائد محظوظاً بمفتاحه على ما يبدو لكن صدور الحكم لم يكن نهاية المطاف.

“الاعتقال التعسفي في سوريا ليس فقط أداة سياسية وجريمة قانونية، بل هو أيضاً نكبة بالمعنى الاقتصادي”

استغرق وصول قرار الحكم إلى السجن قرابة شهر، حينها كان الأشقاء أمام إجراء خطير آخر، وهو “الفيش” يُنظر في ما إذا كان المعتقل مطلوباً لأي لجهة أمنية أو قضائية أخرى، من أصل ستين معتقلاً جاء قرار بإخلاء سبيلهم في دفعة رائد تم إطلاق سراح عشرين فقط، وقد اتضح أن رائد وشقيقيه مطلوبون أيضاً لمحكمة مدنية بتهمة “التظاهر وتخريب الممتلكات العامة” وكذلك لفرعين أمنيين ولخدمة الاحتياط. وجود استعصاء في السجن منع سحبهم إلى الأفرع الأمنية في ذلك الوقت وأعيد التحقيق معهم داخل السجن من قبل لجنة أمنية تضم عدة أفرع.

في غضون ذلك، دُفعت رشوة لاستصدار إخلاء سبيل عن دعوى المحكمة المدينة المذكورة، وبعد أسبوع جاء الرد من اللجنة الأمنية متضمناً إشعاراً بكف البحث عن الأشقاء، وأمراً بنقلهم إلى سجن عدرا في دمشق، ما يعني خسارة هامش الأمان الضئيل الذي يمنحه الاستعصاء.

يقول: “لم يكن لدي خيار في الواقع، إما أن أبقى في الجزء المستعصي من السجن لأجل غير مسمى أو أنصاع للإجراءات. بعد أسابيع من التفكير واستشارة المحامين سلّمت نفسي للأمانات في السجن، وفي اليوم التالي كبلوا يدي ووضعوني في سيارة إلى دمشق وتلك كانت دوامة جديدة”.

 

من سجن إلى فرع أمني إلى آخر، اختفاء رائد الثاني

خلال أسبوع أمضاه رائد وشقيقاه في سجن عدرا أرسل ملفّهم من السجن إلى النيابة ثم إلى محكمة الإرهاب وجاء الرد بإخلاء السبيل. لم يفرح الأشقاء عند سماع أسمائهم ضمن قائمة المقرر إخلاء سبيلهم في ذلك اليوم، فهم يعلمون أن أمامهم “فيش” آخر. يقول رائد: “تلفت أعصابنا لست ساعات ونحن ننتظر نتيجة الفيش، نحن لسنا في سجن حمص هذه المرّة وأي طلب أمني سيرد بتحويلنا مباشرة إلى أحد أفرع الأمن”.

وبالفعل كان الأشقاء مطلوبين للشرطة العسكرية وكانت تلك بداية ثلاثة أشهر من التنقلات بين سجون وأفرع أمنية في دمشق وحمص انتهت بإعادة تحريك الدعوى القضائية ضدهم ومثولهم مرة أخرى أمام محكمة مكافحة الإرهاب. كل ذلك من دون أن تعرف عائلتهم اللاجئة في لبنان أي شيء عن مصيرهم.

يقول المحامي ميشال شماس إن “عدم التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية التابعة للنظام يجعل الكثير من المعتقلين مطلوبين لفروع أمنية عدة للأسباب ذاتها… لا أستبعد أن يكون الأمر مقصوداً من قبل نظام لا يحمل أدنى احترام لقيم حقوق الإنسان”. وسواء كان الأمر مقصوداً أم كان مظهراً للفوضى في المنظومة الأمنية للسلطة التي اعتقلت وأخفت قسرياً حوالى ربع مليون سوري، فلن يختلف الأمر بالنسبة إلى رائد وأشقائه الذين عاشوا أسوأ أيام حياتهم تلك الفترة.

في أول جلسة محاكمة في محكمة الإرهاب، تدخّل المحامي الموكل ونجح في استصدار قرار بإخلاء سبيل جديد لهم، كانت الساعة بحدود التاسعة ليلاً حين وصل الأمر إلى سجن عدرا وحتى ظهرت نتيجة الفيش سلبية. هذه المرة كانت الثانية فجراً، الجميع قال لرائد أن ينتظر حتى الصباح ثم يخرج لكنه أصر على مغادرة السجن دون لحظة انتظار.

“عدم التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية التابعة للنظام يجعل الكثير من المعتقلين مطلوبين لفروع أمنية عدة للأسباب ذاتها”

“عند استلام أغراضي من أمانات السجن نظر العنصر المسؤول إلى مبلغ الأربعين ألف ليرة التي كانت بين الامانات وسألني: كم ستعطيني منها حلوان الطلعة؟ علمت أن الأمر ليس اختيارياً، ألف هنا و500 هناك حتى وصلت إلى باب السجن وقد دفعت لسجاني 25 ألفاً وأنا أضحك… خارج السجن كان سائقو سيارات الأجرة أيضاً من شرطة السجن بعمل إضافي، يأخذونك إلى حيث تريد بالسعر الذي يريدونه”. كانت المحطة الأخيرة لرائد وأشقائه هي حاجز على مسافة مئات الأمتار من باب السجن، أوقفهم لمدة ساعتين ونال إكراميات بـ10 آلاف ليرة عن كل شخص وانطلقت السيارة مرة أخرى نحو حمص، ومنها غادر الثلاثة في اليوم التالي تهريباً إلى لبنان.

لقد نجا رائد بخسارة خمسة سنوات من حياته وكل مدّخراته كما راكم ديوناً كبيرة، ويقول “إن الله أعطاني أكثر مما أستحق… حين أفكر بمن بقوا في المعتقلات أقول ليأخذوا البلد كلها لكن ليفرجوا عنهم، إن الاعتقال التعسفي في سوريا ليس فقط أداة سياسية وجريمة قانونية، بل هو أيضاً نكبة بالمعنى الاقتصادي بالنسبة إلى عائلات المعتقلين وباب واسع للفساد والارتزاق بالنسبة إلى عناصر النظام وشبكات المصالح العاملة في هذه التجارة”.

 

المادة من المصدر ⇐ هنا

.

.