#########

الضحايا

رحلة الشقاء المجهولة إلى  فرع الموت “215”


وزعنا على المنفردات الرطبة التي أغلقت علينا باستثناء واحدة نسي السجان قفلها لتخرج من كانت بها بعد ذهاب العناصر وتفتح لنا الأبواب جميعاً. تجولنا في ذلك الطابق الكبير جداً، واستطعنا أن نكسر قفل الجناح الأكبر (جناح الأحداث الذكور) لنقرأ أسماءهم المحفورة على الجدران

30 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018


رحلة الشقاء المجهولة إلى  فرع الموت “215”

 

 

 

الجزء السادس  

*ياسمينا البنشي

 

بدأت أعداد النساء المعتقلات بالتزايد، في كل يوم عشرات الوافدات من الأفرع، والعديد ممن يوقفهنّ القضاة يومياً. فلم يعد يتسع الجناح الرابع والخامس (إرهاب). لذا توجّهت إدارة السجن إلى اتخاذ قرار بتوزيعهنّ على باقي الأجنحة (قتل، سرقة، اختلاس…) لتكون حياتهن داخلها أصعب؛ حيث إن نزيلات هذه المهاجع معظمهن مجرمات حقيقيات، إضافة إلى أنّ أغلبهن من مؤيدات نظام الأسد طمعاً دائماً منهنّ في عفو مرتقب على جرائمهنّ.

 

جاءت التسريبات خلال زيارات الأهالي أنه تم خطف “مطرانين” من قبل إحدى الفصائل العسكرية لأجل التبادل؛ وهنا فهمنا سبب التوقيف المتزايد! فنحن دائماً رهن المبادلات، وما هي إلا فترة قصيرة حتى سمعن عن اختطاف راهبات من دير مدينة معلولا بريف دمشق من قبل جبهة النصرة التي طالبت بالإفراج عن ألف معتقلة مقابل الراهبات.

هنا اكتظت الأفرع وسجن عدرا بالنساء والفتيات اللواتي ليس لهنّ علاقة بأي نشاط أو عمل. بدأوا باعتقالهنّ من الشوارع كنتيجة للمطالبة بالإفراج عن ألف معتقلة. توالت الأيام ونحن نترقّب دون أن تتم أية مبادلة؛ فتزايد عدد الموقوفات داخل السجن يعني أن شيئاً ما يحدث في الخارج الذي ننقطع عنه تماماً.

-في تلك الفترة تم نقل الممثلة “ليلى عوض” إلى (الجناح الرابع موقوفات) بعد أن تم إيقافها من قبل قاضي محكمة الإرهاب على خلفية اعتقالها من الحدود اللبنانية، ونقلها إلى فرع الخطيب. قضت ليلى عاماً ونصف العام في السجون قبل أن يفرج النظام عنها في شهر مارس من العام 2015.

 

أما الشابة حُسن عبدان من إحدى عشائر ريف حمص، فقد اعتقلت منتصف العام ٢٠١٣ في مدينة حمص، ثم تم تحويلها إلى فرع المنطقة (٢٢٧) في دمشق، وهو الفرع الذي ينافس فرع الموت (215) في سمعته السيئة، والذي تعرضت فيه لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي.

 

فبعد أشهر من تواجدها داخل الفرع اهترأت ملابس حُسن التي لم تكن تملك غيرها، فأشفق على حالها أحد الشبان من مدينة حمص والذي كان يعمل داخل هذا المكان بعد فرزه إليه ضمن خدمته الإلزامية، حيث قام بسرقة بعض الملابس من المصادرات التي كانت موجودة داخل الفرع وأعطاها للشابة.

أثناء ذلك قام أحد العناصر بإخبار الضابط المسؤول عمّا جرى لتتم معاقبة الشاب وتحويله إلى القبو السفلي الذي كان يسمع عنه في الفرع أنه قسم الإعدامات البطيئة.

بعد حوالي عشرين يوماً وأثناء الليل سمعت الشابة صوت العناصر قادمين من القبو السفلي، فاختبأت وراء فتحة زنزانتها السفلية في العتمة لتسترق النظر وترى ذلك الشاب الذي قدم لها الملابس محملاً على بطانية عسكرية ميتاً مشوه الجسد من الضرب وكأن الجرذان نهشت جسده. لم تكن لتتعرف عليه لولا الوشم الذي كان على زنده.

الأغرب كان اعتقال إحدى النساء الأوروبيات في سجون النظام “جاسيلا كركمو” “إسبانية الجنسية”. كانت “جاسيلا” تسكن في ريف اللاذقية العام 2013 مع زوجها الذي قتله النظام بعد إطلاق الرصاص على سيارته وهو في طريقه نحو ريف إدلب واعتقل زوجته التي تم نقلها إلى الأمن العسكري في إدلب، ثم إلى فرع الأمن الجنائي بباب مصلى، وهناك تعرضت للاغتصاب من قبل أحد عشر عنصراً (كما حدثتني بعض المعتقلات اللواتي كنّ معها بالفرع) ثم إلى سجن عدرا، أصيبت “جاسيلا” بمرض السرطان وتدخلت سفارة بلادها لإطلاق سراحها إلى أن حدث ذلك بعد مفاوضات عديدة نهاية العام 2016.

-الامرأة الصلبة (كما كانت تُلقب داخل السجن) أم صلاح (محاسن الويش) من منطقة نهر عيشة بمدينة دمشق كانت معتقلة بسبب حوالة مالية صغيرة جاءتها من السعودية من قبل أحد أقربائها، وهي من أكثر المعتقلات اللواتي تم تعذيبهن في فرع باب مصلى. كانت تُضرب على أسفل قدميها إلى أن تفسخت ولم تعد تقوى على المشي، كما كانوا يقومون بخلع حجابها وشدها من شعرها على طول ممشى الفرع، والتهمة كالعادة التمويل والترويج للأعمال الإرهابية. زيارات محاسن كانت أسبوعية من ابنتيها صفاء ومها اللتان لم تنقطعا عن زيارة أمهما مطلقاً، إلى أن توقفت زياراتهما وانقطعت أخبارهن تماماً، لتفاجأ الأم بعد شهرين بوصول ابنتها صفاء إلى سجن عدرا معتقلة وموقوفة مباشرة بتهمة نقل معلومات من ذات السجن! قضيا سويةً أكثر من ثمانية أشهر إلى أن خرجتا بإحدى المصالحات الخاصة بحي الميدان الذي تنتميان إليه.

 

مع بداية العام 2014 بدأ الخبز يأتي إلى السجن عفناً وبه أشياء غريبة وكذلك الطعام كانت تسبح فيه بعض الديدان أحياناً. في الصباح الباكر بدأنا باستعصاء لمقابلة مدير السجن وأخذنا بالضرب على أبواب المهاجع، في كل مدة يأتي المساعد ويقول: “مدير السجن ليس في مكتبه، ساعة ويصل” وقبل فترة الغداء جاء اثنان من المساعدين برفقة الملازم سامر، وأخذوا معتقلتين اثنتين من كل مهجع بحجة اقتيادهن إلى مدير السجن كي يسمع طلباتهن، كنت من بين الاثنتي عشرة معتقلة اللواتي أخذن إلى المنفردات وليس إلى مدير السجن (فيصل العقلة).

تم تفتيشنا جميعا بشكل حساس من قبل إحدى سجينات جناح السرقة واكتشفوا بحوزتي ورقة كنت قد وثقت بها أسماء بعض المسؤولين عن جرائم داخل حي “السبينة والقابون” بريف دمشق من خلال بعض المعتقلات الناشطات اللواتي كنّ تعملن هنالك.

 وزعنا على المنفردات الرطبة التي أغلقت علينا باستثناء واحدة نسي السجان قفلها لتخرج من كانت بها بعد ذهاب العناصر وتفتح لنا الأبواب جميعاً. تجولنا في ذلك الطابق الكبير جداً، واستطعنا أن نكسر قفل الجناح الأكبر (جناح الأحداث الذكور) لنقرأ أسماءهم المحفورة على الجدران. كنت قد سمعت بالمعتقلين الصغار الذين تمّ نقلهم قبل وصول مجموعتنا بشهرين لكني لم أكن أتوقع أبد أنّهم كانوا بهذا الكم الذي فُتحت لأجله ستة مهاجع!

عندما علم العناصر بخروجنا من المنفردات عادوا بجنازير ثخينة أحكموا بها إغلاق تلك الزنازين المعتمة، وهكذا إلى أن خرجنا منها بعدما اشتدّ القصف على منطقة عدرا المجاورة للسجن.

تم التحقيق معي داخل السجن بشأن الورقة التي اكتُشفت بحوزتي، وسئلت عن أسماء المعتقلات اللواتي زودنني بهذه المعلومات دون أن أفصح عن أحدهنّ. أُعدّ لي ملف تحقيق كامل، وتم تحويله إلى فرع الأمن السياسي بالفيحاء، لكنني خرجت من السجن قبل الاستدعاء للتحقيق.

-جاء يوم العاشر من مارس ٢٠١٤ حين كنت أقف أمام باب الجناح أنتظر شيئاً ما أحسه قلبي.. إلى أن جاء المساعد “أبو علي الدالاتي” (من وادي بردى بريف دمشق) وهي يحمل ورقة كبيرة، اقترب مني وهمس من بين قضبان الباب “روحي ضبي غراضك بسرعة، جاء اسمك ضمن المبادلة” تجمدت في مكاني، أخذ يقرأ أربعة عشر اسماً طلب منهنّ جميعاً حزم أمتعتهنّ والاستعداد للرحيل، كانت الزغاريد والتكبيرات تملأ المكان والتوصيات تنهال على المعتقلات صاحبات الأسماء “لا تنسونا… لا تملوا عن المطالبة بنا… لا تنسوا التواصل مع أهلنا وطمأنتهم عنا… قوموا بزيارتنا إن استطعتم”

تناولنا هوياتنا وأغراضنا الشخصية، وتوجهنا بحافلة السجن إلى فرع الأمن السياسي بالفيحاء ليتم تجميعنا هناك استعداداً للمبادلة. عندما وصلنا كنت خائفة جداً فقد تم تحويل ملفي منذ أيام إلى ذلك الفرع، وضعونا في مهجع الرجال بسبب عددنا الكبير بعد أن نقلوهم إلى المنفردات. كانت تنتظرنا تسع معتقلات من محافظاتٍ مختلفة أتين من عدة أفرع، قضين وقتاً طويلاً داخلها ليصبح عددنا 23 معتقلة على عتبات الحرية المنتظرة.

 

المزيد للكاتبة:

هنا