في ذلك المساء نودي على أسماء من سيتم إعدامهم، في صبيحة اليوم التالي، كما جرت العادة، وكان بكري ومن معه، ضمن هذه القائمة، وفي الصباح بينما كانت أعواد المشانق تنصب، ونحن جلوسٌ ننتظر صيحاتهم
28 / شباط / فبراير / 2020
*مع العدالة| محمد برّو
كانت بيننا مجموعة صغيرة محكومة بالإعدام، في مهجع الأحداث في تدمر (وهو مهجع لمن لم يبلع السن القانونية يوم اعتقاله) وهي مجموعة “بكري فتى نحاس” كانوا جميعاً من مواليد “1962” وهذا يعني أنهم في سنة اعتقالهم، كانوا في سن الثامنة عشر، وتم الحكم عليهم بالإعدام، مع العلم أنهم لم يشاركوا في أي عملٍ سياسيٍ أو عسكري، وكان قتلهم محض انتقام من ذويهم.
في ذلك المساء نودي على أسماء من سيتم إعدامهم، في صبيحة اليوم التالي، كما جرت العادة، وكان بكري ومن معه، ضمن هذه القائمة، وفي الصباح بينما كانت أعواد المشانق تنصب، ونحن جلوسٌ ننتظر صيحاتهم، التي حفظناها كلاحقةٍ لأسمائهم، وما هي إلّا دقائق، حتى كنا نسمع تلك الصيحات البطلة، والتي تنطلق من حناجر لا تقيم للموت وزناً، وها هو بكري يصرخ بملء حنجرته “فزت ورب الكعبة”، ويليه عز الدين نعساني الذي صرخ “طاب الموت يا عرب”، وتوالت الصيحات وكنا نراهم عبر ثقوب الباب صقوراً تفلت من قبضة الظالمين، إلى عالم رحب طالما تاقت له أرواحنا.
ليس للكلمات أن تطاول روعة المشهد، الذي كنا ننظر إليه بقلوب واجفه، كانوا يساقون للموت بأنفس مطمئنةٍ، وبأقدام متينة، لم يسترحم أحدٌ منهم جلاده، ولم يظهر ضعفاً، كانوا مئةً وعشرين شهيداً، تم إعدامهم في أقل من خمسين دقيقة، وحملوا إلى حيث يثوي من سبقهم.
في ذلك اليوم حدث حادثٌ مفجعٌ، سيردنا خبره مع الأصدقاء الذين سيعرضون على المحكمة، بعد حفلة الإعدام، ففي المهجع الرابع من الساحة الأولى، كان من بين السجناء، سجينٌ حمويٌ، هو الدكتور “مخلص قنوت” وكان إنساناً موسوعي الثقافة، تحسبه من الأطباء الذين عاصروا الحسن بن الهيثم، وابن سينا وأشباههم، لعمق معرفته وكثرة مواهبه، التي تتجاوز اختصاص الطب، وكان مصابا بطلقٍ ناريٍ في ساقه، ساعة اعتقاله من دمشق، الأمر الذي سبب له إعاقةً في الحركة، وفي صبيحة يوم الإعدام، نودي على اسمه، وكان محكوماً بالإعدام، فخرج من مهجعه حبواً، وأمره الرقيب مرهج بفظاظته المعهودة، أن يقف ليتم تكتيفه وعصب عينيه، فرفض ونظر إليهم بتحدٍ، وأغلظ لهم في السباب، وحين اقترب منه الرقيب مرهج ليضربه، دافع عن نفسه بأطرافه الأربعة، فما كان من مرهج إلا أن طلب من الحرس أن يلقم بندقيته، وطلب من بعض عناصره سكيناً فأحضروها على عجلٍ، واجتمعوا عليه وقيدوه وثبتوه إلى الأرض، فاقترب منه “مرهج” وقام بذبحه وجز عنقه بالسكين “بنفس الطريقة التي تفعلها عناصر داعش اليوم” وبقي واقفاً وهو يضغط بقدمه، على رقبة الذبيح حتى فارق الحياة، فحملوه إلى ساحة الإعدام، لكي يرمى إلى جانب باقي جثث أصحابه، وكما توقعنا فقد تمت مكافئة “الجزار مرهج” والثناء عليه أمام الضباط، ومنحه إجازةً طويلةً، ليتمتع بها مع أسرته.
- أذكر أنني قرأت كتباً عديدة، عن سجون النازيين أو سجون الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لكنني لم أقع على فظائع بهذا القدر المروع من الوحشية والانحطاط الإنساني والتوحش المفرط في وحشيته، باستثناء المحرقة التي تمت بحق اليهود.
سنبقى نذكر “مخلص قنوت”، كلَّما سمعنا صوت الجزار “مرهج” أو مر ذكره السيئ، وربما تجود الأقدار ذات يوم ليكون للكثيرين ممن شهد فظائعه وجرائمه دور مهم في الشهادة عليه في محكمة يحلم جميع من عرفوه أن يساق إليها هو وأشباهه من الوحوش، أشباه البشر.
سيحدثني صديقي نادر، وكان مكتبه في مدينة طرطوس، أنه التقى بالرقيب “مرهج” ذات يومٍ في إحدى الدوائر الحكومية، وكان مرهج قد عُيّن موظفاً فيها، بعد أن سُرِّح من خدمته العسكرية، وكان صديقي يمر بدائرته، بين الفينة والأخرى لضرورات العمل، فيجده جالساً خلف طاولة قديمة، موظفاً من الدرجة الثالثة لا يأبه له أحد، ممن يعيَّنون لتسلم المرتب وحسب، ولا يمارس أي عملٍ يذكر، وكانت ترتعد فرائصه وتعلو وجهه صفرة الموت، كلما مر صديقنا أمامه، وألقى إليه بالتحية، ولم يكن يجرؤ على سؤال صديقنا، عن مصدر معرفته به، ولم يكن صديقنا يجرؤ على الحديث إليه، فما تزال دولة العصابات الأمنية، تُحكم قبضتها على أعناق السوريين، في كل مكان، ما يدهشني أن صديقي لم يفكر للحظةٍ واحدةٍ، بالانتقام من هذا المجرم، بالرغم من قدرته على ذلك، بطرقٍ خاصة، وسأدرك بعدها أن جميع من خرجوا من سجون “حافظ الأسد”، لم يكن في نفوسهم أدنى منزعٍ للانتقام، لم تسجل حادثة انتقامٍ واحدةٍ قام بها سجين تدمري تجاه جلاديه.