#########

الضحايا

من قاع الأسد إلى قاع البحار.. حين يختار السوريون الغرق!


تم تسجيل بيانات لـ 497 سورياً من بين اللاجئين الذين ابتلعهم المتوسط، منهم 219 انطلقوا من الشواطئ التركية، و278 غرقوا في وسط المتوسط ممن انطلقوا من ليبيا وبعض شواطئ شمال إفريقيا

28 / آذار / مارس / 2019


من قاع الأسد إلى قاع البحار.. حين يختار السوريون الغرق!

 

 

 

*أحمد طلب الناصر- مع العدالة 

 

 

أثارت صورة الطفل “إيلان” وهو جثة هامدة ملقاة على رمال شاطئ مدينة “بودروم” التركية في 2 سبتمبر 2015 حزن واستهجان كل من تابعها وتابع قصص الهروب السوري من الموت بالقصف إلى الموت بالغرق؛ إذ وجّه ذلك المشهد أنظار العالم إلى المآسي الملاحقة للسوريين أينما مضوا وحيثما حلّوا.

نعم، تصدرت الصورة وسائل الإعلام حول العالم ومواقع التواصل الاجتماعي وأثارت صدمة للرأي العام، ولكن قليلون الذين أشاروا إلى المجرم الحقيقي الذي ألقى بأجساد السوريين إلى البحار، أغلبها لم يتم انتشالها وظلّت مجهولة، وتحوّلت طعاماً لكائنات البحر.

 

  • الخيار المُرّ بين قاع الأسد وقاع البحار:

يكفي المرء أن يتساءل عن السبب المرعب الذي يدفع بالسوري إلى ركوب الموج، برفقة أكثر من خمسين آخرين بواسطة قارب (بَلّم) مخصص لحمل عشرة ركّاب، ليدرك حجم المخاطر المحيقة به داخل الجحيم السوري الذي أفلت من براثنه.

بدأت رحلات الموت تلك بالتزامن مع الحرب المدمّرة التي شنّها الأسد على الشعب السوري المطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية؛ وبعد تبنّي النظام لمبدأ “الأسد أو نحرق البلد” لم يترك أمام السوريين سوى خيارين لا ثالث لهما: إما الاحتراق مع البلد أو القبول بمصير آخر وإن شَكّل الموت إحدى مآلاته الحتمية.

وما إن تخلّص السوريون من قبضة النظام ولاذوا بالفرار من أجهزته العسكرية والأمنية حتى تلقّفتهم عصابات التهريب إلى أرض الأحلام والسلام المنشود (أوروبا) لتنتزع منهم ما يملكون من نقود، وغالبيتهم استدانها من قريب أو صديق ليدفعها ثمناً لصعود قارب الموت، وكأنهم يدفعون ثمن خلاصهم الدنيوي.

 

 

  • دروب الغرق السوري:

معظم الذين تعرضوا للغرق كانوا قد انطلقوا من الشواطئ التركية متّجهين صوب الجزر اليونانية منها، والتي لا يستغرق الوصول إلى بعضها أكثر من نصف ساعة من الزمن؛ أما البعض الآخر فسلكوا دروباً بحرية أخرى انطلقت من سواحل الدول العربية في الشمال الإفريقي، قاصدةً كلّ من إيطاليا ومالطا بشكل رئيس.

وعلى الرغم من قرب المسافة بين نقاط الانطلاق والوصول إلا أن الرحلات المنتهية بحوادث الغرق سجّلت النسبة الأعلى على باقي الرحلات التي آلت نهاياتها إلى الوقوع بقبضة خفر السواحل وإرغام بعضها على العودة من حيث انطلقت.

تعود الأسباب الرئيسة لغرق معظم السوريين إلى الأعداد الكبيرة التي تحملها قوارب التهريب غير المهيّئة أساساً للسفر أو النقل السياحي، وغالبها كانت عبارة عن “طرادات” مطاطية معبّأة بالهواء أو قوارب صيد صغيرة غير مجهّزة بوسائل النقل البحري والإنقاذ. أما الأسباب الأخرى فتعود لطمع المهرّبين وإهمالهم لوضع المهجّرين والأحوال الجوية السائدة، وغالباً ما يتم الاعتماد على أحد الركّاب بقيادة مراكب الموت.

 

  • ضحايا الغرق وصعوبة حصر المفقودين:

على الرغم من نشر أخبار حوادث الغرق على وسائل الإعلام بشكل متواصل إلا أن أعداد الغرقى السوريين لا تزال مجهولة وأضعاف الذين سُجّلت أعدادهم في مراكز التوثيق ومنظمات الهجرة، تماماً كأعداد المجهولين من ضحايا تعذيب النظام داخل السجون والمعتقلات.

وآخر الإحصاءات المتعلّقة بضحايا الغرق صدرت من مركز “تحليل بيانات الهجرة العالمي” التابع لمنظمة الهجرة العالمية “IOM” في ألمانيا، في شهر مارس/ آذار الجاري؛ إذ قام المركز بجمع بيانات كاملة عن السوريين الذين غرقوا في البحر المتوسط منذ العام 2014 حتى اليوم.

 

 

فتم تسجيل بيانات لـ 497 سورياً من بين اللاجئين الذين ابتلعهم المتوسط، منهم 219 انطلقوا من الشواطئ التركية، و278 غرقوا في وسط المتوسط ممن انطلقوا من ليبيا وبعض شواطئ شمال إفريقيا.

وتبيّن من بين السوريين الغارقين وجود 67 طفلاً، منهم 53 شرق المتوسط (تركيا) و14 في وسطه (من شمال إفريقيا)، ولا تعكس تلك الأرقام المسجلة الواقع مطلقاً، وتبقى أقل من الأرقام الحقيقية كما أسلفنا.

وتلاقي عملية الحصول على معلومات دقيقة عن الغرقى صعوبة بالغة نتيجة العديد من العوامل أهمها عدم العثور في معظم الأحيان على جثث الغرقى أو بطاقات تعريفهم الشخصية، وفي الكثير من الحالات تبقى جثث الضحايا في الماء ولا يتم كشفها، ما يعني عدم إمكانية الحصول على بياناتها أو توثيق جنسيات وأعداد الأشخاص الغارقين بصورة دقيقة.

وتتمثل الأسباب الأخرى التي تواجه توثيق أعداد الضحايا بشكل دقيق في تعدد خطوط الهجرة واتساعها والسرية التي تُحاط بها هذه الرحلات والأسلوب الذي تتجاوب فيه المؤسسات المسؤولة عن إنقاذ المهاجرين في البحر، والكثير من العوامل التي تعتبر مؤثرة جداً في إخفاء الوفيات بين المهاجرين.

وقد نُشرت انتهاكات فاضحة ارتكبتها بعض الأطراف الدولية المسؤولة عن حماية وإنقاذ المهاجرين في الشواطئ الأوروبية، وأبرزها كانت حادثة غرق سفينة للاجئين قرب السواحل الجزيرة الإيطالية (لامبيدوزا) في أكتوبر/ تشرين الثاني 2013، والتي راحت السلطات الإيطالية والمالطية تبادلان التهم بينهما حول التأخر في عملية الإنقاذ، ما تسبب في غرق السفينة التي كانت تقل حوالي 500 شخص، غرق منهم 268 شخصاً وتم انتشال 26 جثة فقط.

وفي التفاصيل أن السفينة “ليبرا” من البحرية الإيطالية كانت على بعد أميال فقط من هؤلاء اللاجئين ولكنها لم تساهم بعمليات الإنقاذ رغم نداء الاستغاثة الذي استمر لساعات. نداء الإغاثة الأول القادم من المركب المنكوب توجه إلى مكتب خفر السواحل الكائن في روما وقام المجيب على النداء برمي مسؤولية الإنقاذ على الحكومة المالطية، علماً أن الإيطاليين هم الأقرب جغرافياً إلى القارب.

ولاحقاً تم نشر مقطع فيديو يصوّر كامل تفاصيل غرق المركب أمام نظر البحرية الإيطالية دون التدخّل في إنقاذ الركاب الذين تبيّن لاحقاً بأن السوريين يشكّلون ما يقرب من ثلث عدد الغرقى.

 

  • من قصص الموت فوق الأمواج:

كثيرة هي القصص المأساوية التي رواها ناجون من حوادث الغرق شهدوا بأمّ عينهم كيف سحب البحر أجساد أبنائهم وأقاربهم وأصحابهم، لكننا سنكتفي بسرد إحداها هنا كما وردت على لسان أحد الناجين:

“كانت التاسعة ليلاً بتوقيت تركيا، وقال لنا القبطان إن رحلتنا هذه سيسجلها التاريخ كون وصولنا من سورية إلى مرسين لم يستغرق سوى ساعات. قال لنا القبطان أيضاً إن القارب جديد، والوصول لبر الأمان على الشواطئ القبرصية مضمون وسهل. هنا تشاورت مع أقارب لي كانوا معي في الرحلة أنه علينا احتياطا السؤال عن سترات نجاة أو إطارات نستخدمها في حال حدث أي طارئ، ففعلنا، لكن القبطان ثار وجن جنونه وصار يصرخ ويقول لنا إننا نريد دب الرعب بقلوب الناس، عندها التزمنا الصمت.

 

 

بدأ الناس بركوب القارب، وكانت أولى المشاكل أن العدد الإجمالي للركاب كان 150 شخصاً، وانطلقنا بالفعل وكان البحر هادئا جدًا، وبدت الرحلة سلسة ومريحة، لكن وبعد ساعة ونصف الساعة من الإبحار بدأت الأمواج تعلو والبحر يهيج، وبدأنا نشعر بالخطر شيئا فشيئًا. وأنا كنت جالساً في مقدمة القارب والأمواج تضرب بشدة. سمعت صوت تحطم الألواح الخشبية ورأيت المسامير تتطاير في الماء، وعلا صراخ الناس وبدأوا يطلبون من القبطان الرجوع، لكنه ظل مصراً على متابعة الرحلة.

قرابة الساعة الثانية والنصف ليلا رضخ القبطان لطلب الناس وصراخهم، والتف بهدف العودة باتجاه الشواطئ التركية. وهنا بدأت المشكلة الثانية، حين بدأت المياه تتسرب بشدة إلى داخل القارب وتعطلت المضخة المسؤولة عن تفريغه.

بدأ اليأس يضرب قلوب الناس. خرجت لأرمي نفسي في الماء كي أريح نفسي من معاناة الانتظار على القارب، وأموت بسرعة في الماء كوني لا أجيد السباحة أبدًا. وعند نزولي للماء بدأ القارب بالميلان، بعض الناس رموا بأنفسهم باتجاه ميلان القارب فانقلب عليهم، وأشك أن أحدًا منهم نجا. وفي الماء وجدت قطعة خشب من بقايا القارب وقلت في نفسي متسائلًا هل من الممكن لقطعة الخشب هذه أن تكون حبل نجاتي؟ فتمسكت بها وكل ما يجول في ذهني هو الموت”.

 

  • نظام الأسد هو المسؤول:

خلال جميع مراحل التاريخ الحديث، شكل السوريون النسبة الأكبر من الأشخاص الذين أجبروا على الهجرة باتجاه أوروبا، والمحظوظون منهم كانوا من الناجين من الغرق ولكنهم ما زالوا يواجهون ظروفاً صعبة في الدول التي وصلوا إلى شواطئها، في حين فقد الكثير منهم حياتهم في رحلات قوارب الموت.

الدافع الرئيس لمواجهة السوريين ذلك المصير المحتوم كان الخوف من الموت بواسطة آلة حرب النظام وغارات طائراته، فأجبروا على الهروب والخوض في مغامرة الهجرة عبر البحر، والمقامرة بأرواحهم.

 

ونظراً لذلك، يعتبر النظام السوري المسؤول الأول عن غرق مئات السوريين خلال السنوات الثماني الماضيات. ويتحتّم على المجتمع الدولي إضافة ملف الغرقى السوريين إلى باقي ملفات انتهاكات النظام داخل الجغرافيا السورية ليُصار إلى محاسبته حسب القوانين الناظمة لتحقيق العدالة في قضايا جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان.

 

لحظة غرق أحد اللاجئين السوريين  

 

 

 

المزيد للكاتب