#########

الضحايا

الموت في كلّ لحظة: قصة واقعية


في الثورة السورية عشرات الألوف من القصص الحقيقية التي وقعت لسوريين حقيقيين في السجون ومراكز الاعتقال ومراكز الشبيحة ومخيمات اللجوء. نحاول في هذا القسم إلقاء الضوء على بعضها، كأمثلة وليس للفرادة.

31 / تموز / يوليو / 2018


الموت في كلّ لحظة: قصة واقعية

 

المصدر: مع العدالة

 

 عمار حسين الحاج*

 

في السابع والعشرين من شهر أيلول لعام 2013، تمام السابعة والنصف صباحاً حيث كنت أطعم عصافيري كعادتي في كُلِّ يومٍ قبل خروجي للعمل في ورشةٍ للخياطة في الحي نفسه، وصوت فيروز يتهادى في مساحة بيت أهلي العتيق، اقتحم أربعة عناصر من ميليشيا الدفاع الوطني التابعين لعضو مجلس الشعب (وريس اليونس) المسؤول في تلك الفترة عن القطاع الشرقي لمدينتي سلمية وريفيها الشمالي والشرقي، مدججين بالسلاح وبدون أي تعريف أو توضيح هاجوا وماجوا في المنزل تفتيشاً وتعفيشاً وتخريباً وبالأخص غرفتي وتحت إشهار السلاح في وجوهنا أنا وأهلي لم نستطع حتى استطلاع الأمر ولا هويتهم أو إلى أي جهةٍ ينتمون، واقتادوني في حالة خطفٍ واضحة فقد كان أمام البيت ثلاث سياراتٍ اثنتان منهما سيارات دفع رباعي محملة برشاش (دوشكا) والثالثة سيارة صالون بمقعدين وجيب خلفي، زجاجها مغطى بالسواد (زجاج مفيم) والعناصر منتشرين على طول شارعنا، وأدخلوني السيارة وكان في داخلها ثلاث شُبَّان يافعين مقيدين للخلف وأحدهم الدم ينزف من أنفه، خاطبني السائق بدون أن ينظر إلي، وحتى الآن لا أتذكر وجهه، وما أذكره منه جانب وجهه الأيمن وطرف نظَّارته الشمسية وهو يبتسم ويقول: ” وأخيراً؟؟” وهذه الكلمة التي كانت بمثابة طلقةٍ في الرأس فلا تحمل إلَّا الاحتمالات السيئة لما سيأتي بعد ذلك .

 

في تلك الفترة من عام 2013 وتقريباً ما بين الشهر السادس وحتى الشهر العاشر كانت أكبر حملة اعتقالات في مدينة السلمية وريفيها الشمالي والشرقي حيث كنتُ أعمل قبل اعتقالي على توثيق كل الاعتقالات التي طالت المدينة منذ بداية الثورة وكان كمعدل وسطي في تلك الحملة يتم اعتقال ما يقارب عشرة شبان ورجال ونساء، في عمليات خطف بواسطة عناصر مجهولي الوظيفة والمركز التابعين له حيث كان في المدينة عدة ميليشيات مسلحة تعمل لصالح النظام، وكل ميليشيا تعمل بشكل مستقل عن الآخرين وحتى عن القيادات الأعلى، وكل ميليشيا لها مرازها العلنية أو السرية وفي كل مركز يوجد معتقل صغير سري للغاية، وهذه المراكز هي منازل كبيرة أو مزارع أو (فلل) كانت هذه الميليشيات قد احتلتها احتلالاً رغم أنوف أصحابها أو مستغلين هجرة أصحابها خارج البلد، أو أن ملكيتها تعود لأحد المعارضين للنظام، وهناك مراكز تم طرد أصحابها منها تحت سطوة السلاح .

 

وبحسب ما علمتُ لاحقاً قام أهلي بالسؤال عني في كل مراكز هذه الميليشيات وحتى في الأفرع الأمنية المعروفة ولكن لم يجدوا لي أي أثر، ولم يصلوا أي معلومة تدل على مصيري، وهذا ما حدث ويحدث حتى اللحظة في كل المدن السورية فلا يوجد شيء اسمه اعتقال بالمعنى الدقيق للكلمة طالما الذي يقوم بالاعتقال مجهول الهوية والوظيفة والقائد، فتكون بالمطلق عملية اختطاف وتغييب قسري وليس اعتقالاً.

في السيارة وبعد صعود العناصر إلى سياراتهم وإغلاق الأبواب تم تقييد يديَّ وقدمي بإنشوطة بلاستيكية مع تعصيب عيني ورموني في جيب السيارة الخلفي، وهنا تأكدتُ بأنني ذاهبٌ للعدم فكُلُّ شيءٍ مجهولٌ لدي وذاكرتي مليئةٌ باعتقالاتٍ حدثت وكنت قد وثقت أغلبها على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) قد تمت بهذا الشكل واختفى أثرهم بعدها ومنهم حتى اللحظة مصيرهم مجهول.

 

اقتادونا إلى أحد مقرَّات (وريس اليونس) بحسب ما استطعت معرفته لاحقاً، وهذا المقر يقع غربي المدينة في بيت كبير من طابقين ضمن مزرعة زيتون تبعد عن الطريق العام (حماه_سلمية) حوالي” 500 متر” تقريباً باتجاه الجنوب، تقع بين المدينة وقرية (الكريم)، وفور دخولنا إلى المقر اُستُقبِلتُ بصفعةٍ مباغتةٍ من رجلٍ قوي البنية، كان اسمه (دريد خلوف) والذي كان بمثابة اليد اليمنى ل (وريس اليونس)، وعلى إثر ارتطامي بالجدار القريب اُنتزعَ الناب الأيسر من مكانه في فمي، وبعد عدة صفعات نزعوا لي ثيابي وعلقوني في وسط السقف من يدي وبدون أن تلمس قدمي الأرض، وبدأوا بضربي على كامل جسدي بالعصي والهراوات وأنابيب المياه ( الخضراء) وكان التركيز بالضرب على العضو الذكري، فصرت أحاول تفادي الضربات عليه بثني أرجلي للأعلى والاستدارة بجسدي بالاتجاهين وبسرعة محاولاً التغطية على العضو الذكري، وهذا ما جعل تسلُّخاً يحدث في منطقة معصم اليدين بسبب ثقل الجسم المعلَّق في الهواء منهما، وقتها لم أسمع أصوات تعذيبٍ لأناسٍ غيري، رُغم أننا كنَّا تسعة شبابٍ أدخلونا سوياً إلى المقر، سبعةٌ مِنَّا لم يكن يتجاوز أحدهم السبعة عشر سنة، بينهم شاب عمره ستة عشر عاماً ومصاب بسرطان المثانة، وبعدَ حوالي نصف ساعة من الضرب وأنا مشبوح، سمعتُ صوتاً خشناً يقول :” هاد مو ضرب، هات هالبارودة لفرجيكن كيف الضرب بصير” ، كان صوت (وريس اليونس) بنفسه، حيث قام عنصرين بلف قدميّ بحزام البندقية (كلاشينكوف) وشدهما جيداً إلى جسم البندقية، وأنا في نفس وضعية الشبح ( التعليق من اليدين ) وصار يضربني بانبوب المياه ( الأخضر الابراهيمي) كما يُطلق عليه في كل الأفرع السورية، على كل جسدي وخصوصاً على منطقة العضو الذكري الذي صرت عاجزاً عن حمايته بعد شدِّ قدمي إلى البندقية التي يثبتها عنصرين بقوة، والتي أحدث حزامها فيما بعد جُرحاً عميقاً في طرف الساق الأيمن السفلي وجُرحاً أصغر في الساق الأيسر، وبعد أكثر من ساعتين وأنا معلق بدأ التحقيق مع الاستمرار بالضرب والشتائم، حينها لم يسألني وريس إلا عن علاقتي بالمجموعات المُسلحة، وكُنت أُنكر هذا الكلام وأثبت له عملي في مجال الإغاثة للنازحين في المدينة والحراك السلمي والتظاهر، ولكنه لم يكترث لكلامي وإنما أرادني الاعتراف بالسلاح، ولم أكن لأعترف بهكذا أمر ليس لي علاقة به، وهنا أحضر شاب صغير بالعمر من الشبان الذين أحضروهم معي في نفس السيارة، وشَهِدَ عليَّ زوراً بالعمل المُسلَّح، وبعلاقتي ببعض الأشخاص المعروفين في المعارضة المسلحة من أبناء المنطقة، وطبعاً هذه الطريقة المُتبعة في كل الأفرع الأمنية في تسجيل اعترافاتٍ بالعمل المُسلَّح للناشطين المدنيين ليثبتوا أنهم يحاربون الإرهاب وهؤلاء النشطاء ليسوا إلَّا مسلحين ومخربين، ولكني لم أعترف بالتهمة الموجهة لي زوراً ، فقرر تحويلي إلى فرع المخابرات الجوية في مطار حماه العسكري.

 

بقينا ليلة في المقر وهنا استطعت التعرف إلى الشُبَّان الآخرين، رُغم أني كنت فاقد الحراك وأحس بأن جسدي قد أصابه الشلل، أذكر أنَّ أحد العناصر أحضر ماءً للشرب فشرب الجميع وعندما  وصل دوري، وبالكاد استطعت الجلوس قال لي إن كُنتُ عطشاً، وأشرت له بالإيجاب فرشقني بالماء في وجهي، وهو ينعتني بكل الألفاظ السيئة ويوصفني بالخائن والشيوعي وبانتمائي لحركة (حماس)، لم أفهم وقتها كيف استطاع هذا العنصر الجهبذ ربط الشيوعي بالخائن بحركة المقاومة الفلسطينية حماس، في شخصي، لدرجة أني لم أستطع منع نفسي من الابتسام لعدم قدرتي على الضحك بسبب خدر شفتيّ، فركلني ببوطه العسكري على صدري لأقع مغشيَّاً علي .

 

في الصباح الباكر تم سوقنا إلى فرع المخابرات الجوية في حافلةٍ ومع خروجنا من المقر إلى مكان توقف الحافلة وأنا عارٍ وحافٍ، ومقيّد من يدي.. استطعتُ سرقة النظر والإحاطة بتضاريس المكان، ورؤية الطريق العام من بين الشجيرات المتناثرة حول المقر، في الحافلة بعد جلوسنا في المقاعد، جعلوا رؤوسنا منحنيةً اتجاه صدورنا حتى لا نرى شيئاً مع بعض اللكمات على الرقبة والظهر، وأغاني تمجيد سيد الوطن تصدح بأعلى صوت من مكبرات الصوت في الحافلة.

وقبل نزولنا من الحافلة، تم تغطية أعيننا بالعصبات القماشية، وتمَّ تسليمنا لفرع الجوية، وهناك سجّلوا أسماءنا ، ووزعونا في ممرٍّ بين الغُرف، واقفين باتجاه الجدار، والرطوبة عالية في جوٍّ خانقٍ للجسد والروح، لا تسمع فيه سوى أصوات الجلادين الشاتمين الضاربين وأصوات من يتلقوا التعذيب، وبقينا أكثر من ساعتين في هذا الحال، حتى تم اقتيادي إلى الحمَّام ( مكان التعذيب ) وبدون أي سؤال أو أي تحقيق، تمَّ تعليقي شبحاً خلفياً على عامودٍ خشبي مثبت بشكلٍ أفقي، بعد ربط يدي إلى العامود وأنا أقف على عجلة سيارة لتُؤمن ارتفاعاً لجسدي ليستطيع الجلَّاد ربط يدي جيداً، وبعدها ضرب العجلة بقدمه بقوة لأسقط في الهواء ويداي مفتولتين بعكس اتجاههما الطبيعي لحركة مفاصل الكتفين، وهذه الحركة تُشبه تنفيذ حكم الإعدام، والفرق الأول بأنَّ الحبل يكون مُلتفاً على العُنق، أمَّا هنا، فالشنق من اليدين، وفي الحالتين، تشعر بأنَّ روحكَ تُنتزع من جسدك، أمَّا الفرق الثاني، فهو أن المشنوق من رأسه يموت ميتةً واحدة وينتهي الأمر، أما الشبح في الأفرع الأمنية، هو الشعور بالموت في كل لحظة، بدون أن يحدث إلا في بعض الحالات .

 

حيث روى لي شبيح من قرية (قمحانة) في ريف حماه كان لقبهُ ( السريع ) حيث كان موقوفاً في المطار لتأديبه لسلب بعض الدراجات النارية على طريق قريته، عن شاب عمره أربعة وعشرون عاماً من قريته، يمتلك محلَّاً للأجهزة الخليوية يقع أمام مقر للجان الشعبية.. وأنَّ هذا الشاب كان موقع الشك بأنه هو من ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي تحركات وانتهاكات اللجان الشعبية في القرية، وما يقوموا به من سلب وخطف من القرى المجاورة الثائرة على النظام، فقام (السريع) مع صديقٍ له بخطف الشاب وتسليمه لفرع الجوية في المطار، وأن الشاب فارق الحياة على عامود الشبح في الساعة الأولى للتحقيق، وأنهى السريع حديثة بجملة لا أنساها : ” على نفس العامود الذي كُنتَ مشبوحاً عليهِ من ساعات مات جاري، الحق عليه فهو ما خبرني أنه يعاني من ضعف بعضلة القلب وما خرج ينشبح”، وضحكَ مُستهزئاً.

 

عندما تم تعليقي للمرة الأولى أذكر كلام العنصر الجلَّاد بأنه استغرب كل آثار التعذيب على جسدي الذي تلقيته في مقر وريس اليونس وقال وهو يضحك : ” جايبينك معذب جاهز ” وصرتُ أتخيل منظر جسدي وكيف تبدو آثار التعذيب عليه فلم تُتَح لي فرصةٌ لأتفقده، ومع تصاعد الألم والإحساس بتمزق مفاصل المعصم والكتفين، صرخت عدة مرَّاتٍ للجلاد لأقول له بأنني مُستعدٌ للتوقيع على أي اعترافاتٍ يرونها مناسبةً لهم لكنه كان يضحك ويقول لي بأن دوري لم يأتِ بعد، وأنهم ليسوا مستعجلين على اعترافاتي غير المهمة لهم أساساً، وعندما ضاق صبره في اليوم الثاني من تعليقي وأنا لم أتوقف عن الصراخ كُلَّما استطعت، أمسكني من شعري الطويل وصفعني صفعةً قوية على أذني أحدثت ثُقباً متهتكاً في غشاء الطبل، ما أفقدني السمع مؤقتاً، وحدث التهاباً شديداً في الأذن أدى إلى خروج سائل القيح من أذني بشكلٍ مُستمر.

 

في الليلة الثالثة، أدخلوني إلى غرفة المحقق ( الرائد عقبة) ونزع العصبة القماشية عن عيني وأنا أهتز من شدة الجوع والعطش، والألم فظيع في كل جسدي. كان المحقق طويلاً بشاربين عريضين وأسنانه الأمامية كبيرة وفجوة واضحة في وسطهما. صار يسألني عن نشاطي منذ 2011 وحتى اللحظة، وكانت إجابتي عن مشاركتي بالحراك السلمي والمدني في التظاهر والإغاثة وعلى موقع ( الفيس بوك ) وكان التحقيق وديَّاً حتى عندما سألني عن شعار إسقاط النظام إن كنت ممن يطالبون به في المظاهرات وأجبته بنعم، فلم يبادر بأي ردة فعلٍ عصبية ولكن عندما سالني عن علاقتي بالمجموعات المسلحة وأنكرت وأنا أقدم له أدلة على كلامي، هنا قام وثارت ثائرتهُ وضربني بكل قوة على العضو الذكري بقدمه لأقع مغمياً علي وصحوت على وقع ركلاته لجسدي الذي بدأ يذوي، وبعد أن صحوت قام عنصرٌ بمسك يدي وأبصمني على أوراق لم أعرف ما هو مكتوبٌ فيها.

لا أعرف وقتها رغم كلِّ غضبه من التحقيق معي قال للعنصر خذه وارمه في الغرفة أي ليس في الحمَّام، وهما كانت أول فرصةٍ لي لأرى أناساً آخرين طيبين في هذا الجحيم .

 

فتح العنصر باب غرفةٍ ورماني داخلها، فوقعتُ على الأرض ولم يكن لجسدي أية قوة لأنهض أو حتى لأعدِّلَ جلستي فبادر رجلٌ متوسطٌ في العمر أذكر أنه من قرية ( طيبة الإمام ) بوجهه الطيب المُبتسم بإسنادي على رجليهِ وتمسيدي وهو يقرأ آياتٍ قرآنية، ولا أعرف كيف اجتاحت روحي موجةٌ عارمة من البكاء بجسدٍ مشلول لم يعرف الراحة ولا الطعام والماء منذ أربعة أيام.

 

كُنَّا في الغرفة حوالي خمسة عشر معتقلاً، وأغلبنا قد تعرض للشبح الخلفي حيث يكون واضحاً من تأثر المعصمين والكتفين واتجاههما للداخل وليس كما نراهما بالوضع الطبيعي مع عدم قدرة المعتقل على رفع اليد للأعلى حتى ليحك رأسه ولا يستطيع أن يرفع زجاجة الماء ليشرب وإنما كل عمل يحتاج إلى اثنين لتنفيذه، هكذا كان التفاعل بيننا لنتغلب على ما صاب أجسادنا من عطب وهو ما يواسي أرواحنا الجريحة بسكين القهر.

 

لا يوجد في الغرفة أية فرش للنوم ولا حتى أغطية تكفي الجميع وأغلبنا عارٍ من الثياب، فنتناوب على الأغطية القليلة والنوم وحتى ندفئ بعضنا بالنوم متقاربين بغطاء واحد، هذا الوضع العام في تلك الزنازين. أمَّا أنا، في تلك الليلة الأولى، التي سمح لي فيها بالنوم مستلقياً، لم أستطع أن أغفو بسبب سيل القيح الخارج من أذني اليُسرى، وجرّاء الضجيج الذي كنت أسمعه داخل جمجمتي بسبب تلك الحالة الالتهابية والتي تزداد سوءاً ساعةٍ بعد ساعة، هي والإصابة التي في ساقي اليمنى وقد تقيحت بسبب عدم العلاج وبسبب القذارة الموجودة في كل مكان، وكلما حاولتُ النوم يمنعني ألم كتفيّ ومعصميّ، كلُّ شيءٍ ضدي، يحرمني النوم في أكثر اللحظات بحاجةٍ إليه .

 

ما كان يواسيني هو ما قالهُ لي ذلك الرجل الطيب في محادثتنا المتقطعة والمرتجفة عندما قلتُ  له بأنهم جعلوني أبصم، فأخبرني بأنَّ من يبصم يعني أنه انتهى من التحقيق وسيتم تحويله إلى مقر الشرطة العسكرية ومنها إلى القضاء المدني، فقد كان هذا اعتقاله الثاني وصار له خبرة في تراتبية وعمل التحقيق ونتائجه.

 

في الصباح وحيث كنت على جلستي منذ الليل نصف جالس ومستنداً إلى جدارٍ رطبٍ، وحيثُ إنَّ نافذة الزنزانة واطئةٌ قليلاً، يتسنى للواقف أن برى شارعاً صغيراً في الخارج ونقطةً للحراسة. همسَ شابٌ بأنَّ (وريس اليونس) قد أتى إلى الفرع واستدلَّ عليه من سيارته ( بيك آب جي إم سي ) حديث، وبعد حوالي ساعتين وقد كنتُ قد بدأت أشعر بالدم يسري في أصابعي محاولاً تمرينهم على الحركة من جديد، حتى سمعت اسمي حيث أحد العناصر يصرخ بهِ، لم أعرف بما أُفكر، هل أفرح لأنهُ احتمال الخروج من هذا الجحيم كما أخبرني ذلك الرجل، أم أحزن لأن هناك مليون احتمالٍ سيءٍ سيصيبني بعد خروجي من هذا الباب ؟؟ ولا مفر من الخروج.

 

أدخلني العنصر مكتب المحقق مرةً ثانية وهذه المرة كان المحقق ورجلاً آخر يلبس بيجامة وحذاء رياضي حليق الذقن والشارب، طوله حوالي متر وخمسة وستين سنتمتراً، ممتلئ الجسم ويلبس ساعةً وخاتم ذهبيين، وذو تسريحة شعر أنيقة، وهنا بدأ المحقق بإعادة التحقيق معي ولكن بغضبٍ أكبر لأنني بحسب ما بدأ به حديثه كذبت عليه ولم أعترف بالحقيقة كاملة، وأنا أنكرت كل ما ذكره لي عن تهمٍ واجهني بها من جديد، وكنتُ قد لمحت على سرير المحقق كومةً من الأوراق، عرفتها فوراً كانت مسودات لقصائدي والنصوص التي كنت أكتبها وأطبعها في منزلي، وانتابني شعورٌ بالقهر لأن العناصر الذين اعتقلوني قد صادروها وهي كل ما أملك من سنين عمري، وقف الرجل الآخر خلفي وكان يمسكُ بيده أحد تلك الأوراق وسألني إن كنتُ قد تعرضت للملاحقة الأمنية من قبل، فأجبته بالنفي مستطرداً بأنهم هم الذين لديهم هكذا معلومة وبدقة، فقال لي بأنني أكذب وبأنني قد دونت هذه الملاحقة على الورقة التي في يديه، وعندما قرأ الجملة التي تحتوي هذه المعلومة تذكرت ذلك النص وكنتُ قد كتبته في عام 2007 وهو قصة قصيرة، فانفجرت بالضحك رغماً عني وأنا أقول له بأنني كاتب وليس كل ما أكتبه هو تجربة شخصية، وصحوتُ من إغماءتي بعد قليل وأنا ممددٌ على أرضية المكتب والهراوة تفعل فعلها بظهري، حتى وقفتُ من جديد، وصاح للعنصر ليأخذني إلى الحمَّام ولكن هذه المرة علقني العنصر بعد  أن عصب عينيّ على باب أحد الغرف في الممر ،حتى فجر اليوم التالي، ولا أعرف بالضبط في أي ساعةٍ أنزلوني واقتادوني للمحقق من جديد، حيث رأيتُ حقيبتي على السرير مع أوراق البارحة، وكان المحقق يبتسم عندما دخلت فسألني مباشرةً عن الحقيبة، فأجبته بأنها تخصني وأنا صنعتها بنفسي، فابتسم أكثر، وأمسك بيديه أقنعةً واقيةً شفافة، وقال مستنتجاً بما أن هذه الحقيبة لي فالأقنعة التي وجدوها بداخلها لي أيضاً، وأخرج أيضاً قطعاً دائريةً قصديرية محفورٌ عليها ” صنع في السعودية ” ولم أعرف ماهية هذه القطع، وهنا أجبته بصوتٍ عالٍ بأن كل ماذكرته في التحقيق أعترف به ولكن هذه الأقنعة ليست لي ولن أعترف بها، وبالتأكيد هم عناصر اللجان الشعبية الذين اعتقلوني هم من وضعها في حقيبتي، لم يُطل صبراً فركلني بقدمه بكلِّ قوته دافعاً بجسدي خارج مكتبه وأمر العنصر بشبحي حتى الموت.

 

بقيت معلقاً حوالي ثلاثة أيام كاملة تخللها عدة ساعات أنزلني فيهم عنصرٌ مناوب في ساعات الليل المتأخرة مغافلاً المساعد المناوب في الفرع أثناء نومه، ولا أعرف من هو هذا العنصر ولماذا قام بهذا الفعل نهائياً ورفض رفضاً قاطعاً أن يُعرفني بنفسه، قال جملة واحدة بعد إنزالي عن عامود الشبح :” اصمت مثل الميت واجلس على عجلة السيارة” وفي الصباح عاد وعلقني كما كُنت، في ذلك اليوم كان ( المساعد سومر) وهو أقذر وحشٍ في فرع المخابرات الجوية في حماه، وكل من اعتقل من مدينة حماه وريفها لابُدَّ أنه صادف أو سمع بتعذيب وإجرام هذا المساعد الشاب، وأغلب الإعدامات التي حصلت في هذا الفرع كانت تنفيذه، فهو المسؤول عن تنفيذ أقسى وسيلة تعذيب وهي (شبح الطيَّارة) وهي عبارة عن شد أطراف المعتقل الأربعة إلى أربع زوايا متباينة، واليدان معلقتان بعكس اتجاه حركة الأكتاف الطبيعي، ليصبح الجسد مثل الوتر وشكل المعتقل المشبوح يشبه شكل الطائرة، والوجه للأسفل، ثُمَّ يصعد المساعد على ظهر المشبوح ويضغط برُكبتهِ على أسفل الجمجمة بكلِّ عزمه حتى تتكسر فقرات رقبة المعتقل ويُصاب بالشلل بسبب تخريب النخاع الشوكي المار ضمن فقرات الرقبة هذا إذا لم يحدث الموتُ فوراً.

 

هذا ما حدث مع المعتقل خالد القصير واستشهد بعد أقل من 24 ساعة من شبحهِ (الطيَّارة) في تاريخ 3- 10 -2013 .

أنزلني المساعد سومر من على عامود الشبح وجرني من شعري الطويل في كل الفرع بحثاً عن مقص ليقص لي شعري كما كان يتحدث، وعاد وعلقني مرةً أخرى، ثُمَّ ألبس وجهي بوعاء ممتلئٍ بمياهٍ قذرة يلتصق بأطراف الوجه كوسيلة تعذيبٍ مختلفة وهي الغرق، فشربت الماء الموجود فيه من شدة العطش ومثَّلتُ الغرق، نزع الوعاء عن وجهي وأمر العنصر بأن يصحيني فانهال الأخير على أضلاع صدري باللكمات التي تجعل الحجر يصحو، وأعاد الكَرَّة ، بإغراقي ست مرات، وأنا أشرب وأختنق وأحاول أن لا أغيب عن الوعي كي أوفر على جسدي بعض الضرب لكن في النهاية نال أضلاعي السُفلية رضوضاً لا تُشفى أبداً، وفي آخر النهار، أو هكذا أتوقع، أنزلني المساعد وأخرجني إلى الممر، وأجلسني أمام الجدار بلا حراكٍ لأكثر من ساعة، كانت أصوات التعذيب تأتيني من داخل الحمَّام، أصعب ألف مرةٍ مما تلقيتُه كجرعات تعذيب؛ وعلى غفلةٍ مني أحسست بشعري يُنتزع من جلدة رأسي، وأحدهم يجرني منه في الممر ذهاباً وإياباً مرتين، ثُمَّ أمرني بالوقوف، وقال :” هلق رح ورجيك شوفة إذا ما بتعترف رح تصير متلن “. وهنا، نزع العصبة عن عينيّ وفتح باب الحمَّام وهو ممسك برقبتي من الخلف، يأمرني بأن أرى وأتمعنَّ بالمشهد، كانوا أربعة شُبَّان واحدٌ مشبوحٌ من يديه، وآخر قدماه معلقتان على عامود الشبح، والثالث مشبوح على سُلَّمٍ معدني في وسط الحمام والدماء تسيل من وجههِ ويديه، والرابع واقفٌ بوضعية الاستعداد ووجهه للحائط وظهره ملئٌ بالندوب الحديثة؛ والأربعة لا تسمع منهم سوى الأنين المكبوت.. رماني على أرضية الحمَّام ودموعي تنهمرُ، من هول المشهد، مسلخٌ بشريٌّ حقيقي، لا يمكن أن أنساهم أبداً، أُغلق باب الحمَّام وبقيتُ مُكوَّماً على الأرض حتى عاد بعد قليل المساعد وبيده ( بانسة ) وصار يمررها على أظافر قدمي مهدداً لي بخلعها، كان الإرهاق قد تجاوز عتبة احتمالي للعذاب، وروحي مثل جسدي أتلفها أنين المعتقلين الذين يتلقون التعذيب، فهددني باعتقال أختٍ لي كانت قد اعتقلت بتهمة التظاهر قبل أشهرٍ في فرع أمن الدولة في حماه لساعاتٍ وأُفرجَ عنها، وبأنه سيحضرها ويحقق معها أمامي، فقلتُ لهُ بأنني سأعترف بأنَّ أمي إرهابية ولكن لا تقتربوا من إخوتي.

 

اقتادني إلى مكتب الرائد “عقبة” وأجلسني على الأرض وأحضر أوراقاً جعل عليها بصمة إبهامي الأيسر، ثلاثُ بصمات لا أنساها، وبدون أيِّ تحقيقٍ يُذكر بعد كل هذا التعذيب لأجل أن أعترف. لم يسألني أيَّ سؤالٍ، وأعادوني إلى الغرفة بجسدٍ شبه مشلولٍ، وقدمي اليُمنى بعد أن تعفَّن جرحها، صار لونها أزرق أقرب للسواد، وتنزُّ بالقيح، بالإضافة لرضوض أضلاعي التي تمنعني من التنفس جيداً، غير نهر القيح الذي يسيل من أذني وروحي التي تأنُّ قهراً وتموت في كُلِّ لحظة.

 

أتممتُ ثمانية عشر يوماً في فرع الجوية إلى أن تم تحويلي إلى فرع الشُرطة العسكرية في حماه.. بقيتُ فيه مدة يومين، حيث حقق معي قاضي الفرد العسكري “فراس دنيا”، وحرر بحقي أول مذكرة توقيف بجرم حيازة السلاح رغم عدم ضبط أي سلاح معي حينما اعتقلت، ولكن الأوامر تأتي مع الموقوفين من المخابرات الجوية، فهي الأقوى من السلطة القضائية، وبعدها تم تحويلي إلى سجن حماه المركزي لتتحول أوراقي بشكل تلقائي من المحكمة العسكرية في حمص إلى محكمة قضايا الإرهاب في دمشق، بجرم إنشاء منظمة إرهابية بعد شهرين تماماً من توقيفي .

 

اعتقلت لمدة أربع سنوات وشهرين في سجن حماه المركزي، حدث خلالهما عدة أحداث ثورية داخل السجن، أولهما استعصاء لعد ساعات في الشهر الثامن من العام 2015 بعد أن قامت إدارة السجن بإنشاء مفرزة تحقيق داخل السجن وتعذيب المعتقلين وتعريضهم لكل أنواع الإهانات، وبعدها، بعدة أشهر، قام المعتقلون بإضرابٍ عن استلام مادة الخبز، احتجاجاً على هزلية وصورية محاكمات محكمة الإرهاب، وكانت نتائجه، عدم حضور الجلسات في دمشق إلَّا كيفياً. والحدث الأكبر والأبرز في تاريخ السجن والثورة عموماً، هو الأستعصاء الذي حدث بتاريخ 2\5\2016 بسبب امتناع المعتقلين عن تسليم إدارة السجن والشرطة العسكرية خمسة معتقلين موقوفين لصالح محكمة الميدان العسكرية لإعادتهم إلى سجن صيدنايا لتنفيذ حكم الإعدام بهم، وذلك بعد حدوث حالتين قبل هذا التاريخ وقد تمَّ التأكد من تنفيذ حكم الإعدام.

 

استمر الاستعصاء تسعة أيام، تخلله حصار خانق، انقطاع كامل للتيار الكهربائي وماء الشرب والتعرض للقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والحي إثر سيطرة المعتقلين على كامل السجن، ما عدا مكاتب الضباط، وبعد مفاوضات قاسية جداً بين النظام بأعلى مستوياته مع لجنة من المعتقلين وأنا كنت الإعلاميين وجسر التواصل مع عدة مؤسسات إعلامية وسياسية ثورية لتنسيق العمل على كل الأصعدة الممكنة محلياً ودولياً، للوصول إلى نتائج إيجابية بأقل خسائر ممكنة أمام همجية وتاريخ النظام في تعاطيه مع استعصاآت السجون السياسية، وكل ذلك، بسبب وجود أجهزة خليوية بحوزة المعتقلين، بشكل سري، كان قد تم تهريبها للسجن عبر رشوة ضباط وعناصر الشرطة.

 

وبعد الاتفاق على الإفراج عن المعتقلين، ضمن خطوات وشروط من الطرفين، توقف الاستعصاء بتاريخ 12\5\2016 الساعة الثانية صباحاً، بعد بدء الإفراج عن المعتقلين كدفعات وبضمانة النظام نفسه الذي مثله في وقتها وزير الداخلية محمد الشعار ووزير العدل نجم الأحمد .

والبقاء في حالة هدنة من طرف المعتقلين حتى يتم يتنفيذ كامل الاتفاق بالإفراج عن كل معتقلين سجن حماه المركزي .

 

ونتيجة لهذا الاستعصاء أُفرج حتى اللحظة عن حوالي 345 معتقلاً بدون شروط، مع تغيير كادر محكمة قضايا الإرهاب بدمشق، مرتين، وإعادة النظر في محاكماتها الصورية، وبسبب هذا الاستعصاء ورضوخ النظام لشروط المعتقلين ولو بشكل جزئي، وهي المرة الأولى في تاريخه الإجرامي الطويل، استطاع المعتقلون تغيير خطاب النظام ولأول مرة، مع وصف المعتقلين وعلى لسان ثلاثة من وزرائه وهم محمد الشعار ونجم الأحمد وعلي حيدر، بالمعتقلين السياسيين، وليس كما يصفهم في العادة، بالسجناء الجنائيين، وهذا كان أكبر مكسب سياسي جعل ملف المعتقلين يتصدر المشهد الدولي .

.

* مواليد 1979  ــ مدينة سلمية