#########

الضحايا

عندما يدفع الخوف الأهل إلى التكتّم على اعتقال ابنهم !


أدخلوني إلى غرفة وطلبوا منّي الجلوس على كرسّي، وسمعت صوتاً يسألني" إي هات لشوف يا "ميلاد" شو علاقتك بالمسلحين وماهي أسماؤهم؟ 

03 / تشرين أول / أكتوبر / 2018


عندما يدفع الخوف الأهل إلى التكتّم على اعتقال ابنهم !

 

المحامي ميشال شماس

 عندما تعترض الإنسان مشكلة ما، فإن أول من يلجأ إليه لطلب مساعدته هو أحد أقربائه أو جيرانه أو أصدقائه، لكن ما حدث معي العكس تماماً، فعدا عن كوني قربياً لهم وننتمي إلى نفس القرية، ويعرفون أنني محام مهتم بحقوق الإنسان، ومكتبي في دمشق، وزيارة أي سجين في السجن ليست بالأمر الصعب بالنسبة لي، ومع ذلك خافوا أن يخبروني بأمر اعتقال ابنهم، حتى إنهم لم يجرؤوا على زيارته في السجن من شدة خوفهم، فما كان يُقال عن ابنهم إنه “إرهابي” كان كافياً لبث الرعب في قلوبهم. ولهذا تكتموا على توقيفه لمدة تزيد عن الخمسة أشهر في فرع المخابرات الجوية بدمشق ومن بعدها في سجن عدرا، قبل أن يتشجعوا ويطلبوا منّي أن أدافع عن ابنهم بعد أن ضاقت السبل أمامهم.

 

ترى هل أصبحتُ مخيفاً لهذه الدرجة حتى لأقربائي؟ أم أن مجرد تهمة “معارضة النظام” بحد ذاتها تبعث الخوف في نفوس الناس؟ بكل الأحوال لم أقف عند هذا الأمر كثيراً، فقد سبق أن تعرضتُ شخصياً لمثل هذا الموقف عند اعتقال ابنتي، وكيف أن جيراني في الحارة كانوا يتجنبون الحديث معي، حتى بعض أخوتي لم يجرؤوا على الاتصال بي، وصديقي الذي رفض أن يسلّم عليّ عندما التقيت به في الشارع مع أنني ساعدته في زواجه ووفرت عليه استئجار صالة عندما أقام حفلة عرسه على سطح بيتي في الدويلعة. كما سمعت شخصياً أحد المحامين المتعاملين مع الأمن في القصر العدلي بدمشق يقول لأحد أقارب المعتقلين: “لا توكل هذا المحامي وهو يشير بأصبعه عليّ، توكيلك له سيضرّ أخوك الموقوف لأن هذا المحامي معارض للدولة”، هكذا كان الأمن يحاول ثني الناس عن طريق عملائه من المحامين وغيرهم، بإثارة الخوف في نفوس الناس لمنعهم من توكيل المحامين المعروفين بدفاعهم عن معتقلي الرأي والضمير والمعارضين السياسيين، ولاسيما استاذي المحامي خليل معتوق المعتقل منذ /2/10/2012، ورغم ذلك كان الكثير من الناس يقصدون مكتبنا  للدفاع عنهم.

 

  في الواقع لم أكن أدري أن أحداً من أهل قريتي الصغيرة يتم اعتقاله دون أعلم بذلك، ولم أتوقع أن يتم اعتقال قريب لي كل هذه المدة  دون أن أعرف بخبر اعتقاله، إلى أن وردني اتصال من أحد أقربائي المقيمين بدمشق في تشرين الثاني 2012  أخبرني فيه أن “ميلاد” تم اعتقاله من قبل المخابرات الجوية منذ حوالي خمسة أشهر، وأنه تمت إحالته الى محكمة الإرهاب بتهمة التعامل مع الإرهابيين، وهو الآن موجود في “سجن عدرا”، وطلب مني أن أزوره وأطمئن على وضعه وأنظم له وكالة وأدافع عنه،  وأخبرني أنه تمكن من الاطلاع على ملفه بحكم علاقته باللواء جميل حسن مدير إدارة المخابرات الجوية، وإنه اشترى له بعض الثياب لكنه لم يجرؤ على توصيلها إليه في السجن، بحكم منصبه.. لم أناقشه في موقفه “الخرائي”، لأن النقاش مع أمثال هؤلاء عبثاً بعبث، وأبديت استعدادي للدفاع عنه، وطلبتُ منه أن يعطي رقم هاتفي لأهله لكي يتصلوا بي، وأسمع منهم شخصياً رغبتهم في أن أتوكل عن ابنهم. 

  لقد صدمني خبر اعتقال “ميلاد” هذا الإنسان الهادئ والخلوق الذي لم يكن له أي نشاط سياسي معارض ولا حتى موالي، كما علمت  ذلك من أهله، بل كان منشغلاً في تأمين معيشة عائلته بعد وفاة والده، وكذلك في متابعة دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة البعث. ولم يكن مهتماً أساساً بما يجري من تظاهرات واعتصامات واعتقالات و.. و.. الخ.  

 وبعد حوالي الساعتين اتصلت شقيقته وأخبرتني برغبتهم في الدفاع عن شقيقها، وعندما سألتها لماذا انتظرتم كل هذه المدة حتى أخبرتموني؟ ارتبكت ولم تعرف بماذا تجيب، ثم أوضحت لي: “بصراحة يا استاذ كنّا خافيين ومرعوبين حاولنا نسأل عنه ونوكل محامين ما حدا قدر يساعدنا، فسألتها مجدداً  ولماذا لم تخبروني بما حصل معكم فوراً ؟ أجابت : ” والله يا استاذ خوفونا منك، لأنك معارض للنظام  وإذا وكلناك يمكن أن يؤثر سلباً على وضع أخي.. هيك كانوا يحذرونا من توكيلك”.  فقلت لها: ” والآن هل مازلتم خائفين منّي؟ أجابت والله يا أستاذ طرقنا كل الأبواب وما خلينا حدا، الكل كان يخاف من الموضوع ويهمسوا من ورانا أن أخي إرهابي، وبعد ما تسكرت الأبواب أمامنا قلنا لحالنا إن أخي ما رح ينضر أكتر ما هو مضرور من بقائه في السجن دون محامي، لذلك تشجعنا واتصلنا معك وكلنا أمل في قدرتك على مساعدتنا في إخراج أخي من السجن”، ثم أخذت تعتذر  لصراحتها، قلتُ لها: “لا تخافي ولا يهمك، أنا عم ساعد الناس البعيدين عني، فكيف لا أساعد القريب مني، سأهتم به وسأبذل جهدي في مساعدته..؟

 ذهبتُ في اليوم التالي إلى “سجن عدرا” لزيارة قريبي “ميلاد” والاستماع إليه عما حدث معه ولماذا اعتقل؟ انتظرته في القاعة الخاصة بالمحامين، وبعد حوالي ربع ساعة شاهدت شرطياً برفقة سجين  يدخلا إلى القاعة، وسمعت الشرطي  يقول للسجين :” هذا محاميك، معكم ربع ساعة”، نهضتُ من مكاني وسلّمتُ عليه ثم قدمتُ نفسي له، فعلى الرغم من أنه قريبي، لكن في الواقع لم نلتق مع بعض قبل هذا اللقاء، وعندما عرفَ أن محاميه هو قريبه أيضاً أجهش بالبكاء مثل طفل صغير، حاولت تهدئته بينما هو لا يزال يبكي، وانتظرته حتى هدأ قليلاً، قلتُ له: “له له يا خال، يا حيف على الرجال تبكي؟ مو هيك أملي فيك أبداً، شوف الشباب يلي حواليك ولا واحد عم يبكي منهم.؟ ”  أجابني  بصوته المتهدج، والله يا خال قتلوني ومرمروني وماني عامل شي، وأنا ما صدّقت حالي أطلع حيّ من هونيك، والله يا خال شفتْ الموت بعيوني، أنا لي قاهرني إني ما عملت شي أبداً… وما حدا من أهلي زارني” هنا قاطعته قائلاً: وأنا شو عم أشتغل هون، وبعدين ما في داعي يجي أحد من أهلك ، فهل تريدهم  أن يتعرضوا للأذى؟ أجاب” طبعاً لا”، إذ كان الطريق من حمص إلى سجن عدرا محفوفاً بالمخاطر حينها، ثم  طلبتُ منه أن يحدثني  كل الذي حدث معه من لحظة اعتقاله وحتى تحويله إلى السجن..

أخذ “ميلاد” يحدثني بصوت مخنوق عن طريقة اعتقاله من قبل عناصر أمنية قائلاً: ” أثناء عودتي ياخال من العمل إلى البيت فوجئت بعناصر أجهل هويتهم يمسكون بي  بعنف وطلبوا مني الصعود إلى سيارتهم بعد أن قيدوا يديّ إلى الخلف وطمشوا عينيّ، ثم أخذوا يضربونني ويركلوني بأرجلهم ويشتموني في السيارة، ولم أشعر بنفسي إلا مرمياً على الأرض في مكان صغير ومظلم  وحولي عدد من الأشخاص لم أراهم في حياتي، حاولت النهوض فلم استطع، شعرت حينها أني محطم، فكل مكان في جسدي يؤلمني، عندها أخبرني أحدهم أنني في زنزانة فرع المخابرات الجوية بحمص، وساعدوني على الجلوس والاتكاء على الحائط، ومسحوا الدماء عن جسدي، كما أعطوني بعض الطعام والماء، وسألوني عن نشاطي  وسبب اعتقالي، وأذكر أني قلت لهم لا أعرف لماذا اعتقلوني وكل وقتي من الشغل للبيت ومن البيت للشغل”.

 يتابع “ميلاد” حديثه: “وفي اليوم التالي فتح باب الزنزانة وسمعت صوتاً ينادي على اسمي  طالباً مني الخروج ورأسي باتجاه الأرض، ثم وضعوا طماشة على عينيّ وقيودني من جديد وصعدت معهم الدرج بحدود طابقين  تقريباً، ثم أدخلوني إلى غرفة وطلبوا منّي الجلوس على كرسّي، وسمعت صوتاً يسألني” إي هات لشوف يا “ميلاد” شو علاقتك بالمسلحين وماهي أسماؤهم؟  ومتى بدأت العمل معهم ؟ وأين السلاح الذي كنت تستخدمه؟ وبوعدك إذا تعاونت معي أن اساعدك في الخروج من هنا إلى بيتك”، فوجئت بتلك الأسئلة، لكنّي أنكرت كلّ ذلك، فانهال أحدهم عليّ بالضرب طالباً منّي الاعتراف بكل شيء وإلا سيستمر بضربي، لكنني أصريت على نفي تلك الاتهامات، عندها سمعت المحقق يقول لي : وكمان عم تشتغل مراسل لقناة الجزيرة وتخبرهم إن الجيش العربي السوري  قصف “كنيسة أم الزنار” بحمص، ولك وين بتحط شرفك، ما بتعرف أن الجيش العربي السوري أشرف منك ومن الجزيرة تبعك وكل العالم؟ طبعاً أنكرت ذلك بشدة، ثم طلب مني أن استمع إلى صوتي وأنا أقوم بالاتصال مع قناة الجزيزة، لكن تبين لي أن الصوت لم يكن صوتي ولا حتى يشبهه أبداً، سألني المحقق: إي شو رأيك هلق بعد ما سمعت صوتك يا حيوان؟  نفيت بشدة أن يكون هذا صوتي  وأكدت لهم أني لا أعرف الجزيزة  ولا أشاهدها أبداً ولا أتعاطى السياسة، لكنهم لم يصدقوني، وكانوا ينهالون بالضرب العنيف عليّ كلما أنكرت ذلك”.

 ويختم ” ميلاد” حديثه عما جرى معه: ” بعد حوالي الشهر أخذوني مع بعض من المعتقلين إلى الشام، ولدى وصولنا وضعوا كل واحدٍ منا في زنزانة مختلفة عن الآخر، علمتُ  فيما بعد عبر بعض من المعتقلين الذين كانوا معي في نفس الزنزانة أنني معتقل في مطار المزة بدمشق، حيث بدأت جولة جديدة من التحقيق والتعذيب مرة أخرى، وأصروا على نفس الاتهامات، وأنا أصرّيت على نفيها مؤكداً لهم أنني لم أتعامل مع المسلحين، ولم أحمل سلاحاً مطلقاً كما لم أتصل بقناة الجزيرة، ولا بعمري اتفرجت عليها أصلاً. وبعد حوالي ثلاثة أشهر من احتجازي تحت الأرض، أخبروني أنه ستتم إحالتي غداً إلى سجن عدرا بتهمة التعامل مع الإرهابيين بعد أن بصموني على أوراق لا أعرف ماذا كتبوا فيها، وفي اليوم التالي أخرجوني من الزنزانة ووضعوني في سيارة مغلقة مع عدد من السجناء بعد أن طمشوا أعيننا وقيدوا أيادينا، وبعد حوالي الساعة وصلنا إلى سجن عدرا، و هناك شاهدت الشمس ورأيت الناس لأول مرة منذ خمسة أشهر، ثم أدخلونا إلى مهجع كبير ونحن شبه عراة إلا من اللباس الداخلي المهترئ  والمتسخ، فشعرتُ بالخجل من منظري المزري، وبعد حوالي ربع ساعة  فوجئت بشاب ألله يوفقوا ويكتر خيروا يعطيني ثياب وبطانية، ثم عرفني عن نفسه إنه من دوما.. وبعد حوالي  عشرين يوماً من وجودي في السجن تمكنت من الاتصال بأهلي وأخبرتهم أنني في سجن عدرا، وطلبت أن يزوروني  ويحضروا معهم ألبسة لي، وأنا منذ شهرين بالسجن ناطر حدا يزورني، مصاري ما معي وألبسة ما عندي..  والله تبهدلت يا خال”. 

حاولت طمأنته وتهدئة خواطره، وأكدت له أنني سأزوره باستمرار ولن أتركه حتى يخرج من السجن، كما سهلتُ عليه الأمر بالقول أنه ملفه بسيط وتهمته بلا دليل، وهنا دخل أحد السجناء إلى القاعة، فقالي لي “ميلاد”  يا خال شايف هذا الرجل يلّي دخل الآن، هو الذي ساعدني وأعطاني ملابس كما أمّن لي اتصال مع أهلي، اقترب السجين إلى حيث نجلس وبعد أن سلّم علينا توجه بكلامه إلى ميلاد: ” شو يا عمّي مين قدك وهاي صار عندك زيارات؟ ما قلتك أهلك مارح يتخلّوا عنك؟”، ضحكنا، ثم شكرته واثنيت على مساعدته لقريبي، فردّ عليّ السجين: “له يا استاذ نحنا هون كلنا أخوة إنشاء لله ولا فرق بيننا، فكلنا خلق الله”، وبعد أن عرف اسمي قال: ” إي والنعم منّك يا استاذ.. حضرتك  معروف هون.. كتير من المساجين عم يحكوا عنك وعن مساعدتك لهم. فقلتُ له هذا واجبي كمحامي.

وهنا دخل الشرطي وأعلن عن انتهاء الزيارة. غادرتُ السجن بعد أن أعطيتُ قريبي مبلغاً من المال وتركتُ  له بعض الحاجيات والثياب التي ارسلتها له أمه في السجن، وطلبت منه أن يكون مطمئناً طالما أنا محاميه. 

  في اليوم التالي ذهبتُ إلى محكمة الإرهاب وأطلعت على الملف، وكان الضبط الأمني يحتوي فقط على صفحة واحدة من عشرة أسطر، وورقة صغيرة كتب عليها بخط مطبوع ملخصه ” إلى محكمة الإرهاب نقدم إليكم موقوفاً المدعو “ميلاد” لمحاكمته وفق قانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 لقيامه بالتعامل مع المسلحين في حمص والوقوف معهم على الحواجز والاتصال بالقنوات المغرضة، ونقل أخبار كاذبة لتشويه سمعة الجيش العربي السوري. ونطلب إليكم محاكمته وإصدار الحكم اللازم بحقه وتزويدنا بنسخة من الحكم لضمها إلى ملّفه الموجود لدينا.”

  أخبرت والدته بأن وضع “ميلاد” مطمئن ولا شيء يدعو للقلق..  كلّها شهر وبيطلع .. بس لحتى يجي دوره بالاستجواب، لأن توجد أعداد كبيرة من المعتقلين يتم تحويلهم يومياً إلى محكمة الإرهاب  ولا يوجد في محكمة الإرهاب إلا قاضيين  فقط ويحتاجون إلى وقت طويل لاستجواب هذه الأعداد الهائلة من المعتقلين، كما أكدتُ لها أنني سأزوره بين فترة  وأخرى، فَرِحتْ والدته كثيراً، وأخذت تطلب وتدعي لي.. وبعد شهر حان دوره في الاستجواب، فتم استحضاره مكبلاً من سجن عدرا مع عدد المواقيف، واستجوبه القاضي بحضوري، وقرر تركه لعدم كفاية الأدلة..

وفي اليوم التالي أحيل “ميلاد” من سجن عدرا إلى فرع الأمن الجنائي في باب مصلّى، لوجود إشارة حول أسمه بأنه مطلوب للتجنيد الإجباري، وكنت قبل ذلك قد اتصلتُ بأحد معارفي لمساعدتي تحسباً لأي طارئ، حيثُ طلب منّي مراجعة المقدم المناوب، وفعلاً دخلت إلى مكتب المقدم، وعرّفته عن نفسي، وأخبرته أن قريبي أُطلقَ سراحه من محكمة الإرهاب وهو الآن موجود في نظارة الفرع، وأريد أن أسلّمه دفتر العسكرية كونه مؤجل دراسياً، اتصل المقدم بالنظارة وطلبَ إحضاره إلى مكتبه، وبعد قليل دخل شرطي ومعه “ميلاد”، وفوجئت به مصاباً بالجرب حيث القيح والدمامل تغطي يديه. نظر المقدم إلي “ميلاد” ثم سأله: “ما بدك تسلم على خالك؟” ثم نظر إليّ، شعرتُ حينها أن المقدم  وكأنه يريد أن يختبرني وكيف سأتصرف معه؟ هل سأسلم عليه ومنظر الدمامل المقيحة المقزز على يديه؟ تجاهلتُ الأمر وبادرتُ بلا تردد إلى احتضان “ميلاد” بقوة وقبلته على وجنتيه، أمام هذا المشهد، أيقنَ الضابط صدق كلامي، ثم توجه إلى ميلاد قائلاً بعد أن أعطاه بطاقته الشخصية ودفتر تجنيده: “ما عاد بدي شوفك هون، هلق لقيت مين يساعدك، بكرا بيجوز ما تلاقي حدا حدك”. وبعد أن شكرته، اصطحبت معي “ميلاد” وهو غير مصدّق أنه أصبح حراً طليقاً، إلى أن خرجنا من باب فرع الأمن الجنائي وتجاوزنا الحاجز الأمني  وأصبحنا في قلب ساحة باب مصلى حيث مشهد السيارات والناس، وبينما هو مشغول بحركة السيارات والناس في الساحة وحولها فاجأته بقولي له: “والدتك على الهاتف ألم تشتاق لسماع صوتها ؟” ألتقط الهاتف منّي بسرعة، والدموع تنهمر على وجنتيه، بين الفرحة والدموع لم يعد يعرف ماذا يقول لوالدته سوى أنه قال لها: “ماما انا بحبك، بحبك، بحبك اشتقتلك كتير وجاي بسرعة لعندك انطريني” ثم أعطاني الهاتف قائلاً لي ” يا خال أعصابي ما عاد تحملني، أحكي مع امي وخبّرها بكل شي”.

اخذت الهاتف منه وباركت لوالدته بخروجه سالماً، وطمأنتها أنني سأهتم به حتى صعوده الباص في كراج العباسيين، ثم تابعنا سيرنا إلى أقرب محل للموبايلات، فاشتريت له جهاز موبايل مع خط جديد، وتناولنا طعام الغذاء في إحدى محلات ساحة باب مصلى، ثم حاولتُ عبثاً اصطحابه إلى المشفى لمعالجته من الجرب، واستضافته في بيتي ليرتاح قليلاً، إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً، وأصرّ على السفر فوراً إلى حمص. 

لم يكن أمامي من خيار سوى تلبية رغبته، استقلينا سيارة أجرة باتجاه كراج العباسيين، وهناك أمّنتُ على سفرته في احدى الميكرو باصات المتجهة إلى حمص، وقد استغرق وصوله إلى بيته أكثر من خمس ساعات نظراً للحواجز الكثيرة على الطريق، بقيت خلالها قلقاً وخائفاً عليه، رغم أنني زودته بكتاب يؤكد الإفراج عنه من القضاء، لكنّ قلبي لم يطمئنّ حتى سمعتُ صوتَ أمّه وهي تخبرني أنه وصل إلى البيت سالماً، وهي بالكاد تستطيع الكلام من شدة فرحتها بلقاء ابنها بعد غياب عنها استمر لسبعة أشهر.

حكايتي مع “ميلاد” ليست الحكاية الوحيدة، بل هي نموذج عن عشرات ومئات القصص والحكايا التي حدثت معي ومع زملائي منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظام الأسد في آذار2011، والهدف من كتاباتها ونشرها هو لتسليط الضوء مجدداً على ما يعانيه المعتقلون والمعتقلات في سجون الأسد وأقبيته، الذين فاقت أعدادهم وحجم معاناتهم أي تصور ممكن، في ظل استمرار تقاعس الجهات المحلية والدولية المعنية عن إيجاد حلّ لهذه المأساة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

  لنعمل ما بوسعنا، لنصرخ بأعلى أصواتنا، ولا يجب أن نكف عن الصراخ طالما يوجد معتقل واحد سواء في سجون وزنازين النظام أم في سجون المعارضة المسلحة.؟

 

***