بدأ المعتقلون في سجن حماة المركزيّ في السابع عشر من حزيران 2015، إضراباً مفتوحاً عن الطعام، احتجاجاً على الأحكام الجائرة التي أصدرتها محكمة مكافحة الإرهاب في دمشق بحقّ نحو 50 معتقلاً من معتقلي الحراك الشعبيّ ضد النظام.
30 / أيلول / سبتمبر / 2018
الجزء الأول : أهلية المعتقلين للقيام بالاستعصاء المدني
*عمار حسين الحاج
سبعة أعوامٍ كاملةٍ، منذ أن اقتلعت الأجهزة الأمنية أظافر الأطفال في درعا، بعد أن خطّوا على الجدران شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، لم يتوقف النظام السوريّ يوماً عن ارتكاب المجازر، ولم تمنعه أية قوّةٍ في العالم عن تصفية السوريين في سجونٍ سرّيةٍ أو معلنة، ولم تتوقف ميليشياته عن التفنّن في ارتكاب المجازر بحقّ المدنيين، باستخدام كلّ أصناف الأسلحة، وملء سجونه وأفرعه الأمنية بخيرة أبناء البلد، حيث زجَّهم في آلة التعذيب، والقتل تحت التعذيب، والاختفاء القسري، وما زال فعله السادي مستمراً حتى اللحظة بتغطيةٍ دولية واضحة، على كل جرائمه وخصوصاً من الحليف والعرَّاب الروسي.
ملف التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا ليس بجديدٍ. فمنذ اغتصاب حافظ الأسد سدّة الحكم، إثر انقلابٍ عسكريٍّ في عام 1970 (الحركة التصحيحية)، لم توفر سلطته العسكرية أحداً. زجّ الآلاف من معارضيه السياسيين، من يساريين وإسلاميين وقوميين عربٍ وكردٍ وغيرهم، في المعتقلات. وقام بإعدام حوالي 1200 سجينٍ في سجن تدمر الصحراويّ عام 1980. وتوّج حملته تلك، التي استمرّت لسنواتٍ، بمذابح مدينة حماة عام 1982، حيث قضى ما يقارب 40 ألف مدنيٍّ، وتمّت تصفية الآلاف وتهجير الكثير من أبناء المدينة، ليعلن نفسه بعد ذلك حاكماً مطلقاً لسوريا، وليذكّر السوريين أنه موجودٌ، ولا تعلو كلمةٌ على كلمته. وصولاً إلى تصفياتٍ عشوائيةٍ طالت كثيراً من الشباب الكرد في انتفاضة عام 2004.
ومن أهم الأحداث التي مرَّ بها ملف الاعتقال، هو الاستعصاء الكبير في سجن حماه المركزي، عام 2016 ولذلك لأهمية نتائجه، وخصوصاً التزام النظام ولأول مرةٍ في تاريخه الاستبدادي، ببنود الاتفاق الذي نتج عن الاستعصاء، مع العلم بعدم التزامه التام ومحاولاته الدائمة في نقضه، ولكن هذا الالتزام النسبي يعتبر حالةً فريدة ونادرة، عند نظامٍ لم يلتزم بأي تعهدٍ تبناه منذ سيطرته على السلطة في سوريا.
وللحديث عن الاستعصاء، أسبابه، أحداثه، نتائجه وتداعياته المحلية والدولية، لا بُدَّ من سرد بعض الأحداث التي سبقت الاستعصاء، وكان لها دور مهم في تهيئة الأرضية المناسبة لنجاح الاستعصاء .
الاضراب عن الطعام
بدأ المعتقلون في سجن حماة المركزيّ في السابع عشر من حزيران 2015، إضراباً مفتوحاً عن الطعام، احتجاجاً على الأحكام الجائرة التي أصدرتها محكمة مكافحة الإرهاب في دمشق بحقّ نحو 50 معتقلاً من معتقلي الحراك الشعبيّ ضد النظام. وقام المعتقلون بإنهاء الإضراب في اليوم السادس من انطلاقه .
وهذا الإضراب احتجاجاً على صدور أحكامٍ بالإعدام على عددٍ من المعتقلين في السجن، من محكمة قضايا الإرهاب في دمشق، ضمن محاكم هزلية وصورية، فكان الخطُّ العام للمطالب يتمحور نحو المطالبة بإعادة النظر في أحكام المؤبد، والإعدام، والأحكام الميدانية أيضاً، التي صدرت وتصدر بحقَّ المعتقلين الذين نقلوا من سجن صيدنايا، والصادرة من محكمة الميدان العسكرية .
مع العلم بأنَّ كل التهم الموجهة للمعتقلين تتعلَّق بالإرهاب، وغالبية المعتقلين هم من سجناء عامي 2011 و 2012، حيث لم يكن وقتها استعمال للسلاح في النشاطات الثورية . ومعظم المعتقلين من المشاركين في المظاهرات والحراك الثوري السلمي، ومع ذلك، فقد كانت التُهم الموجهة إليهم هي القيام بالأعمال الإرهابية، وتمويلها، وتسهيلها، والمشاركة في حمل السلاح، وقتل عناصر الأمن والجيش والشرطة .
وبعد حضور ومقابلة رئيس لجنة المصالحة الوطنية في حماه، “محمود سباهي”، والذي وعد بمجيء وزيري المصالحة والعدل، إلى السجن، للاطلاع على مطالب المعتقلين والسير في تلبيتها؛ ولتخلي المنظمات الدولية، والحقوقية والإنسانية والمؤسسات الثورية عن المعتقلين وقضيتهم العادلة، وبعد تحمل المعتقلين عناء الحرمان من الطعام، والشتم والتعذيب من شرطة السجن لستة أيامٍ، ورفضهم لأي مساعداتٍ أو سلل غذائية، وتمسكهم بالمطالبة بمحاكمةٍ عادلةٍ ونزيهة، أنهى المعتقلون الإضراب في الثالث والعشرين من حزيران .
ولكن، كانت النتائج كارثية، فبعد أيامٍ قليلةٍ من إنهاء الإضراب، وبأمرٍ من إدارة السجن، قام عناصر الشرطة وهم بكامل عتادهم في فجر أحد الأيام باقتحام بعض من الزنازين، وسحب 24 معتقل من أسرَّتهم بالضرب والشتائم، ونقلهم إلى سجونٍ أخرى، كعقوبةٍ لاتهامهم من قبل إدارة السجن بأنهم المحرضون على الإضراب .
استعصاء 2015
بعد الإضراب عن الطعام، وقيام إدارة السجن بتغيير سياستها بالتعامل مع المعتقلين، من أجل ضبط أي تحرك مدني يُطالب بحقوق المعتقلين، بدأت بنقل عدد من المعتقلين إلى سجون أخرى، في محافظات مختلفة، وقامت بالتشديد على السجن من جميع نواحي الحياة، والتضييق حتى أقصى الحدود؛ كان أهمها وأشدها، إنشاء فرع للتحقيق داخل السجن، مع المخالفين من المعتقلين، واستخدام التعذيب كأداة للتحقيق، كما هو الحال في الأفرع الأمنية، مع الحبس في المنفردات. على ذلك، وصلت ذروة هذا التعذيب في شهر آب من العام 2015 ضمن المنفردات والزنازين الجماعية، أي من المعاقبين، إلى أكثر من خمسين معتقلاً، تشوهت أجسامهم بآثار الضرب والتنكيل.
كان يتولى إدارة السجن مجموعة من الضباط والشرطة، ومفارز خاصة بالأفرع الأمنية والمخابرات، وهم :مدير السجن : العميد زياد المحمد /دير الزور/ المعاونون: النقيب يوسف علي الوحيش /السفيرة/- النقيب ياسر /حلب/- النقيب عماد العلي /جبلة/- النقيب عبد المعين/كفر الطون- حماة/ مسؤول الحرس الداخلي: المساعد ياسر الجاسم /خطّاب- حماة/ بالإضافة إلى عدد من عناصر الشرطة المدنية وعناصر المفارز الأمنية.
وهذا ما أدى إلى قيام المعتقلين باستعصاء في الرابع عشر من آب 2015، استمر لساعات، حيث قام النظام بحصار السجن، باستقدام عناصر من حفظ النظام، ومحاولة اقتحامه باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، والقنابل الدخانية، صمد خلالها المعتقلون، متحدين هذا الحصار بدون كهرباء أو ماء، متمسكين بمطالبهم المحقة، بشكلٍ سلميٍّ وأخلاقي.
عقب هذا الاستعصاء الذي قام به أكثر من 1200 سجين في سجن حماة المركزي احتجاجاً على المعاملة السيئة والتعذيب والشتائم التي يتلقونها من الضباط المسؤولين عن السجن، رضخ النظام لمطالب عديدة قدمها السجناء، من بينها تغيير مدير السجن، وتعديل اللجنة الأمنية، ونقل السجناء المعزولين في سجون انفرادية إلى سجون عامة، وقدوم لجان وزارية من وزارتي الداخلية والعدل للتحقيق في التصرفات الأمنية والأحكام الجائرة وغير القانونية بحقوق السجناء في الفترة الأخيرة.
بعد إنهاء الاستعصاء بعدة أيام، جاءت لجنة مشكّلة من إدارة السجون، ومن وزارتي الداخلية والعدل، وبحضور رؤساء الأفرع الأمنية في محافظة حماه، وقامت بالتحقيق مع المعتقلين والكشف على آثار تعذيبهم، والأسباب التي أدّت إلى قيام المعتقلين بالاستعصاء.. وبعد تثبيت أقوال المعتقلين وضباط إدارة السجن، تم إغلاق التحقيق بعد الوعود بمحاسبة المسيئين من الشرطة والضباط، وإحالة المطالب المتعلّقة بالأحكام الجائرة والمحاكمات الهزلية والصورية إلى وزارتي العدل والدفاع، ليتم معالجة ملفات دعاوى المعتقلين الموقوفين والمحكومين من قبل محكمتي قضايا الإرهاب في دمشق، ومحكمة الميدان العسكرية. ولكن بقيت هذه الوعود فارغة، بدون مضمون، أو أي خطوة حقيقية تم التعهد بحلها من قبل النظام.
.
.
المزيد للكاتب :
الموت في كلّ لحظة: قصة واقعية