#########

الضحايا

“62 عاما” لم تعفِ “أم علي” من تهمة “جهاد النكاح” في محاكم الأسد


كلام الجدة "أم علي" لم يؤثر إطلاقاً على منحى التحقيق لدى القاضي الذي اعتاد على تجاهل دموع الأمهات البريئات، وصارت من مهامه إلصاق أيّة إدانة بهن تحقيقاً لمصالح أسياده في "نظام الأسد"

04 / آذار / مارس / 2019


“62 عاما” لم تعفِ “أم علي” من تهمة “جهاد النكاح” في محاكم الأسد

 

 

*المصدر: زمان الوصل

 

في 14 شباط/ 2016 تم اقتيادي للمرة الأولى إلى قاضي الإرهاب الثامن “سامر عيد” في العاصمة دمشق، قيدوا يديّ برفقة خمسة عشر سيّدة معتقلة بجنزيرٍ حديدي وبطريقةٍ مهينةٍ للغاية، رغم أن المسافة بين قسم شرطة كفر سوسة ومبنى القضاء العسكري في حي المزة لم تكن طويلة، إلّا أنّها كانت طويلةً جداً بفعل شتائم وألفاظ ضابط وعناصر الشرطة العسكرية بحق النسوة اللواتي غالبيتهن لا يعرفن لماذا هن محتجزات في سجون الأسد.

في حافلة نقل المحتجزات المُسيّجة بشبكٍ حديدي التقيت الجدة “أم علي”، التي تنحدر من وسط مدينة حمص، حينها أذكر أنني خاطبتها بالجدة كونها تبلغ من عمرها اثنين وستين عاماً، ناهيك عن وقارها وهدوئها الملفت للانتباه، يملأ وجهها التجاعيد المُعبرة عن ثقل الحياة.

كانت تحاول أم علي الحفاظ على قوتّها، إلى أن وصلنا إلى مبنى القضاء، هناك كان يتواجد “ملازم أول” يسير بين النسوة المحتجزات ويوجه لهن كلاماً مهيناً صعب الوصف، اقترب من “أم علي” قائلاً لها بصوت عالٍ “أنتِ كمان ما بدك النظام” ومُشبّهاً إياها بفتيات المراقص بشكلٍ مُستفز حتّى انهارت بكاءً، ومع ذلك استمر بالصراخ عليها دون أن يراعي سنها فابتلعت دموعها عنوةً لتتخلص من ملافظه السوداء.
في القاعة الرسمية للمحاكمة أوقفنا القاضي “سامر عيد” جميعنا جانب الحائط، وجهنا للحائط، كما كان يقف أطفال المدرسة أثناء ممارسة الإرهاب بحقهم من معلمي البعث.

وصل دور “أم علي” وقالت للقاضي ما جرى معها، كان ابنها مجنداً إلزامياً في صفوف قوات الأسد، وكانت وظيفته عنصراً في أحد الحواجز العسكرية بأطراف مدينة حمص، أخبر والدته عبر جهاز الجوال أنّه يتوق لطعامها، وكونها قريبةً منه قررت أن تطهو ما يطيب له، وحين وصلت للحاجز “مكان وظيفته” لم تجد العناصر ذاتهم، طوال الليل كانت الاشتباكات والمواجهات بين الجيش الحر وجيش النظام على أشدها، هناك من لاذ بالفرار، وهناك من فضل الانشقاق والانضمام للجيش الحر، سألت أم علي عن ابنها، فأمر قائد الحاجز باعتقالها فوراً دون نقاش واقتادوها إلى فرع الأمن العسكري بحمص ثم إلى الفرع الرباعي المعروف بـ”البالونة” بتهمة الكتم الجنائي عن ولدها والمساهمة في هروبه من خدمته العسكرية والتحاقه حسب وصفهم بـ”التنظيمات الإرهابية”.

كلام الجدة “أم علي” لم يؤثر إطلاقاً على منحى التحقيق لدى القاضي الذي اعتاد على تجاهل دموع الأمهات البريئات، وصارت من مهامه إلصاق أيّة إدانة بهن تحقيقاً لمصالح أسياده في “نظام الأسد”.

تابع القاضي أسئلته موجّهاً للجدة “أم علي” تهمة ممارسة “جهاد النكاح” مع “الإرهابيين”، حسب وصفه، كان وقع الكلام ثقيلا جداً على المحتجزات الواقفات جانب الجدار، بدأ الهمس يظهر علينا، ومنا من لم تسيطر على نفسها وضحكت بصوتٍ مرتفع، كيف يمكن أن تمارس هذه الجدة “جهاد النكاح”؟

بكل بساطة وعفوية أجابت “أم علي” بلهجتها المحكية حالفةً بالله “صدقني يا سيدي أن جهاد ابن جارتنا فائزة، لكن نكاح لا أعرفه أبداً وأول مرة أسمع به”، لتضج القاعة بصوت ضحك القاضي المستهزئ بجواب الجدة مُعيداً توجيه التهمة التي لم تعرف مضمونها الجدة في تلك اللحظة.

رغم تيقن القاضي من براءتها إلّا أنّه قرر إيقافها “زوراً وبهتاناً” في سجن عدرا المركزي بتهمة الكتم الجنائي عن فلذة كبدها الذي لم تسمع عنه أي خبر، إضافةً لتهمة “جهاد النكاح” التي تُعد إساءة للعدالة في كل العالم ليس فقط بقضاء نظام الأسد.

التقينا في باحة سجن عدرا المركزي، كانت السيدات المحتجزات قبلنا يسألننا عن أسباب احتجازنا والتهم الموجهة إلينا، أجابت كُلّ منا بدورها، إحدى الفتيات تكلّمت عوضاً عن الجدة فارضةً بأسلوبها المُقلّد الضحك على وجوه الحاضرات، وهنا اندهشت الجدة من ضحكنا، سألت لماذا نضحك، أجبناها وشرحنا لها معنى تهمة “جهاد النكاح”، إلى اليوم أتذكّر ردّة فعلها العفوية وأبتسم، حيث وضعت يدها على وجهها والحياء يملاً وجنتها وقالت “لك يخرب بيتهن أنا ختيارة كبيرة”، قالت إحدى الفتيات مازحةً موجهةً الكلام للجدة “نعلم أنهم كاذبون، أنتِ من القواعد يا جدتي”، استنفرت الجدة وقالت حذرةً “اصمتي يا ابنتي، من قال لكِ أنّني قاعدة، إن سمعوا كلامك قتلوني”، فأعادت فرض الابتسامة على وجوه كُل الحاضرات، نسوا للحظات أنهن محتجزات في سجون الأسد الإجرامية، السجون التي لا تُلقي بالاً ولا تراعي طفلا ولا كبيرا.

 

المادة من المصدر