#########

الضحايا

طفلة (الشعلة) واشتعال الأطفال داخل مناطق الأسد


إن نظام الأسد ما زال يرتكب جرائم ضد الإنسانية بحق أطفال سورية، بدءاً من القتل المنهجي الواسع، مروراً بإفقاد الأحياء منهم لأسرهم، وصولاً إلى حالات استنشاق تلك المادة التي لا تقل خطورة عن كيماوي الغوطة، ولن يطول الوقت حتى يأخذ مفعوله القاتل

16 / نيسان / أبريل / 2019


طفلة (الشعلة) واشتعال الأطفال داخل مناطق الأسد

 

 

 

*أحمد طلب الناصر- مع العدالة

 

“من قال لأبيها أن يصبح مسلحاً؟ “..

بهذه الجملة ردّ أحد أعضاء مجلس النوّاب الأسدي على مشهد الطفلة الدمشقية التي ضجّت بها مواقع الشبكة العنكبوتية داخل سورية وخارجها وهي تستنشق المادة اللاصقة “الشعلة” بداخل الكيس الأسود، والتي كادت أن تفقد حياتها بعد أن قفزت من ارتفاع يتجاوز طولها بأربعة أضعاف لتقع في مجرى نهر بردى الذي جَفّ خلال حكم عائلة الأسد وتحوّل إلى مصبٍّ لمجارير العاصمة ومرتعٍ للجرذان.

هكذا أصبح تصنيف نظام الأسد للأطفال في سورية، فريق يضمّ أبناء الثائرين – وهم بنظره مسلحون وإرهابيون-وبالتالي تنطبق عليهم أحكام الإهمال والرمي على قارعة الطريق كي يلقوا حتفهم بكافة الطرق المتاحة في الشارع السوري لقاء احتجاجات أهاليهم وثورتهم على النظام؛ أو بإمكانهم الفرار مع ذويهم خارج البلد وتحمّل صعوبات التهجير واللجوء وضنك العيش.

والفريق الثاني يضم أبناء المؤيدين والموالين والرماديين والمغلوب على أمرهم –وهم بنظره خدم وعبيد- وعليهم الاستعداد للتجنيد وتقديم أرواحهم مستقبلاً فداءً لاستمرارية النظام وثباته وتسلّطه على رقاب السوريين، وحتى هذا الفريق لم يسلم من الإهمال والفوضى، إذ أكدت العديد من التقارير الحقوقية تفشّي ظاهرة تعاطي الحبوب والمواد المخدرة بين الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن 18 سنة وغالبيتهم من طلبة المدارس.

 

 

كما وانتشرت على نطاق واسع مشاهد مصوّرة لتلاميذ من أبناء ضباط وأشخاص متنفذين في نظام الأسد يسخرون فيها من المعلمين والمعلمات داخل الصفوف والقاعات بصورة لم يعهدها المجتمع السوري طيلة تاريخه، ما ينذر بمخاطر تهدد مستقبل التعليم داخل مناطق النظام أكثر مما يحصل داخل دول اللجوء.

 

  • الظاهرة وانتشارها:

في العودة إلى قصة الطفلة وأبعادها الإنسانية الخطيرة التي دفعتنا لتسليط الضوء على واقع الأطفال داخل مناطق سيطرة النظام؛ فنحن لا ننفي وجود ظاهرة استنشاق مادة “الشعلة” منذ ما قبل اندلاع الثورة، إلا أن غالبية السوريين لم يصدفوا يوماً أن شاهدوا أطفالاً يمارسونها على العلن، إذ كانت محدودة جداً وتقتصر على فئة اجتماعية دخيلة على المجتمع السوري أو بين قلة قليلة من الأطفال الأيتام أو “اللقطاء” الذين لم تتمكن دور الأيتام من رعايتهم. كما وأن السلطات القضائية كانت تنشط في الحدّ من الظاهرة من خلال متابعة عناصر الأمن الداخلي “الشرطة” لممارسيها.

أمّا اليوم، مع سياسة الإهمال العام الذي تشهده غالبية المؤسسات الخدمية والمدنية للنظام مقابل الهيمنة الأمنية والعسكرية على مقدّرات البلاد؛ ما إن انتشر مقطع الاستنشاق العلني للطفلة المستلقية وسط أكثر المناطق اكتظاظاً في العاصمة السورية دمشق، حتى انتشر مقطع آخر لطفل يجلس وسط سوق شعبي في مدينة جبلة السورية يقوم بنفس الفعل، وعلى الملأ، وبأقل من يوم واحد على انتشار المقطع الأول.

ويبدو أن الفضول الذي دفع ذلك (الإعلامي) لتصوير الطفلة واستفزازها والتسبّب بقفزها إلى النهر وتعريض حياتها للخطر، هو ما حرّض الآخر لتصوير الطفل في جبلة، وكأنه أراد بثّ رسالة مفادها بأن الظاهرة أضحت ضمن سياق الحياة اليومية داخل المجتمعات السورية؛ ولن نستغرب إن شاهدنا العديد من المقاطع المشابهة تنتشر على صفحات ومواقع الإعلام مستقبلاً.

ولكي نمسك برأس الخيط الذي سيوجّهنا إلى الدوافع والأسباب المباشرة لبروز تلك الظاهرة والعديد غيرها من الظواهر المرافقة لحالة التشرّد الواسعة داخل البلاد، علينا الوقوف قليلاً عند إجابة الطفلة حين سُئلت عن أسرتها، بلهجتها الدمشقية العتيقة الواضحة: “أنا من (الشاغور)..أمي ميتة.. وأبي في السجن”. إذن، فالطفلة ابنة الشاغور، أحد أعرق أحياء دمشق، وتنتمي لذلك الحي أعرق العائلات الدمشقية تاريخياً؛ أما ما يتعلّق بسجن أبيها فقد أكّد سببه عضو مجلس الشعب حين أشار إلى توجهه –الأب- المعارضِ لنظام الأسد، ولا نستبعد أن تكون الأم قد لقت حتفها بداخل المعتقل أو بنيران النظام. وتسيطر الميليشيات الإيرانية اليوم على جزء كبير من حي الشاغور بالإضافة إلى أحياء دمشق القديمة الأخرى.

 

 

أما الطفل الذي بدا عليه التأثير الطاغي للمخدّر فقد أجاب سائله بأنه من مدينة “اللاذقية”، دون تمكّنه من النطق بأكثر من ذلك نتيجة فعالية المادة.

عيِّـنتان لطفلين سوريين أصيلين تحدّثا بلهجتيهما المعروفة رغم تأثير المخدّر، فما الذي أوصلهما إلى هنا؟ وإلى أين يسير مصير الأطفال السوريين اليوم؟

 

  • الأطفال في مناطق الأسد: إهمال وتشرّد وموت بطيء

قبل الإجابة على السؤالين السالفين نمرّ أولاً لنوضّح الواقع العام للأطفال السوريين؛ فبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إن أكثر من 3.2 مليون طفل داخل سورية حرموا من التعليم بسبب القصف والتدمير، أما في بلدان اللجوء فقد حرم ما يقرب من 60% من التعليم. إضافة إلى ذلك فقد تم استغلال الفريقين بشكل سافر في سوق العمل، ومن لم يحالفه الحظّ بذلك لجأ لأعمال التسوّل والسرقة.

 تزامن ذلك مع الدمار الكامل الذي لحق بأحياء كثيرة داخل المدن والبلدات ما دفع بأسرهم، التي تجاوزت أعدادها المليون ونصف، إلى التشرد قسراً، ونزوحاً ولجوءاً.

وبتلك الإحصائية البسيطة صار بإمكاننا القول إن سورية حصدت المرتبة الأولى في قائمة بلدان العالم الأكثر انتهاكاً لحقوق الطفل، في ظلّ نظام الأسد.

وتسود فكرة لدى الكثير من المؤسسات والمنظمات الأممية والأهلية بأن الأطفال داخل مناطق النظام هم أفضل حالاً من المهجّرين والنازحين خارج مناطق سيطرته، مستندين بفكرتهم تلك على توفّر المؤسسات والدوائر الحكومية والبنى التحتية اللازمة لتوفير العناية اللازمة للطفل في ظل استمرارية إدارة نظام الأسد لها. إلا أن الحقيقة التي يجهلها أو يتجاهلها المجتمع الدولي هي عكس ذلك تماماً، فالمعاناة المحيطة بأطفال الداخل، لا سيما النازحين من المناطق المدمّرة إلى مناطق النظام، تكاد أن تتجاوز معاناة أطفال اللجوء الذين بدؤوا شيئاً فشيئاً بتجاوز المشاكل النفسية والجسدية التي سببتها لهم الحرب بعد اندماجهم داخل مجتمعات اللجوء.

 

 

فبعد انخفاض وتيرة الاشتباكات والقصف بشكل كبير مقارنة بالفترات السابقة، نتيجة سيطرة النظام والروس والإيرانيين على أجزاء واسعة من سورية، وانعكاس ذلك الانخفاض على الإعلام الحربي الذي راح يخبو تدريجياً، بدأت الأخبار الراصدة لحياة وأنشطة المجتمع السوري تحتل الحيّز الرئيس من اهتمامات الناس داخل مناطق النظام. 

أهم تلك الأخبار ما يتعلّق منها بواقع الأطفال ومصيرهم الكارثي، فالحرب الدموية طويلة الأمد التي شنها النظام أدّت إلى تراجع عمل المنظمات الدولية والبرامج التي تقدمها للأسر السورية عموماً وللأطفال بشكل مباشر، أما هيئات المجتمع المدني فبقي نطاق عملها محدوداً جداً بسبب تحوّل الدعم المقدم لها إلى خزينة النظام ومؤسساته الأمنية.

 

 

أضف إلى ذلك، حالة التفكّك الأسري التي تشكّلت نتيجة التصفيات والتهجير والنزوح والهروب من القصف، إذ دفع ثمنها الطفل السوري دون غيره، فكان مصيره التشرّد والحرمان من أدنى حقوقه في السكن والمأكل والملبس والصحة والتعليم؛ وبحسب إحصائيات منظمة اليونيسيف فإن أكثر من مليون طفل سوري فقدوا أحد والديهم أو كليهما بسبب الصراع الدائر منذ العام 2011، نصفهم من النازحين داخل مناطق النظام؛ ويعاني هؤلاء مشاكل اجتماعية وصحية عديدة، ولعل أخطرها يتمثل في فقدان الأوراق الثبوتية الخاصة بالأطفال نتيجة النزوح المفاجئ والقصف والاحتراق ما يحول دون حصولهم على الخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية.

أما المشاكل الصحية والنفسية فتتمثل باضطرابات النطق، والسلوك، وحالات القلق، والسلس البولي، والانزواء والعزلة، والتأخر الدراسي، وصعوبات النوم، وعدم القيام بالأنشطة، جميعها ناتجة عن سماع أصوات القصف والمعارك، ورؤية مشاهد العنف الدموي.

كل تلك المشاكل وغيرها دفعت طفلتنا لاستنشاق تلك المادة اللاصقة، التي تحوي مواد كيماوية، تنتمي إلى مجموعة من المذيبات العضوية، تسبب تأثيرات عصبية مباشرة كالشعور بالفرح والنشوة واللامبالاة. إضافة لذلك فهي قابلة للاشتعال السريع، الميّزة التي أكسبت المادة اسمها (الشعلة)!

 

ختاماً، إن نظام الأسد ما زال يرتكب جرائم ضد الإنسانية بحق أطفال سورية، بدءاً من القتل المنهجي الواسع، مروراً بإفقاد الأحياء منهم لأسرهم، وصولاً إلى حالات استنشاق تلك المادة التي لا تقل خطورة عن كيماوي الغوطة، ولن يطول الوقت حتى يأخذ مفعوله القاتل.

وعلى المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والحقوقية والمنظمات المعنية بحقوق الطفل النظر بجدية لظاهرة التشرّد وتبعاتها الخطيرة، وبذل جهود حثيثة من أجل إيجاد حل سريع للوضع السوري، والقيام بتأهيل وإيواء الأطفال وأسرهم، وتقديم كل ما يلزم لإخراجهم من هذا المستنقع الذي يهدد مستقبل سورية المتمثل بأطفالها. بعد أن دمّر نظام الأسد ماضيها وحاضرها.

 

المزيد للكاتب