#########

الضحايا

رحلة الشقاء المجهولة إلى فرع الموت “215”


في أحد الأيام سمعت أن الفنانة سمر كوكش قد أصبح داخل سجن عدرا، بعد تحويلها من فرع الخطيب، توجهت بسرعة تجاه الشرفة المطلة لأتأكد من الخبر وأراها... وفعلاً، تحدثت إلى تلك الإنسانة الرائعة التي كانت تساعد الفقيرات داخل السجن

21 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018


رحلة الشقاء المجهولة إلى فرع الموت “215”

 

 

 

الجزء الخامس

 

               *ياسمينا البنشي

 

من بين جموع أهالي المعتقلين المكتظة أمام غرف القضاة؛ اصطحبني أحد عناصر السجن ليدخلني إلى الغرفة الأخيرة، التي سوف يتم فيها محاكمتي أمام القاضي الخامس محمد العمر (من دمشق). كنت وحيدةً ولم يكن برفقتي أي محامٍ، بدأ القاضي بتقليب أوراق ملفي الكبير وهو يسألني هل فعلتِ هذا؟ أرتبك وأنظر إلى الكاتب وأقول: لا، هذا كله كان تحت التعذيب… أخبرني أنه سيطلق سراحي وأمرني بالانصراف. لم أصدق أني سأخرج من الجحيم. خمس خطوات فقط بعد إغلاقي باب مكتبه حتى نادى الكاتب على اسمي للعودة، وعندها عاد القاضي ليسألني من هو المحامي الذي يدافع عنك؟ فأخبرته أني لا أعلم.  قال لي: سيتم إيقافك لمتابعة المحاكمة… وكأنه قرأ في نهاية ملفي شيئاً ما يطلب منه توقيفي.

من بين إحدى عشرة معتقلة تمّ توفيقي وصديقتي رويدة لصالح محكمة الجنايات التي يرأسها ميمون عز الدين (من السويداء)، لتسقط أحلامنا هباءً منثوراً، عدنا إلى السجن لنودّع من أُخلي سبيلهنّ، ونستعدّ للانتقال إلى جناح الموقوفات.

بعد ثلاثة أيام حزمنا أشياءنا الشخصية لننتقل إلى الجناح الرابع (إرهاب). كان عدد الموقوفات آنذاك 42 معتقلة من بينهنّ طلّ الملوحي المحكومة خمس سنوات حكما مبرماً. لم أكن أتصور يوما أني سألتقي بتلك الشابة التي كنت أتابع قصتها على شاشات التلفاز.

أيضا المعتقلة منال كنعان (من حمص) التي كانت معتقلة في سجن دوما ومحكومة مع زوجها بالإعدام منذ العام 2000 بتهمة الخيانة العظمى والتجسس لصالح دولة أجنبية، إلا أنّ قرابتها بأسماء الأسد خفضت حكمهما إلى عشرين عاماً.

 

كانت غالبية المعتقلات الموقوفات من مدن حمص ودرعا. إحداهنّ “حامدة قدور” اعتقلت في مدينة حمص نهاية العام 2011 وهي حامل، وأنجبت طفلاً داخل السجن، وبقي معها طوال الوقت. أما مسؤولة جناح المعالجة الفيزيائية سهير الرفاعي من حمص أيضاً، فكانت معتقلة مع ابنتها الشابة لورا قيومجيان في العام 2013 بتهمة استدراج أحد الضباط.

 

تدخلت العديد من كنائس دمشق وحمص لإخراج الشابة كونها مسيحية أرمنية لكن دون جدوى، إلى أن تمّ إخلاء سبيل الشابة ووالدتها منتصف العام 2016.

للسيدة حسنى الحريري (من درعا) التي كانت في المهجع المجاور قصة لا تنسى، تتناقلها المعتقلات فيما بينهنّ عند تحويلها وابنتها من فرع الأمن السياسي بدرعا إلى الفرع 215. أدخل السجان الابنة وشابة كانت قد تحولت معهم من درعا إلى الغرفة الصغيرة، وحين أمرهما بخلع ثيابهما للتفتيش بدأت الشابتان بالصراخ، لتركض حسنى تجاه الغرفة وتنقض على أحمد عليا وتعضه من كتفه، فتنهال عليها الكابلات من قبل اثنين من العناصر دون أن تحرك ساكناً، خرجت السيدة حسنى بعد أيام من دخولنا الجناح ضمن صفقة تبادل الأسرى اللبنانيين لدى “لواء عاصفة الشمال” مع النظام السوري. من ضمن المعتقلات اللواتي خرجن من الجناح الرابع طل الملوحي، لكن خروجها كان لتبقى في فرع أمن الدولة وتعود ثانية لسجن عدرا بعد أربعة أشهر، كما خرجت في تلك الصفقة الشقيقتان سوسن وغادة العبار (من داريا) والناشطتان الإعلاميتان وردة سليمان (من ريف دمشق) وميسا الصالح (من حلب) إضافة لريم برماوي وهبة صيصان (من درعا) وفاطمة مرعي (من دمشق).

بقينا على تواصل مع جناح الإيداع الذي كان يفصل بيننا وبينه ساحة التنفس السماوية، وباب من الحديد نستطيع أن نرى من طرفه المعتقلات هناك، وإحدى شرفات المهاجع المطلة على الساحة، كنا نطمئن على كل فتاة أو سيدة تخرج ويُخلى سبيلها، ونحزن لسماع خبر الموقوفات ونتابع الوافدات الجدد من الأفرع، وكالعادة تقدم كل معتقلة بعد وصولها طلب إخلاء سبيل لتتعرف على تهمتها. يذهب الطلب إلى إدارة السجن ويعود بعد أسبوع مع الرفض مضاف إليه نوع الجرم؛ أغلب التهم المدونة كانت ارتكاب الأعمال الإرهابية أو الترويج وتمويل الإرهاب. لكن إحدى التهم الغبية التي وجهت لسيدتين من غوطة دمشق اعتقلتا على إحدى الحواجز، كانت للأولى (طبخ الطعام للمسلحين) أما الأخت الثانية فكانت تهمتها (تذوق الطعام المطبوخ للمسلحين)!

أما أغرب حالات الاعتقال والتهم فكانت لطالبة من دمشق في الصف العاشر. طلبت من خطيبها الذي يؤدي خدمته الإلزامية أن يعيرها مسدسه لتريه لصديقاتها، وحين أخرجته من حقيبتها داخل الصف قامت إحدى صديقاتها بالوشاية عليها لمديرة المدرسة ليأتي الأمن ويعتقل الطالبة، حتى بعد شرحها لهم بأن المسدس لخطيبها الذي لاذ بالفرار لاحقاً. لكنهم لم يصدقوها، لتكون تهمتها ترويج السلاح في المدارس العامة!

في أحد الأيام سمعت أن الفنانة سمر كوكش قد أصبح داخل سجن عدرا، بعد تحويلها من فرع الخطيب، توجهت بسرعة تجاه الشرفة المطلة لأتأكد من الخبر وأراها… وفعلاً، تحدثت إلى تلك الإنسانة الرائعة التي كانت تساعد الفقيرات داخل السجن. تهمتها تمويل الإرهاب فقط، لأنها ساعدت في إخراج طفلة من الغوطة المحاصرة لإجراء عملية جراحية. لم يكن والدها المخرج المعروف يزورها أبداً، بل عمها فقط.  حُكمت سمر بخمس سنوات سجن وخرجت بثلاثة أرباع المدة بتاريخ 28 فبراير 2017.

 وصول المعتقلة الأشهر وعالمة الفيزياء فاتن رجب (من دوما) إلى سجن عدرا في شهر فبراير من العام 2014، كان الحدث الأهم في ذلك الوقت. كنت أتوجه باستمرار باتجاه الشرفة لأسمع قصتها وأوثق ما جرى معها، بتاريخ 14 يوليو 2014 جاءت دورية عسكرية وأخذت فاتن إلى مكان مجهول يُعتقد أنه سجن صيدنايا العسكري، كونها محكومة بالإعدام لصالح محكمة الميدان العسكرية ولا تزال مجهولة المصير.

 

كان من الغريب بالنسبة لنا داخل سجن عدرا هو وجود نساء من الطائفة العلوية أو الشيعية (بنسبة قليلة جداً)، عملن سراً لصالح الثورة، لكنّ عقوبتهنّ كان مضاعفة سواء من قبل النظام السوري أو من قبل أفراد عوائلهنّ؛ فالمعتقلة منال موسى من الطائفة العلوية (طرطوس)، لم يكن يزورها أحد. تخلت عنها أسرتها تماماً، إضافة إلى  أنها تعرضت لشتى أنواع الضرب والتعذيب داخل الفرع، بينما المعتقلة إخلاص محمد من سكان منطقة الحسينية بريف دمشق والتي اعتقلت وهي حامل وأنجبت داخل السجن، على يد إحدى القابلات القانونيات المعتقلات آنذاك؛ حكمت بالسجن عشرين عاماً لصالح محكمة الجنايات الأولى التابعة لمحكمة قضايا الإرهاب دون أن يشفع لها انتماؤها للطائفة.

بدأت أعداد المعتقلات في الجناح تزداد يوماً بعد يوم نتيجة لازدياد كمّ الموقوفات من قبل محكمة الإرهاب، وحتى من قبل المحاكم العسكرية في المحافظات، حيث إنّ المعتقلتين سميرة هريسي وغازية العامود (من درعا) وصلتا السجن وهما موقوفات لصالح المحكمة العسكرية بدرعا. سميرة التي اعتقلت مع زوجها بتهمة إطلاق النار على أحد الحواجز في المدينة. ذنبهما الوحيد هي وزوجها قرب منزلهما من الحاجز. مأساة سميرة كانت قبل الاعتقال حين قام عناصر النظام باعتقال أشقائها الأربعة واقتيادهم إلى أطراف مدينة داعل وإعدامهم ميدانياً بالرصاص ثم رميهم بالوادي. أما غازية التي ضُربت داخل الفرع بالكابل الحديدي على رأسها، فقد وصلت السجن وهي مختلة عقلياً، علماً أنها أم لطفلتين وفتى صغير كان عناصر النظام يهددونها باعتقاله أثناء التحقيق، وتهمتها تمويل المسلحين لأنها كانت تحمل مبلغ أربعة آلاف ليرة سورية وخاتم وحلق داخل سرّة صغيرة ككل سيدة ريفية..

 

مع بداية العام 2014 وصل عددنا إلى أكثر من مئة موقوفة داخل الجناح الرابع فقط.

 

المزيد للكاتبة

هنا