بعد أقلّ من نصف ساعة نقلوا جهاد قصاب إلى منفردة، وبقينا نسمع صوته لساعات وهو يصيح من شدّة التعذيب، كان صوته عالياً جدّاً، يصرخ لدرجة كنّا نشعر بألمه.
06 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
حوار
*رزق العبي
“كان التعذيب النفسي أشدّ إيلاماً في نفس اللاعب جهاد قصاب، من التعذيب الجسدي. “إذ اعتبر جهاد” أنّ النظام السوري كافأه أخيراً على انجازاته الكروية بالاعتقال والإهانة والتعذيب”.
من مستطيل أخضر طوله ما يقارب 118 متراً، وعرضه 45 متراً، إلى غرفة مظلمة طولها وعرضها لا يتعدّى أمتاراً كوفئ لاعب ونجم كرة القدم السورية “جهاد قصاب”، بالسجن والتعذيب حتى الموت.
حيث اعتقله فرع الأمن السياسي بمدينة حمص، في شهر آب عام 2014، وبقي معتقلاً حتى أيلول 2016 إلى أن جاء خبر مقتله تحت التعذيب في سجن صيدنايا، وأذيع خبر الوفاة في أحد مساجد حيّ الوعر بحمص، دون تسليم الجثّة لأهلها.
تقصّد نظام الأسد السريّة وعدم تسريب أي معلومة عن ظروف ومكان اعتقال اللاعب جهاد قصاب، ولم يتمكّن أحد من معرفة مكان سجنه، طوال فترة اعتقاله حيث يحرص نظام الأسد على منع تداول مثل هذه المعلومات، خصوصاً مع الشخصيات المشهورة في سوريا، والتي يجري اعتقالها لوقوفها في صفّ الثورة السورية والمطالبة بإسقاط النظام.
_مع العدالة_ التقت الصحافي “محمد عمار” الذي كان شاهداً على تعذيب اللاعب في إحدى أفرع الأمن بمدينة حمص..
يقول “عمار” وهو صحافي من مدينة حمص، اعتقله عناصر يتبعون للأمن السياسي لمشاركته في المظاهرات السلمية، إنه “من بين الشهود القلّة ممن شاهدوا اللاعب جهاد قصاب في السجن بإحدى زنازين أفرع الأمن في مدينة حمص، قبل أن يُنقل إلى دمشق”.
كيف كانت الحالة النفسية للاعب جهاد قصاب حين شاهدته في السجن؟
حين اعتقلني الأمن وأخذني إلى المعتقل شاهدت من لحظة دخولي اللاعب جهاد قصاب، كان وفيما بعد لاحظتُ أنه يمدّ المعتقلين بالقوة داخل الزنزانة.
كان وجهه مألوفاً بالنسبة لي، كما هو مألوف بالنسبة لأهالي حمص على وجه الخصوص، وما أن دخلت الزنزانة حتى عرفته. كانت تبدو عليه آثار التعذيب الجسدي منها والنفسي، ولكن كان على الرغم من حالته يمدّنا بالقوة والعزيمة.
لم تشفع لـ”جهاد قصاب” سنوات لعبه كمدافع كرة قدم ونجوميته، وعدا عن أنه اعتزال اللعب عام 2008 بسبب الإصابة، دون أي تعويض مادي، حاله كحال عشرات اللاعبين السوريين، إنما ردّ نظام الأسد الجميل والعرفان على طريقته، منهياً حياة قصّاب تحت التعذيب عام 2016.
من كان يعذّب اللاعب جهاد قصاب؟
السجّان كان يميّز بيننا في التعذيب، فلقد كان يتقصّد تعذيب جهاد أكثر منا كلّنا، وكان هذا الأمر أكثر إيلاماً في نفس جهاد؛ ونحن نرى فيه اللاعب “الخلوق” وابن بابا عمرو الحمصيّ، الذي كان يسعى النظام إلى تعذيبه نفسياً وجسدياً.
ينادى عليه بألفاظ مهينة، وفي كثير من الأحيان كان جهاد يصرخ في وجوههم إلّا أنّ ذلك يعود بالضرر عليه.
وكيف كانت علاقته معكم داخل السجن؟
جهاد رغم تعبه الجسدي والنفسي يعمل كمدلّك وطبيب رياضي داخل السجن، فكثيراً ما كان يُجري تمارين بسيطة ومسّاج للسجناء للتخفيف من آلامهم. لكنّ “قصاب” كان حزيناً تعبق الحسرة في ملامح وجهه.
“كان جهاد يحدّثنا بألم وحسرة، عن مكافأة النظام له، بعد هذا العمر من العطاء الرياضي، ثم يسرد لنا كيف كان يشعر بالسعادة والفخر حين يسجّل أهدافاً لمنتخب وطنه، أو يمنع هدفاً محققاً، (واليوم جاؤوا بي إلى السجن لأن أحد أقاربي اعتقل واعترف أني كنتُ أتظاهر ضدّ النظام، فاتهموني بحمل السلاح) والكلام هنا على لسان جهاد لنا داخل السجن”.
اعترف جهاد، مثلما اعترف قريبه، بما نُسبت إليهم من تُهم، مكرهين تحت التعذيب، لتبدأ حلقة جديدة من التعذيب استمرت حتى فارق الحياة.
هل كان جهاد واثقاً من أنّه سيخرج من السجن يوماً؟
كلنا كمعتقلين لا نتوقع يوماً أن نخرج من السجن، وخصوصاً جهاد الذي كان متأكّداً بأنّ نظام الأسد سيصفّيه داخل المعتقل، لكن كان لديه صبر وقوة يمدّ بها كلّ المعتقلين، فجهاد كل حين يتحدّث لنا عن الظلم وعن الثورة، وعن إجرام النظام بدءًا من أصغر الأمور وحتى أكبرها.
هل تتذكر موقفاً حدث مع جهاد داخل السجن؟
حصلت إحدى المواقف داخل الزنزانة، بين “جهاد قصاب” ومعتقل له (واسطة) لكونه شبّيحاً، دخل إلى السجن ليكون عينَ الأمن بين المساجين، جاؤوا به بتهمة مشكلة عادية بين حاجزين تابعين للنظام، وأثناء الاعتقال، طلب هذا الشخص من مدرّس معتقل معنا أن يروي له قصّته وسبب اعتقاله، ولكنّ الشخص طلب ذلك من المدرّس بسخرية، فرض المدرّس الكلام وأدار ظهره للشبيح، فشتمه نظراً لسلطته داخل السجن، ولم يجرؤ أحد على الحديث بأي شيء، باستثناء اللاعب “جهاد قصاب” حيث أمرَ العنصر بعد أن ركنه إلى الجدار قائلاً: (احترم نفسك)، وحصلت بينهما مشادّة كلامية استمرت دقائق..
وماذا حدث بعد ذلك؟
بعد أقلّ من نصف ساعة نقلوا جهاد قصاب إلى منفردة، وبقينا نسمع صوته لساعات وهو يصيح من شدّة التعذيب، كان صوته عالياً جدّاً، يصرخ لدرجة كنّا نشعر بألمه.
متى شاهدتً جهاد آخر مرّة؟
أدخلوه إلى الزنزانة وهو تعب جدّاً، وآثار الضرب بادية عليه بشكل ملفت، لقد عذّبوه كثيراً لدرجة أننا ساعدناه بالدخول من الباب إلى داخل الزنزانة، ثم أخذوه بعد ذلك للتعذيب وخرجت من المعتقل ولم يعدْ جهاد إلى الزنزانة أبداً، إلّا أنّه على الأرجح قد جرى تحويله إلى اللجنة الرباعية، التي نسبت له جرائم كثيرة منها قتل ضباط وسرقة سلاحهم، وبعدها حولوه إلى دمشق إلى أن قِيلَ إنه مات تحت التعذيب.
“جهاد قصّاب”.. أحد أعمدة نادي الكرامة الرياضي الحمصي، والذي حقق انجازاً غير مسبوق في تاريخ الكرة السورية، حين وصل إلى نهائي دوري أبطال آسيا عام 2006.
ينحدر جهاد قصاب، الذي لعب مع العهد وشباب الساحل اللبنانيين والمنتخب الوطني السوري سابقاً، من حي بابا عمرو، وهو من مواليد 1975، ولديه ثلاثة أولاد.
أيّد جهاد قصاب الثورة السورية منذ بدايتها، وذلك بالتزامن مع مناصرة حيّه (بابا عمرو) لصيحة السوريين منذ بداية الربيع العربي.
وعلى الرغم من كون “قصّاب” ليس اللاعب السوري الوحيد الذي اعتقلته أجهزة أمن النظام السوري، إلّا أنّ الغموض الذي لفّ ظروف اعتقاله، ومن ثمّ مصير وفاته تحت التعذيب، تستدعي التأكد من خبر موته، حيث ورد في جريدة (زمان الوصل) قبل أشهر، اسم اللاعب “جهاد” في إحدى قوائم القتلى تحت التعذيب في سجون النظام، وتشير اللائحة بحسب الجريدة إلى أنّ جهاد جرى توثيق وفاته في سجلات نظام الأسد بتاريخ 30/9/2016، بصفة مدني. وهي لائحة تم الحصول عليها بالتعاون مع “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا”، تحتوي 7953 اسماً لضحايا من مختلف الأعمار، بينهم 125 طفلاً، و63 أنثى، قتلهم النظام في معتقلاته، إما فور اعتقالهم، وإما بعد تعذيبهم جسدياً ونفسياً.
حاول أهل اللاعب “جهاد قصاب” معرفة مصيره دون أن يحصلوا على أي نتيجة، كما أنّ ابتزازهم بالمال مقابل معرفة مصير ابنهم دفع أحد أقاربه لدفع الأموال دون تحصيل أي خبر، إلّا أنّ تسريب اسمه من بين قوائم القتلى تحت التعذيب بدّدت أمل أهله بوصول خبر سارٍّ عنه في يوم من الأيام.